الصحابة الذين عاينوا أنواره وسعدوا بالفوز بالصحبة المباركة لسيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.. تربية حكيمة ويد حانية انتشلتهم من غياهب الكفر والضلال لترفعهم إلى فضاءات الإيمان والرشد.. نتركهم يحكون أروع القصص ويحيكون أجود الأحاديث.. كما تُرك للتاريخ فخر تسطير ملاحمهم على صفحات نيرة ناصعة، عسانا نتلقف الأثر ونقتفي الطريق في أدب التعامل مع النشء وحسن تربيته.
“مرني بما أحببت.. ولا أعصي لك أمرا”
طلحة بن البراء؛ غلام قذف الله في قلبه نور الإيمان برسوله، فانطلق مسرعا لرؤية طلعته البهية، وأنفاسه يكاد يحبسها طول انتظار توافد الصحابة على المسجد بين يدي رسول الله، دون أن تخر عزيمته عن تحقيق رجائه في النظرة لأجلِّ الخلق وأجملهم.
ما إن تفرق الصحابة حتى جاء إلى رسول الله يلصق به ويقبل قدميه.. وببراءة حديث عهد بالإيمان قال: “يا رسول الله مرني بما أحببت ولا أعصي لك أمرا” (1).
وينظر الرسول الكريم إلى هذا الغلام ويربت كتفه قائلا: “وإن أمرتك بقطيعة والديك؟”، فيرد طلحة: “لا”، وهو البار بوالديه، وله أم يحبها أعمق الحب، فيكرر عليه الرسول العبارة السابقة، ويكرر طلحة الرد نفسه، لكنه في المرة الثالثة قال: “نعم”، حينها ابتسم رسول الله في وجهه وقال له: “يا طلحة إنه ليس في ديننا قطيعة رحم.. ولكن أحببت ألا يكون في دينك ريبة”.
أراد الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام أن يحقق في طلحة شرائط الإيمان: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما” (2).
التربية على القناعات والمبادئ، وتحريرها من كل الشوائب، قدمها صلى الله عليه وسلم في أبهى صورة، لينطلق بعدها طلحة يشق طريق المحبة ويتفانى في تقديم الطاعة للمحبوب.. لم يتخلف عن الصلاة وراء رسول الله، مطمحه الاستشهاد في سبيل الله ونصرة رسالة نبيه وهو الصبي الصغير.
مرض الفتى ودنا أجله، وفي آخر اللحظات والروح مفارقة دنيا ما جملها إلا وجود رسول الله والجسد يحن للمسة من يده الشريفة ليسكن وتسكن معه الأنفاس.. آثر طلحة سلامة نبيه وخوفه أن يصيبه أذى إن أتى للوداع الأخير.. أسلم الروح لمولاه لكن ما ماتت ذكراه الشجية في قلوب كبار الصحابة الذين تعلموا أن المحبة وفاء وفداء.. ليصل بعدها الخبر لرسول الله فوقف على قبره العظيم ورفع كفيه الشريفتين بدعاء غبطه عليه كل الصحابة: “اللهم الق طلحة تضحك إليه ويضحك إليك”؛ هدية من رسول كريم استقبلها طلحة – لا محالة – فرحا مستبشرا بين يدي مولاه.
“ائذن لي أن أكون معك”
“جُعلت فداك يا رسول الله، ائذن لي أن أكون معك، وأجاهد أعداء الله تحت رايتك”.. كلمات من صبي لم يتجاوز الثالثة عشر كله رغبة وشوق لصحبة رسول الله والظفر بقربه.. لكنه لم يفلح بنيل شرف الجهاد؛ فطيب رسول الله خاطره وصرفه لصغر سنه.
لكن هيهات لليأس أن يجد عنده سبيلا فطلبته غالية ومقصده شريف منيف… اود الكرة بعد اجتهاد وجد، فأتى كعادته رفقة أمه “النوار” التي حدثت رجالاً من قومها برغبة الغلام.. فمضوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: “يا نبي الله، هذا ابننا زيد بن ثابت، يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق يجيد الكتابة والقراءة، وهو يريد أن يتقرب إليك، وأن يلزمك، فاسمع منه إذا شئت”.
سمع النبي الكريم من الغلام بعضاً مما يحفظ، والكلمات تتلألأ على شفتيه.. أترُك للصبي الجبل شرف رواية الحديث عن حبيبه وفرح زف البشرى بين أيديكم:
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: “أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ، قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي، قَالَ: فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ، قَالَ: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ” (3).
وجه الصادق المصدوق اهتمام الفتى، وقد لمس فيه ألمعية منقطعة النظير وإرادة متينة للعلم والتعلم، إلى تطوير مهاراته والانكباب على تعلم لغات للتواصل مع اليهود وغيرهم خدمة للدعوة المباركة ونشرا للرسالة الجامعة بلغة القوم… بل وكلفه بمهمة حساسة دون أن يربطها بصغر السن أو قلة التجربة.. ليرتفع اسم زيد في سماء العلم كاتبا للوحي ومكلفا بديوان رسول الله كما لمع لواؤه في ساحات الجهاد..
إني أعلمك كلمات
حبر الأمة وترجمان القرآن، ابن العشر سنين، ابن عباس؛ كان ملازما لرسول الله صلى الله عليه وسلم نبها متيقظا متوقد الإرادة، نال لمسة شافية من سيد الخلق، توَّجها دعاء نبوي شريف: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”، ليتحقق فيه الدعاء ويبلغ الرجاء فكان حقا فقيها عالما مفسرا…
كان خلف النبي كعادة المحب المتبع الممتثل.. فعلمه كلمات جامعات مانعات (4)؛ هي وصايا عظيمة من أهم كليات الدين، فحفظها الفتى وحفظتها الأمة معه ومن بعده.
فهل حفظها أقرانه من أبنائنا؟! ووقفوا على أسرارها وأنوارها؟!
أم أن الزمان لم يجد بأمثالهم، إنما هي نماذج نقرؤها بزهو، لنبكي على الأطلال ونترحم على الصحب الأطهار…
إن خيرية أمة رسول الله باقية إلى أن يرث الله الأرض، بما دعت إلى الله وبما استقامت على الطريقة واتبعت هدي المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم.
(1) الراوي: حصين بن وحوح، المصدر: مجمع الزوائد، رقم الحديث: 9/368، خلاصة حكم المحدث: حسن.
(2) الراوي: أنس بن مالك، المصدر: تخريج المسند، رقم الحديث: 13151، خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(3) الراوي: زيد بن ثابت، المصدر: تخريج مشكاة المصابيح، رقم الحديث: 4582، خلاصة حكم المحدث: إسناده حسن صحيح.
(4) حديث: “يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ”.
الراوي: عبد الله بن عباس، المصدر: صحيح الترمذي، رقم الحديث: 2516، خلاصة حكم المحدث: صحيح.