حقيقة التوكل على الله في زمن كورونا

Cover Image for حقيقة التوكل على الله في زمن كورونا
نشر بتاريخ

لا يعجب البعض أثناء الحديث عن فيروس كورونا التطرق إلى الأحاديث النبوية التي تعود إلى خمسة عشر قرنا، لأن الفيروس الذي أعلنت بسببه حالة الطوارئ في الدول العظمى، ولم يترك المجال للدول النامية لاستدراك ما فاتها من تقدم الأمم في مجال الطب، ظهر في مجتمعات القرن الحادي والعشرين، فهُم لا يستسيغون الرجوع إلى الوراء.

كما لا يعجب البعض الآخر الحديث عن الوقاية والاحتراز من الإصابة بالفيروس، لأن أخذ الاحتياط من الموت القادم، حسب زعمهم، يضرب في ركن أساس من الإيمان بالله؛ وهو الإيمان بالقضاء خيره وشره، وكأن الإسلام أمر الإنسان بالاستسلام أمام المخاطر والأهوال.

وللفصل في القولين نذكّر أن القرآن والسنة يجب أن يكونا بوصلة حياة المسلمين؛ توجههم لما ينفع العباد والبلاد، فيهما القول الفصل في كثير مما يعترض البشرية، وما لم يذكر بعينه فيه، فإن حكمه يؤخذ إما بالإجماع أو بالقياس. وما خطر الإصابة بالوباء الذي يفتك بالإنسانية جمعاء، ومنها بلدنا الحبيب، إلا ابتلاء، يشبه ما تعرضت له أقوام ذكرها القرآن من ابتلاءات مختلفة، ونحتاج معه إلى الهدي النبوي لنعرف ما لنا وما علينا، فلعل الفيروس محنة تحمل في طياتها منحة ربانية، وجب استغلالها للعودة إلى رحمة الخالق الجبار. إن كان كذلك؛ فكيف السبيل لذلك؟

روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ومعه ناقته فقال: “أعقلها وأتوكل، أم أتركها وأتوكل؟” فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اعقلها وتوكل”. يروي الحديث قصة رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ هل يربط ناقته بالحبل ويتوكل على الله، أم يتركها دون رباط ويتوكل على الله؟ فجاء رد النبي صلى الله عليه وسلم واضحاً، حمل درساً له ولغيره من الأمة، أن يربطها ويتوكل.

حديث الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام دعوة للأخذ بكل الأسباب الميسرة والمشروعة عند التخطيط لكل عملا، والتوكل على الله في التنفيذ.

لما أمر رسولنا الكريم بأخذ الاحتياط لناقة كي لا تشرد وتضيع عن صاحبها، ألم يكن يعرف أن الله هو الحافظ؟ وأن المؤمن تحت رعاية وحماية الرحمان؟

لقد زرع الحبيب المصطفى في قلوب أصحابه وازع التوكل على الله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب، وهو ما يجب أن يتحلى به المؤمن في كل زمان ومكان. والمقصود بالتوكل لغة: إظهار العجز والاعتماد على غيرك، والاسم التكلان (1)، واصطلاحا: “هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، و[توكيل] الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه” (2).

وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل اللّه تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} (سورة البقرة، الآية 197).

يظهر إذن أن الأخذ بالأسباب لا ينافي أبدا الإيمان بالقضاء والقدر، بل هو من صميم الإيمان؛ لأن “إياك نستعين” التي نرددها خمس مرات في اليوم مفادها أننا نستعين بقدرة الله على قضاء حوائجنا التي نسعى بكل السبل إلى تحقيقها؛ “فلا يضطرب عقل المحسن في فهم حكمة القضاء ومواقع القدر، ولا يفقدُ قلبه أمامها طمأنينَته، ولا حركتُه فاعليَّتها ونشاطها واتخاذها للأسباب، يتعبَّد بالمبادرة والعمل الصالح الدؤوب والأسباب تعبدا دون أن يحاول هتك سر القدر الذي استأثر الله عز وجل به وجعله بلاء ببالغ حكمته” (3).

لذا فإن مواجهة الوباء بالعزلة، والحرص على المزيد من النظافة، والمساهمة في نشر الوعي بمخاطر الإصابة بالفيروس، مع إحياء روح التضامن والتآزر بين الأهل والأقارب، وغيرها من أسباب الحماية العملية من هذا الوباء المنتشر.. لا يتنافى مع الإكثار من الاستغفار، وقراءة القرآن، وطرق باب الرحمان دعاء وتضرعا.

ويجب أن لا يفوتنا الاعتبار بآيات الله في خلقه، ومنها هذا الكائن الضئيل الذي لا يرى بالعين المجردة والذي يسمى كورونا، إذ “يستدعي ذكرُ فتن الزلازل والصواعق في ذهن المؤمن أوَّلَ ما يستدعي أن هذه الظواهر آياتٌ إلهيةٌ يُنبه الله عز وجل بها عباده إلى أن هذه الأرض ليست دَار قرار. ثم بعد ذلك يستدعي ذكرُها ضرورَة التضامُن بين البشر، ووجوبَ المسارعة إلى إغاثة الملهوف والمنكوب، والمُصاب من أيِّ ملة كان” (4)، وهذا مما يقوي إيمان الإنسان وتسليمه لله سبحانه وتعالى القادر المتعالي.


(1) معجم لسان العرب.

(2) الحافظ ابن رجب، جامع العلوم والحكم، 1/49.

(3) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 108.

(4) عبدالسلام ياسين، إمامة الأمة، ص 103.