خطوب الهمة ودروب الاستمرارية

Cover Image for خطوب الهمة ودروب الاستمرارية
نشر بتاريخ

تخطر على بال أحدنا فكرة؛ برنامج أو سلسلة كتابية.. فيعاهد نفسه، نظرا للحماس الذي يختلجه تلك اللحظة، أنه لن يتوقف حتى ينزل فكرته على أرض الواقع؛ فترى النور بعدما اكتمل نضجها بين جنبات خلاياه الدماغية، آملا أن تجد من القراء من تفيده أو تلبي بعض حاجياته، أو أن تقع بين يدي مبدع فيطورها ويضفي بصمته عليها وينشرها (كأن يحررها من قيد الأوراق إلى بحبوحة الشاشة)، أو تجد من يناقشها؛ فيفك أغوارها ويقرأ ما بين سطورها، ويروي غرسها بالتحليل والنقد البناء، فالفكرة التي لا تناقش تموت.

 هي أحلام وردية تداعب صاحب الفكرة في البدايات، فيفلح أحيانا في تحقيق بغيته، لكنه يخفق أخرى، وبعد توالي الأيام تخمد جذوة الحماس الذي كان بمثابة محرك الفكرة الأساس، ثم يتسلل الملل ليصبح سيد المشهد، وتتوالى التحديات والظروف، وأقواها تحديات النفس ومقاومة الفتور والانطفاء التدريجي والجنوح نحو وسادة الكسل الناعم والسبات المبني للمجهول.

قد تصل الظروف أوجها في الصعوبة لكنني أكاد أجزم أنه مهما بلغت الموانع المادية من قوة فإنها تبقى ضئيلة أمام العامل النفسي الذاتي، ذلك أن التاريخ أثبت أن الإرادة القوية والهمة العالية الكامنة في وجدان الإنسان لا تنال منها الظروف القاسية شيئا ولا تنكصها أعتى الأسلحة. وهنا يراودك السؤال: كيف أستجمع شتات نفسي الفاترة وأخرج من دائرة الإحباط القاتلة؟

هناك عوامل مثبتة على دروب الاستمرارية، مشجعة على الثبات في طريق ممانعة الهوى والتحكم في النفس، نورد بعضها كالآتي:

الصحبة الصالحة، التي تحثك بقولها وتنهضك بحالها، فتهدم سطو النفس القوي مفعولها على الإنسان.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “اقتُرِحَ عليك الاقتحام، وعُينت لك الرفقة.. فأين إرادتك من الإرادات؟ وأين همتك من الهمم؟ إن كانت لا تحركنا الإهابة القرآنية فلعل ملاحظة أقراننا في الإنسانية والإسلام، السابقين الراقين في مرافع الإحسان، توقد فينا حمية المنافسة” [1].

 – الصبر: واصبر وما صبرك إلا بالله (النحل، 127)، والتذلل بين يدي الله والاستغاثة به، كي يلهمك الصبر على المسير في جمع قطع مشروعك المشتتة.  

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “هذا الصبر الذي هو أبو الفضائل وأمها ما هو؟ قال أئمة اللغة: ‘الصبر الإمساك. والصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه’. الصبر صبران إذاً: صبر على وصبر عَن. «صبر عن» هو الإمساك عن ما يقتضي العقل والشرع الإمساك عنه. و«صبر على» هو حمل النفس وإرغامها وإن كرهت على أفعال وأخلاق وعبادات وأقوال يأمر بها العقل والشرع.

نهي النفس عن الهوى يشبه زجر الدابة ومنعها من علفها. وذاك هو الأصل اللغوي لفعل «صبر». قالت العرب: صبرتُ الدابة أي حبستها عن العلف.

هكذا نرى أن معالجة النفس وزجرها عن اتباع الهوى وعن زلقات الغريزة وخُطْوات الشيطان وحملها على الطاعات لله عبودية له وخوفا منه وتصديقا بوعده هي الخصلة التي تدور عليها سعادة المرء وشقاؤه، خسرانه أو فوزه” [2].

 – التجديد: عامل مهم لمحاربة الملل، وهو لا يكون بالضرورة بأشياء مكلفة ماديا، لكنه قد يتأتى بأفعال بسيطة تكسر روتين الحياة وتساعد على الاسترخاء والتأمل وشحذ الهمة.

ونختم بالتأكيد على ضرورة وجود مشاريع في حياة كل فرد، فمن لم يكن له مشروع في هذه الحياة فهو بالضرورة يخدم مشاريع الآخرين. يقول الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله: “ليست الهمة أن يقف الرجل عند حجابه، بل الهمة أن يَفتِق شراع الحجاب، ويتدلى إلى الرحاب. صوارم الهمم تفعل ما لا يمر بالأوهام. حجب الغيوب لا تشق إلا بسهام القلوب” [3].

وقال الإمام عبد السلام ياسين: “وعلى قدر همتك تُعطى. فأي شيء طلبت في عمرك يا إنسان! أما سمعت نداء ربك الكريم [ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ] [4] وليس الطلب بالتمني، لكن بالتشمير والهجرة إلى الله بعد التوبة والإنابة مع المنيبين” [5].


[1] عبد السلام ياسين، الإحسان، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 1، ص 106.
[2] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 1، ص 14.
[3]  أحمد الرفاعي، البرهان المؤيد، ص 48.
[4]  غافر، 60.
[5]  عبد السلام ياسين، الإحسان، م. س. ج 1، ص 107.