حرية التعبير في المغرب سؤال الالتباس في العلاقة بين النص والواقع (الجزء الأول)

Cover Image for حرية التعبير في المغرب
سؤال الالتباس في العلاقة بين النص والواقع (الجزء الأول)
نشر بتاريخ

مدخل

سعى الكائن البشري عبر الأزمان مجتهدا لتحصيل الحكمة، باعتبارها ضالته التي متى وجدها فهو أحق بها. والتي انبثقت عن تجارب ومحن المجتمعات الإنسانية ومقاربة أفرادها للظواهر الحسية والكونية، عبر إبداء آرائهم، والتصريح بأفكارهم ومكنون مقاصدهم، والتعبير عنها، انطلاقا من كونها محرك نهضة الأمم ورقيها، ومزية إثراء لحيوية وحركية أفرادها وعطاءاتهم، النابعة من اختلاف ملكاتهم وتباين قدراتهم وتنوع كفاءاتهم، رغبة في تحقيق حلم المجموعة البشرية في التطلع إلى أرقى مرتبة، تحقق لها الأمن والسلم والاستقرار.

ولأن المناسبة شرط، فهذه العجالة في الطرح، تتأسس على:

وجهة نظر تلتاع “للتراجيديا” التي غدت سمة لصيقة بحرية التعبير في بلدنا المغرب، من خلال شواهد عديدة وسوابق متجددة، لازالت الذاكرة تختزن بعض صورها، من اعتداءات جسدية مست أصحاب الرأي والقلم، كحالة الصحفية مريم مكريم، أو الزج في السجون والمنع من الكتابة لعقد من الزمن، مثل الصحافيين حرمة الله وشحتان وعلي المرابط ورشيد نيني، ليطال الأمر حتى بعض المواطنين الذين انبروا إلى التعبيرعن لوعاتهم مما يجري أمامهم، كحالة الشاعر الأستاذ منيرالركراكي المتابع قضائيا من أجل رأي ضمنه قصيدة شعرية.

وجهة نظر تروم طرح واقعة قضائية، مذهلة وغير مسبوقة تعيد إلى الأذهان، وتقرع في النفوس مرة أخرى، جرس الخطر الداهم الذي يعتمد سياسة كم الأفواه، باستهدافه المتكرر لحرية التعبير عن الرأي، التي طالما اعتبرت مرتكز لنشأة دولة الحق والقانون، وهامة عرش الحريات الفكرية والإنسانية بصفة عامة، والسياسية بصفة خاصة، والصف الأول في عراكها الدائم والمستمر مع قاموس السلطة، القائم على التعابير العائمة الفضفاضة، والمصطلحات العامة المتمثلة في المصالح العليا للدولة، والنظام العام، واستقرار الوطن، والتي تستدعي المقاربة الجنائية عند الحديث عنها، في تعد تأباه الحكمة الإنسانية التي أجمعت على تسييج حرية التعبير بقيم المجتمع المتفق عليها، والتي لا تتجاوز حريات الآخرين وحقوقهم، ولا تضر بمصالح المجموع وتوازن المجتمع، ولا تخدش مشاعر الأفراد وقناعاتهم، في استحضار قوي لرقابة ذاتية مشبعة بقيم الحرية المسؤولة الملتزمة .

واقعة قضائية

بتاريخ 16/10/2012 أصدرت المحكمة الابتدائية بابن سليمان حكمها القاضي بمؤاخذة مواطنيين مغربيين هما: السيد يوسف بنصباحية، وهو مهندس تطبيقي، والسيد رضوان مويسي، وهو مدرب رياضي، من أجل جنحة دفع الناخبين إلى الإمساك عن التصويت، وذلك باستعمال أخبار زائفة وإشاعات كاذبة، طبقا للمادة51 من ظهير 1/ أكتوبر /2011 ، حيث تمت إدانهتما بشهر حبسا موقوف التنفيذ لكل واحد منهما، وغرامة قدرها عشرة آلاف درهم، لست هنا بصدد التعليق على هذا الحكم الابتدائي”فما هكذا تورد الإبل”، ولا مطمحي إبراز العوار القانوني في هذا النص المجرم، فمرافعات السادة المحامين كفيلة بذلك، لكن حسبي في هذه المقاربة، التساؤل والاستفهام عن طبيعة النص المؤطر لحرية التعبير، وعلاقته بالواقع، عبر شواهد هذه النازلة القضائية، من منظور الشرعة الدولية التي صادق المغرب على مواثيقها، والمنظومة القانونية الوطنية التي تضبطها وفق البسط الآتي:

