حوار من القلب مع الدكتورة مريم ياسين نجلة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

Cover Image for حوار من القلب مع الدكتورة مريم ياسين نجلة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

طرقنا الباب من جديد، بيت الأكارم الذين عاشوا الوفاء مع أهل الوفاء حتى صار لهم طبعا لازما وسجية غير متكلفة، وجلت قلوبنا من فتح جراحات شوق لا تلتئم إلا باليقين بما أعده الله بفضله لعباده المخلصين، ورقت مشاعرنا بتذكر أحباب لنا مضوا أحببناهم في الله الذي جمعنا بعطائه على محبتهم، ما نسيناهم وكيف نقوى على نسيانهم؟ طرقنا الباب، الذي ما رد طارقا ولا طالبا ولا محتاجا، بيقين من يطرق الباب وهو يعلم أنه لن يرد، وكيف يرد من ربي على القصد والأدب والذوق وكافة المروءات؟ كيف يرد من الذوق له سجية والأدب له خلة لا تنقطع؟

قوبلنا بترحاب أهل الكرم وبأدب أهل العلم والتربية، أيقنا أن الذي خلف، مع فكر نير متجدد ودعوة ممدودة مائدتها داخل الأمة وجسم حي متحرك فاعل داخلها، هذا العيار من الذرية باركهم الله، لا يمكن إلا أن تستمر دعوته ويخلد ذكره في العالمين بتوفيق الله الكريم.

محاوِرتنا هذه المرة، الدكتورة مريم ياسين، نجلة الإمام المجدد والمربي المتفرد، عبد السلام ياسين وزوجه الصالحة الطيبة للا خديجة المالكي، أدام الله على الأمة مددهما، ورفع في المحسنين ذكرهما، ونفع بهما العباد والبلاد.

الأخت الفاضلة والحبيبة اللبيبة للا مريم زادها الله فضلا ونورا وأهلها ومن تحب، السلام عليك ورحمة الله وبركاته، نسأل الله أن يلهمنا جميعا الصبر والسلوان على فراق الحبيبين سيدي عبد السلام وللا خديجة رحمهما الله، بصفتك البنت الصغرى لسيدي عبد السلام كيف عشت في حضن الوالدين والإخوة الكبار؟؟

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه.

يصعب الحديث على الوالدين الحبيبين خصوصا بعد وفاة الصدر الحنون الذي واسانا أيما مواساة بعد فقد الحبيب، أحس فعلا بقول الشاعر في الشطر الاول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم.

عشت في كنفهم أياما وسنينا وكانوا لي نعم الأبوين، ووجود الإخوة الكبار لا شك خفف كثيرا من ألم الفراق، فقد كانوا ولا يزالون نعم الإخوة جزاهم الله خير الجزاء.

خصك والدك برسالة هلا حدثتنا عنها؟

خصني والدي الحبيب برسالة، لكنها كانت بطلب مني، لم يكن ذلك اختيارا منه ولا تفضيلا على باقي إخوتي، بل أعطى لكل واحد من إخوتي نسخة منها، وطلب تعميمها ليستفيد منها كل مؤمن ومؤمنة وقف على تلك الكلمات النيرة المشرقة.

نتحدث عن السلوك الجهادي للمؤمنات، والحبيب المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله كان يؤصل لمصطلحاته ويرفض الدخيل منها، وفي إحدى جلساته مع المؤمنات في الجماعة تحدث عن ابتغاء الحياة الطيبة في الدار الآخرة، وأحال المؤمنات على التخلق بالخصال التي ذكرت في سورة الأحزاب. بالنسبة لك كيف ساعدك والدك ومصحوبك على هذا الأمر؟

والدي الحبيب يدل على الله تعالى بحاله قبل مقاله فجميع تلك الخصال في سورة الأحزاب متجسدة فيه، وكان لا يمل أبدا من ذكر الآخرة والموت حتى صار الحديث عندنا عن الموت هو الأمر الطبيعي، يوصينا دوما بالتقوى فهي أصل الخير وتحتاج لمجاهدة وصبر وذكر ودعاء، والأمر ليس بلقلقة اللسان ولكن هو سلوك فردي وجماعي تباركه الصحبة وتنميه. كان يحثنا على التزام الصفات المذكورة في السورة الكريمة من صدق وصبر وخشوع وتصدق وذكر لله تعالى، كما كان يوصينا بالعناية بالقرآن تلاوة وحفظا وتدبرا.

لم يمل والدي الحبيب ولم يكل من النصح، فما كان من تقصير، فلأن الإنسان معدن النقص وما كان من توفيق فمن الله الغفور سبحانه.

