هذه سلسة من أربع حلقات نعرض فيها أربعة أحداث وقعت في رمضان:
– أولها وأعظمها وبه أنار الله الوجود وكان هدى ورحمة وبشرى للمحسنين: نزول القرآن.
– ثانيها: توبة من رب السماء على المخلفين الثلاثة، أنزلها الله قرآنا يتلوه أهل الأرض إلى قيام الساعة.
– ثالثها: أول مواجهة لرسول الله صلى الله عليه مع قريش؛ غزوة بدر، يوم الفرقان. لن نسرد مجريات الغزوة وإنما سنقف على خلاف المسلمين على النفال وكيف عالجه الله سبحانه، من خلال سور الأنفال.
– ورابعها: آخر مواجهة لرسول الله صلى الله عليه مع قريش؛ وهي فتح مكة “.. الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين” (ابن القيم)، سنرى من خلالها جوانب من رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعفوه.
نزول القرآن في رمضان
من أهم الأحداث التي وقعت في هذا الشهر العظيم، شهر رمضان، وبه شُرّف، وبه فُضِّلَ على سائر شهور السنة؛ نزول القرآن. قال تعالى: شَهرُ رَمَضانَ الَّذي أُنزِلَ فيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى وَالفُرقانِ [1].
ولعظمة هذا الكتاب فقد خصه الله بمميزات لم يجعلها لغيره من الكتب السماوية السابقة نذكر منها:
– أنه متواتر: فالقرآن الكريم سمعه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم ثم أقرأوه التابعين وهم بدورهم نقلوه إلى من بعدهم، وهكذا تتناقله الأجيال إلى يوم القيامة.
– أنه معجِز: هو كلام الله المعجز،المتحدى بإعجازه، قال تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [2].
– أنه عربي: أنزله الله بلغة العرب، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًاعَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [3].
– أنه محفوظ بحفظ الله عز وجل من التبديل والتغيير، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [4].
– أنه لكافة الناس من العرب والعجم إلى قيام الساعة، قال تعالى: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [5].
– أنه نزل منجما: نزله الله تعالى منجما (مفرقا) حسب المناسبات والأحداث خلال 23 سنة، قال تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا [6].
– ثم أخيرا خص بتنزيلين: فلئن كانت الكتب المنزلة قبل القرآن نزلت جملة واحدة فإن الله خص القرآن بتنزيلين.
قال ابن جرير: نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه.
وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء.
فشرفت ليلة القدر بالتنزيلين؛ إنزاله جملة واحدة إلى اللوح المحفوظ، وبداية تنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنّا أَنزَلناهُ في لَيلَةِ القَدرِ [7]، إِنّا أَنزَلناهُ في لَيلَةٍ مُبارَكَةٍ [8].
وما أجمل ما وصف به سيد قطب رحمه الله هذه الليلة حين قال: “الليلة الموعودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال، ليلة الاتصال بين الأرض والملأ الأعلى … ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته وفي دلالته وفي آثاره في حياة البشرية جميعا، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري … والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود: نور الله المشرق في قرآنه إنا أنزلناه في ليلة القدر، ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى تنزل الملائكة والروح فيها، ونور الفجــر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة … سلام هي حتى مطلع الفجر” [9].
وإنها لنعمة عظيمة أنى لنا أن نشكرها؛ نعمة لا يسعها حمد البشر فحمد الله نفسه عليها ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَٰبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُۥ عِوَجَا [10].
والحكمة من إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، كما يبين ذلك الإمام السيوطي؛ “في ذلك تفخيم لأمره وأمر من أنزل عليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب، المنزل على آخر الرسل، لأشرف الأمم، قد قربناه إليهم لننزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجمًا بحسب الوقائع، لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله تعالى باين بينه وبينها فجمع له الأمرين: إنزاله جملة ثم إنزاله مفرقًا، وهذا من جملة ما شرف به نبينا ﷺ”.
والسر في نزوله منجما وضحه الله تعالى في قوله: وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَٰحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَٰهُ تَرْتِيلًا [11].
