الكذب على الأشخاص أو على الناس أو على الشعب حرمه الله تعالى وحرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى : “إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ”. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح :”وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا“.
كما أنه في دولة ديمقراطية محكومة بالقانون الذي يسري على الجميع يحاسب الحاكم على كذبه على الشعب إن ثبت.
وإن كان العالم اليوم تحت صناعة إعلامية أخطبوطية استهلاكية تحكمية رهيبة لا تفرق بين صدق وكذب من أجل توجيه الرأي العام طبقا للقاعدة المشؤومة (الغاية تبرر الوسيلة)، لكن خضوع السلطة في بلد ديمقراطي، محكوم بدستور ديمقراطي وبقوانين مرجعية مُجمع عليها وبسلطة تأتي عن طريق التداول والاختيار .. هذا الأمر على الأقل يعطي للشعب فرصة دورية لتحمل مسؤوليته في تزكية هذا أو معاقبة ذاك.
قد تستعمل السلطة السياسية في كل عصر الكذب على الناس في كثير من الحالات باعتباره “أسلوبا في الحكم” تستهدف من ورائه إخضاع رقاب الناس لسلطانها، أو إلهاء الشعب وصرفه عن الاهتمام بقضايا مصيرية وأساسية، أو عن المطالبة بحقوقه المشروعة، أو لصرفه عن دينه وهويته، أو من أجل كسب الوقت..
وتجند السلطة لذلك كل ما تملك من وسائل سواء حضورية أو عن بعد. الوسائل عن بعد كالإعلام المرئي والمسموع والمقروء والآن إعلام مواقع التواصل الاجتماعي. والوسائل الحضورية ما ينقله الرواة بالسند المتصل إلى أن يبث في المقاهي والنوادي والأسواق وفي كل أماكن التجمعات البشرية مهما قل العدد أو كثر، ولذلك طواقم و برامج وميزانيات ..
كيف تكذب السلطة؟
عن طريق آلية التهويل فتسلط الضوء على أمر قد يكون تافها فيتم تضخيمه وتفخيمه حتى يصبح حديث القاصي والداني فيؤدي المطلوب منه. أو عن طريق التهوين من حدث مهم جداً يجري العمل لتطويقه وإقباره بأكبر سرعة ممكنة حتى لا يسترعي اهتمام الجماهير وكي يمر كالبرق كأنه لم يكن.
أو عن طريق التشهير، خصوصا بالمعارضين لسياستها. فتعمد إلى الهجوم المجاني عليهم وتتبع عوراتهم والنبش في خصوصياتهم وعثراتهم بهدف إسكاتهم أو النيل من سمعتهم ومن تأثيرهم في الرأي العام.
أو تكذب السلطة عن طريق التمويه، وأعني استغلال واقعة حدثت فعلا أو معلومة صحيحة أو أرقام معينة ثم يتم تحوير اتجاه ذلك كله في منحى مغلف بخطاب انتقائي أو اختزالي يصب في خدمة سياسة السلطة المستبدة بعيدا عن سياق الموضوع ومساقه..
كما يمكن أن تكذب السلطة عن طريق الاختلاق. أعني اختلاق خبر أو واقعة لا أصل لها. فتُصنع في مختبر الكذب ويجند الإعلام الخادم قصد الترويج لها وكأنها صادقة، يخيل إلى الناس كأنها حقيقة على الأرض تسعى..
أو تكذب السلطة عن طريق التشويه. تشويه الحقائق وتشويه المعطيات وتشويه الأرقام في مسار خدمة أجندتها المرسومة سلفا سواء تعلق الأمر بالمدى القريب أو البعيد.
لماذا تكذب السلطة؟
تكذب السلطة لغياب المشروعية التي تجمعها بالشعب. فالسلطة غير المنتخبة ديمقراطيا وغير الخاضعة لمحاسبة شعبية مسؤولة، والتي ترى نفسها مسلطة على رقاب الناس غالباً ما تتخذ من الكذب وسيلة أساسية من أجل استمرار حكمها. فهي تكذب وتتحرى الكذب حتى يصبح منهجا في تدبيرها السياسي وغيره.
كما تكذب هذه السلطة لغياب المصداقية وفقدان الثقة بينها وبين الشعب نتيجة سنوات من إخلاف الوعود وعدم تنزيل الشعارات موضع التنفيذ..
كما تكذب السلطة لغياب معيار الإنجازية على الأرض فليس لها ما تقدمه من إنجازات ملموسة تزين الصورة وتعطي عربونا عن فاعلية ما.
كما تكذب السلطة لغياب الاستقلالية في القرار السياسي أو الاقتصادي فتعمد السلطة إلى الترويج لعكس ذلك تماما وهي في الحقيقة تابعة للغير، راهنةٌ حاضر ومستقبل البلد لمسارات وأطماع وحسابات بعيدة عن المصالح الوطنية.
كما تكذب السلطة لفشل في تقديم مبررات حقيقية لواقعة معينة فتحاول التغطية على ذلك عن طريق التضليل وقلب الحقائق وإلقاء المسؤولية على أطراف أخرى قد لا تكون لها علاقة بالموضوع.
كما تكذب السلطة أيضا من أجل التغطية على حدث مهم يجري آنيا وتخشى من تأثيره على الرأي العام أو على صورتها داخليا وخارجيا.
كما تكذب السلطة وتتحرى الكذب لغياب جهة وطنية مستقلة تستطيع كشف زيف السلطة وكذبها وتقديم الحقيقة واضحة للجماهير.
ما العمل أمام كذب السلطة؟
إذا ما ووجهت أمة ما بسلطة كاذبة أو بالأحرى كذابة، فالمسؤولية يتقاسمها الرأي العام بصفة عامة وكذلك المؤثرون في الرأي العام، الصادقون الوطنيون المؤتمنون .
فالرأي العام ينبغي أن يتحرى الصدق والحقيقة فيما يروج وأن يكون يقظا تجاه كل ما يصدر عن السلطة، وخصوصا إذا كانت سلطة مستبدة فاسدة ومفسدة.
ولا يتقبل كل ما يسمعه أو يراه. بل يبحث ويسأل ويمحص ولا يستعجل أو يتسرع في حكم أو استنتاج. خصوصا وبحمد الله أنه لم يبق الإعلام محتكرا في أيدي السلطة. لكنه مع ذلك يعج بكثير من المغالطات من كل حدب وصوب.
والمسؤولية على صناع الرأي في الأمة (أو هكذا ينبغي أن يكونوا ..) أكبر وأعظم في تمحيص الحق من الباطل، والكذب من الصدق، والمعقول من التافه من أجل كشف كل زيف وكل تحريف للوقائع ولاستغلالها البشع في تغليط الناس أو ظلمهم أو هضم حقوقهم أو التضبيق على حرياتهم وعلى أرزاقهم.
هؤلاء الذين أقصد من أهل الصدق والنصيحة والأمانة والشجاعة هم العلماء والدعاة والكتاب والصحفيون والمدونون والخطباء والمثقفون والأدباء والفنانون والسياسيون والنقابيون و الحقوقيون وغيرهم ممن له مجال يمكن أن يؤثر من خلاله إيجابيا بأي شكل من الأشكال في الرأي العام توعية وتنويرا وتوجيها وتحذيرا وتحفيزا.
وتحية لكل الشرفاء الأقوياء الأمناء، ودام العز للأوفياء
والحمد لله رب العالمين