ما هي العبادات التي كنت تحرصين على القيام بها بصحبة والدك رحمه الله؟

كنت أتمتع بالصلاة خلف والدي الحبيب وأفرح بمناداته لي قبيل كل صلاة.

تحدث الإمام المجدد سيدي عبد السلام رحمه الله عن مجاهدة المؤمنات للتقرب إلى الله خلال مراحلهن العمرية، وأنت للا مريم مررت بهذه المراحل في حياة المرشد الحبيب، فكنت تلميذة وطالبة وزوجة ثم أما، هل عشت تغييرا في حياتك التربوية؟ وماهي توجيهات والدك ومصحوبك لك؟

لم تفارقني توجيهات والدي الحبيب في جميع مراحل عمري، كان أبا رحيما حكيما وعارفا ينصح بدون إلحاح ويوجه برحمة بالغة، ويحثنا على طلب المعالي، وعلى فعل المستطاع لإرضاء الله تعالى، كل حسب طاقته وحسب سنه وقدراته.

للا مريم يلاحظ أن جميع بنات المرشد الحبيب رحمه الله لا يعملن في العمل الوظيفي، مع العلم أنكن جميعا حائزات على شواهد عليا. هل هو اختيار شخصي؟ أم كان توجيها من والدكن؟

هذا اختياري الشخصي، اخترت ان أرعى أطفالي الصغار مرحليا، والدي الحبيب كان يحثنا على طلب العلم وعلى قراءة الكتب، ولكنه لم يتدخل أبدا في قراراتنا فيما يخص العمل الوظيفي.

مكث المرشد الحبيب لسنوات في البيت بثقل قيمته الإنسانية وعمق روحانيته النورانية وشساعة فكره، كيف كنت تستقبلين ذلك وأنت طفلة ثم شابة؟ هل من قصص كان لها أثر في بناء شخصيتك بقيت عالقة في ذاكرتك؟

كنت أفرح كثيرا بوجود والدي الحبيب في البيت، فبعد رجوعي من المدرسة أهرع اليه وأتملى بوجهه الصبوح وابتسامته الحنون وقلبه الصفي النقي. وإن أنس لا أنس مرحه ولعبه معنا، يتسابق معنا في سطح البيت، نملأ لحيته البيضاء بورود الحديقة، نقرأ سويا آيات من الذكر الحكيم ونهديها للالة رقية رحمها الله جدتي، ولجميع موتى المسلمين. أقرأ معه أحيانا كتابا أو شعرا ويشرح لي بعض الكلمات الصعبة، نسمع سويا لآيات من الذكر الحكيم، وكان يتلذذ بسماع الشيخ رفعت رحمه الله. في رمضان وقت السحر يناديني لأسمع معه في المذياع لصوت ينادي “أعباد الله قوموا لا تناموا هذا وقت الصلاة قوموا تغنموا”.

هي حياة مع والدي الحبيب لن تكفي الكلمات لتسطيرها، وستخونني العبارات لأعبر عن تلك الأيام التي عشنا فيها السعادة حقا. جمعنا الله تعالى معه ومع والدتي الحبيبة في الآخرة، رحمهما الله ورحمنا الله بهما.

ما هي علاقتك بكتابات الإمام المجدد رحمة الله عليه؟ وما الذي أضافه لك كتابا “الإحسان” و”تنوير المؤمنات”؟ هل لك وقفات في مواضع معينة في الكتابين؟

كتابي الإحسان والتنوير لهما طابعهما الخاص. فالإحسان دقيق رفيع ينفذ الى القلب ويحرك الوجدان، كلما قرأته عشت معانيه، أحيانا أفرح وأخرى أوبخ نفسي، فهو يسمع فطرتي ويوقظ همتي ويجعلني أحاسب نفسي على تفريطي، “ابك على نفسك” هذا العنوان هو شعار أرجع اليه كلما أصابتني غفلة أو عثرة، وحب الله ورسوله هو الزاد الأعظم، ووجود المصحوب هو السند، والذكر والقرآن هما الدواء.

أما تنوير المؤمنات فأفرحني اهتمام والدي الحبيب بالمؤمنات وإفراده كتابا لهن وإن كان الكتاب للمؤمنين والمؤمنات. ومن أعظم ما فيه نظرته الشمولية والعميقة لدور المرأة وخصوصيتها وتحفيز إرادتها وهمتها لطلب الكمال.