ويفسر الإمام السيوطي هذه الآية بأن الوحي “إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرةَ نزول الملك إليه، وتجددَ العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدثُ له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كانﷺ أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل” [12]. فعن ابن عباس قال: “كان رسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة” [13].
استخرج العلماء من هذا الحديث دررا كثيرة نذكر منها ما قاله ابن رجب في كتاب لطائف المعارف:
– دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له…
– وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان.
– وفيه استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة من رمضان، ولأن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعـالى: إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْـًٔا وَأَقْوَمُ قِيلًا [14].
لهذا كله كان السلف الصالح إذا دخل رمضان تركوا كل شيء وعكفوا على القرآن ولم يشتغلوا بغيره؛ فكان الزهري إذا دخل رمضان يقول: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام. وكان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم. وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
ولقد حكى ابن رجب عن اجتهادهم في كثرة الختمات في هذا الشهر العظيم ما لا تستطيع عقولنا استيعابه، نذكر شيئا منه لعلنا نقارن تخاذلنا باجتهادهم فنستحيي من الله سبحانه منزل الفرقان ونشمر ونجتهد كما اجتهدوا فنفوز كما فازوا.
قال ابن رجب: كان الأسود يختم القرآن في رمضان كل ليلتين. وكان قتادة إذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة. وكان الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة. وكان مجاهد رحمه الله يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل …. وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان [15]، وتميم الداري، وسعيد بن جبير رضي الله عنهم أجمعين [16].
ولمن يداري كسله وضعف همته بالحديث: “لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث” [17]، ففي قول ابن رجب الجواب الشافي الكافي، قال: “إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصا في الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها؛ فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة..” [18].
ولئن شرف شهر رمضان بنزول القرآن فقد زاده الله شرفا بفرض صيامه على المسلمين، ومن جميل ما ذكر في العلاقة بين الصيام والقرآن قول الإمام الرازي: “إن الله سبحانه خص شهر رمضان بأعظم آيات الربوبية، وهو إنزال القرآن الكريم فيه، فلا يبعد أيضا تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية وهو الصوم”.
قال الشيخ أبو زهرة: “وإن اختصاص شهر رمضان بالصوم، لأنه نزل فيه القرآن، فيه تذكير بمبدأ الوحي، واحتفال بأكبر خير نزل إلى الأرض وهو بعث النبي، فإنه نور الأرض وإشراقها، والاحتفال به احتفال بنعمة الهداية”.
وكما جمع الله الصوم والقرآن في رمضان فإنه يجمعهما يوم القيامة للشفاعة في المومنين، قال صلى الله عليه وسلم: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان” [19]. قال ابن رجب: “واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان: لنفسه جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وفي أجره بغير حساب” [20].
فاللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وذهاب أحزاننا، وشفيعنا يوم العرض عليك. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. والحمد لله رب العالمين.
[1] سورة البقرة، الآية 185.
[2] سورة الإسراء، الآية 88.
[3] سورة يوسف، الآية 2.
[4] سورة الحجر، الآية 9.
[5] سورة يوسف، الآية 104.
[6] سورة الإسراء، الآية 106.
[7] سورة القدر، الآية 1.
[8] سورة الدخان، الآية 3.
[9] الظلال 6/3944.
[10] سورة الكهف، الآية 1.
[11] سورة الفرقان، الآية 32.
[12] الإتقان، ص 161.
[13] البخاري 6، مسلم 2308.
[14] لطائف المعارف، ص 355.
[15] وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: ففي كتاب محمد بن نصر وغيره، بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد أن عثمان رضي الله عنه قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها. وفي المغازي حديث عبد الله بن ثعلبة أن سعدا أوتر بركعة، وعن معاوية أنه أوتر بركعة، وأن ابن عباس استصوبه. اهـ
وأما ختم الشافعي – رحمه الله – للقرآن ستين ختمة في رمضان، فهو مستفيض في كتب التراجم.
[16] انظر لطائف المعارف، ص 358-360.
[17] أبو داود 1394، والترمذي 2949، وقال: حديث حسن صحيح.
[18] لطائف المعارف، 360.
[19] رواه أحمد.
[20] لطائف المعارف، 360.