حفظ الأسرار الزوجية

Cover Image for حفظ الأسرار الزوجية
نشر بتاريخ

قال تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ (البقرة: 187).

تقديم

تُعتبر الأسرة حجر الزاوية في تشييد المجتمعات، فبصلاحها واستقامتها يستقيم المجتمع كله، فهي الوعاء الذي تنبت فيه بذرة الحياة، يرسمها رجل وامرأة، تضمن استقرار النسل البشري الذي خلقه الله من أجل عمارة الأرض واستخلافه فيها.

ومن أبرز ما يميز العلاقة الزوجية: خصوصيتها، حيث جعل الله سبحانه العلاقة بين الزوجين علاقة سكن، وآية من آيات الله، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً (الروم: 21). وهذا الوصف بالغ الجمال والدقة.

يقول الله سبحانه وتعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ (البقرة: 187).

فما مفهوم اللباس في النص القرآني؟

1. المفهوم القرآني للباس

إذا تأملنا كلمة (لباس) وجدناها تحمل معاني ودلالات عظيمة منها:

الستر: فاللباس يستر الجسد والعورة حتى لا تُكشف للناس، وكذلك الزوجان يستر أحدهما الآخر، ولا يُفشي أسرار الحياة الزوجية مهما بدت بسيطة. والزوجان بما أناط الله بهما من خصوصية العلاقة الزوجية، لا يبوح بها إلا لشريكه فقط، وذلك حفظًا للألفة والسكن بينهما، فوجب عليهما ستر أسرارهما وعدم الكشف عنها درءًا للمشاكل والخلافات.

الوقاية: فكما يحمي اللباس الجسم من الحر والبرد، فإن حماية العلاقة الزوجية تكون بعدم إفشاء الأسرار، إذ هي وقاية من خروج العلاقة عن استقرارها وخصوصيتها.

وقد ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ” (صحيح مسلم)، وفي حديث آخر: “ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله تعالى خيرا من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته أو حفظته في نفسها وماله” (رواه ابن ماجه).

وفي حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لها: «انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله» (أخرجه البيهقي).

حسن التبعل والسعي لرضاء الله سبحانه وتعالى ثم مرضاة الزوج يعدل الجهاد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بداية الحديث السابق حين سألته أسماء عن فضل النساء في الجهاد، فنوّه بها وأجابها إجابة شافية لكل نساء العالم 1.

وحسن تبعل المرأة لزوجها هو وقاية وأمان له من زيغ العين الذي يقوده للشهوات ونزوات الشيطان، فهي لباس له وستر له من ارتكاب المحرمات.

الجمال: اللباس يحقق الجمال، فالإنسان يتزين ويتجمل بلباسه، وكذلك الزوجان يجمل أحدهما الآخر بحسن الخلق والمعاشرة، وبالكلمة الطيبة والرفق.

التلاؤم: اللباس يتلاءم مع صاحبه، فلكل لباس خصوصياته ومقاسه، وكذلك الزوجة لا تكون ملائمة لزوجها حتى تكون متميزة في خصالها وصفاتها، ومتفهمة له، تعرف كيف تستخدم لينها ودماثتها في التعامل، فيألفها وتزداد المحبة بينهما.

إذن فالمقاس في العلاقة هو ستر وحماية وتجمل وتعديل، وهو الحضن النفسي والعاطفي للزوجين معًا. وكلما كانت العلاقة الزوجية مبنية على هذا الفهم كانت نتيجتها طيبة، وتجنبت الخلافات والمشاحنات. فالعلاقة الزوجية ليست مجرد علاقة جسدية، بل علاقة نفسية عقلية عاطفية.

2. حفظ الأسرار الزوجية مفتاح الاستقرار الأسري

إن من أهم الحقوق التي تحفظ السكينة والمودة والسلام الأسري حفظ الزوجان لأسرارهما الزوجية وإحاطتها بالكتمان. وعلى الأزواج أن يعلموا أن الأسرار الزوجية أنواع: منها ما يتعلق بالخلافات الزوجية والأمور الحياتية العامة، ومنها ما يرتبط بمضمون العلاقة الخاصة بين الزوجة وزوجها. وحفظ هذه الأسرار يدل على صلاح الزوجين ومعرفتهما بحقوق بعضهما وما عليهما من واجبات، لقول الله تعالى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ (النساء: 34)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها” (رواه مسلم).

فحفظ الأسرار الزوجية أساس متين لبقاء المودة والسكينة داخل الأسرة، هو صمام أمان يصون العلاقة من التصدّع والتدخلات الخارجية. فحين يحرص الزوجان على أن تظل خصوصياتهما طي الكتمان، تنمو بينهما الثقة ويزداد الترابط، أما إفشاء الأسرار فيفتح باب الفتنة ويُضعف مكانة كلٍّ منهما في نظر الآخر. لذلك كان كتمان ما يدور داخل البيت من أدب الوفاء وتمام العقل، ومفتاحا لاستقرار الحياة الزوجية ودوام صفائها.
 
 3. استحضار رقابة الله عز وجل في العلاقة الزوجية

العلاقة الزوجية هي رباط مقدس وميثاق غليظ، والرجل والمرأة متعاقدان فيه على حفظ أسرار كلٍّ منهما، ويجب عليهما أن يتقيا الله، وأن يلتزما مراقبته في كل أمر، وذلك لا يتم إلا باستحضار مراقبة الله تعالى والحرص على طاعته، وبناء الحياة الزوجية على مبادئ الاحترام والإحسان.

ويتحقق هذا الاستحضار بالالتزام بالأخلاق الحسنة والآداب الإسلامية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان نموذجًا في حسن تعامله مع الزوجات، عاشرهنّ بالمعروف، وأوصى الأزواج بحسن المعاشرة والرفق، فقال: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” (رواه الترمذي).

في هذا المعنى يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “إن الله تعالى أمر بالعدل والإحسان. فالذي كان يمسك البيت النموذجي والزوجين الفاضلين والمجتمع الأول ضوابط العدل والحقوق المؤداة، ثم الإحسان بهذا المعنى الأول للإحسان. قَلع المؤمنات والمؤمنين الإيمانُ والتطلعُ إلى مقامات الإحسان من أرض المشاحّة والمخاصمة على الحقوق. توَّج الإحسانُ العدلَ وتخلّله وسكن بين ضلوعه. فالمرأة الزوج تصبر عن بعض حقها إحسانا واحتسابا، والزوج الرجل يجتهِد ليوفيها حقها ويزيد خوفا من الله ورجاء في مثوبته وقربه. إن كان العدل يُسوّي كفتين إحداهما تنظر إلى الأخرى على صعيد بشري، فالإحسان يرفع نظر الزوج وزوجه إلى الأعالي” 2.

نسأل الله عز وجل أن يجعل بيوتنا سعيدة، آمنة، عامرة بالمحبة والوفاء، وأن يسودها الجو الإيماني الإحساني المشوق للقيام بالخير.


[1] أخرج البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية، أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت : بأبي أنت وأمي، إني وافدة النساء إليك، واعلم – نفسي لك الفداء – أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع، إلا وهي على مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء، فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات، مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مرابطا، حفظنا لكم أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم وربينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: «هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟!» فقالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها ثم قال لها: «انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله» فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا.
[2] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر-بيروت، ص 186.