حكاية فلسطين.. تَجذُّر يستعصي على الطّمس

Cover Image for حكاية فلسطين.. تَجذُّر يستعصي على الطّمس
نشر بتاريخ

-1-

الفصول، وهي معزولة، لا تكفي لفهم حقيقة أيّ قصّة. والأحداث، وهي منفصلة، لا تمنحك صورة مكتملة. فالوقائع لا بد أن ترتدّ إلى سياقات تعطيها “دلالة”، والجزئيات ينبغي أن تكون مشدودة إلى أصولٍ تمنحها “معنًى”.

لفلسطين حكاية مُوَثّقة يرويها التاريخ الحديث، وأصل ترتد إليه يَقُصّه الشهود العِيان الثقات، وهم أجيالٌ بالملايين من أبناء فلسطين والأمة، تواترت رواياتهم عبر سلاسل ذهبية لا يرقى إلى متن شهادتها ذرة من الشّك.

فأن تتسيّد الأكذوبة الفجّة هناك في الإعلام الغربي المتحيّز منذ بداية القصّة، وأن تُدبَّج الأضاليل الباطلة هنا في أوطان العرب ما بعد ا-لتطبيع، وأن يجري السعي الحثيث لصناعة “حقائق مصطنعة”، ومحاولة زرعها -عبر بروباجندا الإعلام والثقافة- في الوعي الجمعي للأمة، كل ذلك لن يصمد أمام الحقائق الصلبة والأصول الراسخة التي تَشُدّ القضية برمتها إلى أصل الحكاية.

-2-

لم تبدأ الحكاية أيها السادة يوم السابع من أكتوبر، ولا مع الاقتحامات المتكررة للمستوطنين المحاطين بعساكرهم المسجدَ الأقصى، ولا مع معاناة سكان الشيخ جراح وتهجيرهم، ولا اقتحامات جنين وباقي مدن فلسطين للاعتقال والقتل والهدم ومصادرة الأراضي، وكل ذلك جرى فقط خلال الأشهر الأخيرة من العام الجاري.

لم تبدأ فصول الحكاية من نقطة الحر-وب الستة التي شنتها “إسرائيل” على قطاع غزة على مدار الخمس عشرة سنة الأخيرة، مُخلّفة دمارا هائلا وشهداء بالآلاف ومعطوبين وأُسرا مشرّدة وقصصا إنسانية تدمي القلوب الآدمية. ولم تبدأ قبل ذلك مع “انتفاضة الأقصى” عام 2000 ولا حتى “ثورة الحجارة” سنة 1987، ولم تنطلق مع مشاهد القتل، ليس للمقاومين فحسب، بل للأطفال الصغار والرضّع، فمحمد جمال الذُرّة وإيمان حجّو يؤكدان أن قتل الأطفال بالعشرات، الجاري اليوم في إبادة غزة، ليس خطأ صهيونيا في القصف بل خيارا عسكريا ممنهجا.

لم تبدأ الحكاية، حتى، بانسحاب الاحتلال من غزة عام 2005، ولا قبل ذلك حين ولجت القضية نفق “التفاهمات السلمية” في أوسلو ومفاوضات كامب ديفد واتفاق غزة-أريحا بهدف وضع فخّ للفلسطينيين اسمه “السلطة”. سلطة صورية دون سلطة، دون دولة، دون سيادة، دون حقوق العودة والقدس واللاجئين والمعتقلين. ولم تنطلق مع اتفاقات التطبيع القديمة والحديثة التي هوى إليها بعض العرب منذ زيارة السادات وكامب ديفد ووادي عربة وصولا إلى صفقة القرن ومؤتمر البحرين واتفاقات أبراهام…

لم تبدأ الحكاية مع الجناة القتلة؛ بنيامين نتنياهو وإيهود باراك وشارون وأولمرت وليبرمان وبيريتز… وكل هؤلاء وغيرهم من قادة الكيان، كنستهم فلسطين عن طريقها وهي تمضي نحو التحرير. ولم تُخاط أولى خيوط القصّة مع الرنتيسي وكنفاني وعرفات وياسين والزهار وناجي العلي والشقاقي والجعبري وأبو علي مصطفى وعياش ودرويش ومشعل والبرغوتي… هؤلاء العظماء الأشاوس الذين خلّدتهم القضية في سجلّها الذهبي، وأسكنتهم الأمة موقع الصّدارة من سويداء قلبها.

-3-

وأنت في طريق بحثك عن أصل الحكاية، ستُصادفك آلاف الحكايات والحكايات؛ هذه رسومات ناجي العلي وكاريكاتيرات علاء اللقطة تعرّفك بجوهر القضية، وتلك الأغاني الوطنية لإبراهيم صالح “أبو عرب” وأناشيد ميس شلش تعرض جوهرها، وفي القلب من ذلك جهود عز الدين القسام وبطولات خليل الوزير التي شيّدت فصائل المقاومة الباسلة. ستُلاقي خنساء فلسطين “أم نضال” وهي تهب ثلاثا من أبنائها شهداء فداء للقضية (ولعلك قابلت مئات بل آلاف من النساء الشامخات مثلها). وستصادف شَيْخا كَهْلا في السبعين أو الثمانين من العمر، ولربما لَقِيته بعيدا عن فلسطين في أقاصي الدنيا هناك حيث تم تهجيره وعائلته، وستنبهر أنه مازال محافظا على مفتاح داره التي تم اغتصابها وهدمها وطمس معالمها، ولو سألته لاستعرض لك تفاصيل الدار والبيدر وأماكن شجر الزيتون والزعفران، دافعا المفتاح لأبنائه وأحفاده مُحمِّلا إيّاهم أمانة العودة. وسيستوقفك يقين وشموخ شيخ قعيد على كرسي متحرك أحيى الله به أمة من الناس هي اليوم شرف الأمة وملء السمع والبصر، وستلاقي البطل رائد صلاح وقد ارتسمت في وجهه تفاصيل المسجد الأقصى المبارك الذي ملك عليه كيانه والآلاف مثله من المرابطين والمرابطات في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.