يقول المرشد الحبيب رحمه الله: “زاد المؤمنة مثل زاد المؤمن من أجل ابتغاء وجه الله، لكن كل له عمله الصالح حسب وظيفته وكيانه الجسماني”. هل يفهم من هذا الكلام أن للمرأة خصوصية؟ ما هي برأيك؟

لا شك ان للمرأة خصوصيتها فهي مختلفة عن الرجل في تكوينها الفيزيولوجي، فهي تمر بمرحلة الحمل والولادة والرضاع، وهي مراحل تقربها أكثر من الله سبحانه وتعالى، فألمها عند الوضع واهتمامها بطفلها وسهرها مع رضيعها كل ذلك قربات وطاعة لله عز وجل لكن ذلك كله لا يلغي واجب تهممها بأحوال أمتها ومشاركتها في التعبئة والبناء.. يقول والدي الحبيب في تنوير المؤمنات: نقرأ الحافظية بمفتاح الفهم النبوي فنجدها شاملة، مسؤولية لا تنحبس في جدران بيت الزوجية وفي هموم المعاش. الدين هو رأس المقاصد وغاية الغايات، يرضع من ثدي الأمهات الصالحات القانتات الحافظات وتعهدهن لجسوم الأطفال ونباتها وغذائها وصحتها كتعهدهن للعقل الناشئ، يأمرن بالحسن ويزجرن عن القبيح ويجبن عن الأسئلة ويلقن اللغة).

قضية المرأة العظمى هي قضيتها مع ربها، كما جاء في مقدمة كتاب التنوير، لكن عبر تاريخ المسلمين عرفت المرأة انكسارا وتهميشا إن لم نقل مظلومية من قبل الفقه المنحبس الذي قزم دور المرأة وحبسها في بيتها، هذا الفقه الذي اعتمد في فتواه على قراءات ضيقة، مجزأة أو سطحية لبعض النصوص. فمثلا قراءة الفقه المنحبس لهذا الحديث “كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع” أبطأ همة المرأة في ابتغاء الدرجات العليا في الكمال. من خلال مجالستك ومذاكرتك مع الإمام المجدد رحمه الله تعالى حول هذا الأمر، ما هي قراءته لهذا الحديث؟ وما هي رؤيته لهذا الأمر؟

الكمال مراتب وهذا الحديث إنما سيق لبيان أفضلية هؤلاء النساء على نساء العالمين.

وهناك أحاديث كثيرة تتحدث عن كمال سيدتنا خديجة وابنتها المطهرة فاطمة الزهراء رضي الله عنهما. يقول صلى الله عليه وسلم: “خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد”. رواه الشيخان

وفي حديث يقول عليه الصلاة والسلام: “هذا ملك نزل من السماء لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم علي وأن يبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة”. اخرجه الترمذي.

والمهم كما قال والدي الحبيب أن تعلم النساء وتوقن المؤمنات أن الله عز وجل كما يصطفي من الرجال عبادا، يصطفي من النساء إماء وأن باب كرمه مفتوح للمرأة كما هو مفتوح للرجل وأن طاعته سبحانه وتعالى والقنوت إليه والجهاد في سبيله هي الأعمال التي تشرف بها المرأة ويشرف الرجل لأنها أعمال خالدة، تموت الحضارات ويبعث الخلق فرادى، ما يجدون عند مولاهم إلا ما قدموا).

هل تستشعرين أن كونك ابنة الإمام المجدد تربيت في حجره وعلى عينيه يحتم عليك أمورا إضافية مما قد لا تكون لمن سواك من بنات الجماعة ونسائها؟

هذه الأبوة المباركة هي منحة من الله تعالى، أسال الله تعالى ألا أكون من المغبونات في صحبتي لوالدي الحبيب. كل من رأى والدي الحبيب أو سمع كلامه فله نفس مسؤوليتي. مسؤوليتنا جميعا أن ندعو الى الله عز وجل وأن نحبب لخلق الله طريق الله عز وجل، وأن ندلهم على هذه الصحبة المباركة التي بها نرجو رحمته تعالى.

الحديث معك دكتورة مريم ياسين مشوق ونافع للأمة، ومن ظاهر حسناته أنه يميط اللثام عن قرب عن حياة من جمعنا على مأدبة العدل والإحسان، ويجعلنا نطلع عن قرب على حياة رجل أفنى وزوجه الفاضلة حياتهما في الدعوة والدلالة على الخير، وجمعا بين العلم والعمل على منوال الأكابر، ولم يمنعهما التهمم بأحوال الأمة من العناية بالأهل والولد وأداء حقوقهم في تكامل وانسيابية. نرجو أن يكون للموقع لقاءات متواصلة معك، ونستسمحك على الإطالة ونشكرك على سعة صدرك، ورحم الله الإمام المجدد سيدي عبد السلام وزوجه الفاضلة للا خديجة، ونفع الأمة بفضل الصحبة والجماعة.