حدث في رمضان (2) | المخلفون الثلاثة

Cover Image for حدث في رمضان (2) | المخلفون الثلاثة
نشر بتاريخ

في الحلقة الثانية من سلسلتنا “حدث في رمضان” سأتناول قصة توبة المخلفين الثلاثة بعد غزوة تبوك، قصة فاز أصحابها بتوبة من الله تتلى إلى يوم الدين.

غزوة تبوك من الغزوات العظيمة التي امتحن الله فيها قلوب المسلمين، وخلدت سورة التوبة الكثير من أحداثها.

فالعدوّ: ذو عددٍ وعتادٍ، وهو أعظم قوةٍ على وجه الأرض في تلك الفترة؛ الروم، الذين عزَم قائدهم على قتال المسلمين في عقر دارهم؛ المدينة المنورة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج إليهم.

والزمن: وقت الحرّ الشَّديد، الذي جعله المنافقون سببا لثني الصحابة عن الخروج، قال تعالى عنهم في سورة التوبة: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ في الحر قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (من الآية 81).

والمكان: مدينة تبوك، التي تبعد عن المدينة المنوّرة بأكثر من 600 كلم.

طلب رسول الله ﷺ من الجميع المشاركة في تجهيز الجيش؛ فجاء سيدنا أبو بكر بماله كله، وجاء عمر بنصف ماله، وأنفق سيدنا عثمان بن عفَّان نفقة عظيمة (عشرة آلاف دينارٍ وثلاثمائة بعيرٍ وخمسين فَرسًا بكامل عدَّتها) أفرحت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا فقال: “اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض”.

وتتابع الناس بصدقاتهم، كثيرها وقليلها، حتى كان منهم من تصدق بمد أو مدين لم يكن يستطيع غيرها، فمدح الله صنيعهم وتوعد من استصغر صدقتهم. قال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الآية 79).

وكان النفير عاما فلم يتخلف عن رسول الله إلا جماعةٌ من أصحاب الأعذار من المرضى والفقراء والضعفاء، وطائفة من المنافقين. وقد حكت لنا آيات من سورة التوبة خبرهم، قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌإِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (الآيات 91 – 93)، فقبل سبحانه عذر أصحاب الأعذار وتوعد المنافقين.

كما تخلف عن رسول الله ﷺ ثلاثة نفر؛ لا هم من المنافقين ولا هم من أصحاب الأعذار، اشتهروا باسم المخلفين الثلاثة. ويوضح معنى هذا الاسم كعب بن مالك رضي الله عنه وكان أحدهم: “كُنَّا خُلِّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَفُوا لَهُ، فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ. وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا، تَخَلُّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا، عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْه”.

وهذا ملخص قصتهم التي جاءت في صحيح الإمام البخاري:

عاد النبي ﷺ من الغزوة منتصرا بدون حرب، فقد ألقى الله الرعب في قلوب الروم فلم يخرجوا لقتاله، ودخل المسجد وصلى به ركعتين، ثم جلس للناس فجاءه المخلفون فبدأوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. اِ۪سْتَغْفِرْ لَهُمُۥٓ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمُۥٓ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَنْ يَّغْفِرَ اَ۬للَّهُ لَهُمْۖ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَاللَّهُ لَا يَهْدِے اِ۬لْقَوْمَ اَ۬لْفَٰسِقِينَۖ (الآية 81).

ثم دخل “كعب بن مالك”، فلما سلم عليه تبسَّم تبسُّم المغضب، ثم قال له: “تعال”… قال: فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه.

فقال لي: “ما خَلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟”.

فقلت: بلى والله، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيتُ جدلاً، ولكني والله لقد علمتُ إن حدثتك اليوم حديث كذِب ترضى به علي ليوشكنّ الله أن يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صِدق تجد عليَّ فيه، وإنّي لأرجو فيه عفو الله عنيّ، والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منيّ حين تخلفت عنك.

فقال رسول الله ﷺ: “أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك”… فقمت.

وصار رجال من بني سلمة يؤنبونني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسول الله ﷺ لك.

قال: فوالله ما زالوا يؤنبونني، حتى أردتُ أن أرجع فأُكذّب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟

قالوا: نعم، رجلان… قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل الذي قيل لك، فقلت: من هما؟

قالوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، فذكروا رجلين صالحين شهدا بدرًا، وفيهما أسوة.

وقد نهى رسول الله ﷺ المسلمين عن كلامنا، فاجتنبنا الناس وتغيرّوا لنا حتى تنكرت لي الأرض، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.

فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أجلَدَهم فأخرج أشهدُ الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله فأُسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حَرّك شفتيه برد السلام أم لا.

 وزاد الله في تمحيص إيمانه فأرسل له “ملك غسان” رسالة.

أما بعد… بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك.

فحرق كعب بن مالك الرسالة وعلم أنه ابتلاء جديد.

 وبعد أربعين ليلة من الابتلاء أمره رسول الله أن يعتزل زوجته، ولبث على هذا الحال  عشر ليال، حتى ضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحُبت.

ثم جاء الفرج.

يقول سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ.

فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى الْجَبَلَ، فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، نزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ”.

فأسرعت إلى المسجد، فلما سلمت على الرسول قال وهو يبرُق وجهه من السرور: “أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك”.

قال: قلت: أهو من عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: “لا… بل من عند الله”.

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.

ثم قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ، مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا، أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللَّهُ بِهِ، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ”.

فرضي الله عن كعب وعن صاحبيه، وبشراهم توبة تتلى إلى يوم الدين، فيترحم عليهم كل من تلاها من المومنين.

وبشراهم أن أمرنا الله أن نكون معهم ونقتدي بهم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ.

فاللهم اجعلنا من الصادقين واحشرنا مع الصادقين والحمد لله رب العالمين.