1/ موقع حرية التعبير في المغرب من الشرعة الدولية

أ/ تضمين التشريع الدولي في الدستور

من نافلة القول الحديث عن أهمية القانون الدولي في إرساء ضوابط لصيانة وحماية حرية التعبير، باعتبارها مرتكزا يعكس طبيعة الدول في تدبير خلافاتها، أفرادا ومؤسسات، ومؤشرا على ارتفاع منسوب الديمقراطية التشاركية لديها، وتوسيع هامش ممارسة هذا الحق بعيدا عن الخطوط الحمراء العرفية التي ترهن حاضر أي بلد، وتعرقل تطوره ونموه.

وتأسيسا على ذلك حرصت السلطة السياسية في المغرب على إيلاء هذا المعطى الدولي أهمية قصوى، وذلك بتبني رزنامة من اتفاقيات حقوق الإنسان، لاسيما حرية التعبير، في محاولة ذكية لالتقاط الإشارات الدولية، التي أضحت لغة التخاطب بين الدول. وقد تجلى ذلك بوضوح في تصدير- ديباجة- دستور يوليوز 2011 الذي جاء فيه … إن المملكة المغربية العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا). وفيه أيضا: … المملكة المغربية تؤكد وتلتزم بما يلي: “… جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب ، وفي نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة”).

إن تضمين هذه الألفاظ في أسمى قانون للدولة، من قبيل “التعهد” و”الالتزام” و”التأكيد” و”سمو القانون الدولي” و”الملاءمة” يجعل السلطة في المغرب في موقف متجدد للدفاع عن نفسها أمام المنتظم الدولي بما التزمت به في مجال حرية التعبير من خلال: المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان، التي تنص على أن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية). والمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي جاء فيها أن: لكل إنسان الحق في اعتناق آراء دون مضايقة، ولكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار، وتلقيها ونقلها إلى آخرين سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها).

وبلا شك، فإن مصادقة المغرب على هذه التعهدات، وتأكيد التزامه على تطبيق هذه الالتزامات الدولية الخاصة بحرية التعبير، أضحت اليوم تحت رقابة المقرر الدولي الخاص بحرية الرأي والتعبير الذي يسعى إلى لفت نظر الجهات الوطنية والدولية حول أجرأة تمكين المواطنين من هذه الحرية وقضاياها، ورصد الاضطهاد والترهيب والمضايقة للأشخاص الذين يمارسون أو يدعون لممارسة حرية الرأي والتعبير من خلال تلقي البلاغات والشكايات بهذا الخصوص. في نظري، ومن خلال ما تم التطرق إليه، لا يزال النص المشبع بقيم حرية التعبير، والمضمن في التشريع الوطني، بحاجة إلى كسر طوق المبادئ العامة التي تكتنفه، والانتقال إلى تدقيق المحتوى، وتقييد كل ما يتنافى مع جوهر القواعد والتعهدات الدولية، عبر مستويات ثلاثة:

1- بتفعيل الإجراءات اللازمة لتوفير هذا الحق وإشاعة ثقافة حرية التعبير بين أفراد المجتمع.

2- بحماية هذه الحرية ومنع الآخرين من مصادرة هذا الحق سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات.

3- باحترام هذا الحق، وامتناع الدولة نفسها عن مصادرته أو الإيعاز بالاعتداء عليه وتغليب آليات الاحتكام الديمقراطي عند الخلاف السياسي.