ستجد أيضا، أن العرب في زمن مضى كانوا، وبغض النظر عن أعطابهم، يقاتلون “إسرائيل”. لا تقف مشدوها، إي والله كانوا يفعلون! يقاتلون فيَقتُلون ويُقتَلون، في 48 و56 و67 و73 و82. وكانوا يقاطعون كيان الاحتلال وهم يرفعون لاءاتهم الثلاثة الشهيرات (لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات) نعم، ادفع عنك الدهشة، كانوا يفعلون. بل كانوا يهدّدون العالم المتصهين بوقف تصدير النفط كما فعلوا عام 1973! طبعا ستتساءل مثلي: ما الذي تغيّر ولماذا تبدّل الموقف وانقلب رأسا على عقب، حتى بات الصهيوني عند حكامنا ومن والاهم حبيبا وصديقا وحليفا؟! هل تغيّر شيء في طبيعة القضية؟ وهل تحرّرت فلسطين وانتهى الاحتلال؟! على أية حال، لا تتوقّف كثيرا عند هذه الاستفهامات، فلن تجد لها جوابا منطقيا شافيا.

فلربما خارت الإرادات، أو انكشفت النيّات الدفينة، أو تغيّرت الوجوه، أو تبدّلت السياقات. لكن الأكيد أن انحدارا كبيرا، بل خطيرا، وقع، والأكيد أن القواميس لن تسعفك بعبارة لائقة لوصف ما جرى من تحوّل غير الخيانة، والآكد أن القضية هي هي لم تتغير، في طبيعتها، كما في قلوب أصحابها والمؤمنين بها.

وفي بحثك عن أصل الحكاية، ستعثر على فصل مَخْفيّ، تدفعه الأيدي السوداء المتواطئة إلى الركن القَصِيّ المظلم، كي لا يطلع عليه أحد. وفيه أن “إسرائيل” تأسّست على أسطورة “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، مرتكزة على منطلق ديني “وطن قومي للشعب اليهودي في أورشليم”. وسيكون “وعد بلفور” سنة 1917 حاسما في ولادة الفكرة وانطلاق التأسيس، ثم بدأ التشييد الفِعلي طيلة السنوات اللاحقة، حين تم إحلال الأنوية اليهودية الإسرائيلية الأولى لتحلّ محلّ الاستعمار البريطاني لفلسطين، وصولا إلى لحظة إعلان قيام “دولة إسرائيل” يوم 14 ماي 1948. هنا كان المنطلق الذي أفضى رأسا إلى نشأة احتلال إحلالي، فهو ليس احتلالا عسكريا لأرض وفقط، بل “إحلاليا” أيضا ارتكز على إحلال تجمعات وعصابات يهودية جيء بها من بقاع مختلفة من العالم، واستوطنت مكان سكّان أصليين تم تهجيرهم عنوة من أراضيهم، هم شعب فلسطين. لتبدأ قصة أبشع احتلال وأقبحه، وحكاية أقسى معاناة لشعب ذاق كل معاني الظلم والاضطهاد والحرمان.

-4-

أصل الحكاية أيها السادة إذا، أن شعبا قُطّعت أوصاله واحتُلّت بلاده وقُتّلت أجياله وشُرّدت أُسَره، وأن النسيج الاجتماعي لـ16 مليونا و300 ألف إنسان تم تشتيته؛ فجزء منه محاصر في أكبر سجن في العالم هو قطاع غزة، وجزء منه موزع بين ضفة مقطعة الأوصال ومدن فلسطينية مغتصبة تشكل اليوم “دولة إسرائيل”، وملايين البشر منهم (6 ملايين و400 ألف) طُوِّح بهم في دول الطوق في الأردن ولبنان وسوريا أو هُجّروا عنوة إلى دول متفرقة من العالم.

أصل الحكاية أيها السّادة، أن شعبا يتعرّض، بشكل يومي وعلى مدار الساعة، للظلم والقتل والقهر طيلة قرن من الزمن، وعلى أعين العالم الذي دبّجت أياديه كل تلك الترسانة القانونية والهيئات الأممية، التي قال إنها معنية بالدفاع عن شيء اسمه “حقوق الإنسان”. وأن مقاومة اجترحت الأساليب المشروعة التي كفلتها لها شرائع الأرض والسماء لمقاومة الغازي بغية انتزاع حريتها واستقلال أرضها، لتجد نفسها في عرف المنتظم الدولي، الذي داس بشكل ممنهج كل القيم النبيلة، حركات متطرفة إرهابية تقضّ مضجع المحتل!

أصل الحكاية أيها السادة، أن شعبا يُقاتل من أجل استقلاله، من أجل حريته، من أجل أرضه، من أجل قدسه وأقصاه وكنيسته، من أجل قبابه ومآذنه، من أجل أسراه ومعتقليه، من أجل حياة أبنائه، من أجل نازحيه ولاجئيه ومهجّريه، من أجل وجوده.

باختصار، أصل الحكاية أن شعبا خُيّر بين أن يموت قاعدا أو يموت قائما، فاختار أن يموت قائما مقاوما، لعله ينال الحياة التي حُرمها طيلة قرن من الزمن. وما ذلك بمُعْجِز، فواهب الحياة سبحانه “يخرج الحي من الميّت”.

تلك أصل حكاية راسخة في الوجدان، مُتجذّرة في الذاكرة.. حكاية تستعصي على الطّمس، اسمها “فلسطين”.