ليبقى التساؤل ملحا: هل نظام العدالة الجنائية بالمغرب يتوافق مع التزامات السلطة السياسية التي كرست هذه الحقوق الدولية في منظومتها الدستورية؟

ب/ مدى تجسيد التزام السلطة السياسية بالنص الدولي

تحتاج الدولة المغربية اليوم، أكثر من أي وقت مضى إلى البرهنة على مصداقيتها واختيارها الحر، في تأويل ما دبجته من سمو الشرعة الدولية، وملاءمة قوانينها الوطنية معها، عبر تقويم نظام عدالتها الجنائية لاسيما في علاقته بالحقوق، وأبرزها حرية التعبير.خاصة وأن العين الدولية أصبحت شاخصة وكاشفة لصيغة تدبير السلطة الحاكمة لمجموع الخلافات السياسية بين مختلف الفرقاء خاصة في ظل الحيوية واليقظة التي أفرزها الربيع العربي بكل تجلياته، اذ ارتفع الصوت عاليا بكل جرأة وجسارة لنقد تدبير الشأن العام وتبيان مكامن الخلل فيه ومساءلة صناع القرار ورفع الغطاء عنهم ومحاسبة ناهبي ثروات الوطن وخيراته.

لن نكون مبالغين إن قلنا بأن هذه المحاكمة السياسية لهذين المواطنين ومثيلاتها الكثيرة تجعل المغرب في وضع مكشوف أمام المحافل الدولية التي بلا شك تقف الآن على تقييم مصداقية النظام القضائي المغربي، من خلال الإجراءات المطبقة قضائيا لاسيما في محاكمات الرأي التي ما زالت تخلف موعدها مع التاريخ.

فالناظر إلى هذا الحكم القضائي الفريد، وبسطه تحت مجهر المنظومة الدولية التي التزم بها المغرب، وجعلها تسمو فوق تشريعه الوطني، يخالجه الشعور المتجدد الذي رهن بلدنا في وحل التخلف والاستبداد لعقود عديدة المرتكز على الرأي الوحيد السديد التاريخي، للسلطة القائمة التي عجزت عن استيعاب ما حصل.

ذلك أن ما عبر عنه السيدان يوسف بنصباحية ورضوان مويسي هو إحساس رهيب بمسؤولية حب الوطن والانتماء أليه الذي آن الآوان أن يبصر طريقه إلى التدبير الراشد الذي لا يسمح للركون إلى التسامح مع من سرق حلم المواطنين في العيش المحترم والكرامة المصانة. فما فعلاه سوى أنهما اختارا الجهر بقناعاتهما السياسية من خلال توزيع البيان الداعي إلى مقاطعة الانتخابات، والتعبير عن آرائهما المؤسسة على مجابهة حماة الشمولية المتمترسين وراء الفردانية والاستثنائية والخصوصية في تدبير شؤون الحكم، ومساءلتهم في هذا المجال درء لإعادة إنتاج السقطة من جديد.

ولعلي بعد هذا أهمس في أذن صناع القرار، أنه بمثل هذه المحاكمات، يعطي الدليل الصارخ على أن مجال احترام حريات التعبير في المغرب لا تكفي فيه المصادقة على التعهدات الدولية وتضمينها في التشريع الداخلي، بل لا بد من تأهيل لسلطات الدولة التنفيذية، و توافر أهم ضمانة في المجتمع، وهي السلطة القضائية الحقيقية القادرة على إلزام الإدارة بتفعيل وتطبيق ما التزمت به من خلال إصدارها لأحكام نزيهة وملزمة للجميع على حد سواء، مساهمة منها في بناء المواطنة الحقيقية التي أصبحت ضرورة ملحة ومصيرية لامتطاء صهوة جواد الحرية والكرامة عبر فسح المجال للرأى المخالف، وليس بمؤاخدة ذوي الضمائر الحية وإبقائهم صامتين.