… حتى وإن بقي يوم!

Cover Image for … حتى وإن بقي يوم!
نشر بتاريخ

جعل الله للمسلم مواسم طاعات يزداد فيها قربا منه. ومن خلال هذه المواسم يستطيع الإنسان أن يغير عاداته وسلوكه، فيتخلى عن السيء منها، ويتحلى بجميلها. وهذا ما ينطبق بشكل أدق على شهر رمضان المعظم، شهر التغيير. كيف لا، وهو الشهر الذي عرف حدثين عظيمين تغييريين: نزول القرآن، الذي غير الإنسانية وأخرجها من ظلمات الشرك والظلم إلى نور التوحيد والعدل.

لكن، ها هو رمضان ينصرم، ونحن في العشر الأواخر منه، تفاوت الناس في الإقبال على الطاعات وفي الامتثال السلوكي لما يقتضيه، وكلما شارف الإنسان على نهايته كلما أحس بالحسرة والندم على التفريط، بل إنه يصل الأمر إلى الإكثار من جلد الذات حد الاكتئاب واليأس، أو أحس التعب والخمول وهو الذي اجتهد وشمر طيلة الأيام الماضية.

فكيف نتعامل مع الأيام الأخيرة من رمضان؟

أولا: لا ننس أننا نعبد ربا رحيما كريما

وصف الله تعالى نفسه بالرحيم في أكثر من آية، كما في قوله تعالى في سورة الفاتحة: الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (الفاتحة: 3).

إضافة إلى وصف الله عز وجل بالرحيم نجد وصف الكريم، قال الله تعالى: وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(‎النمل: 40)، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ‎(الانفطار: 6).

وما أجمل أن ينبري أهل العلم والتربية إلى الحديث عن صفات الله تعالى كما وردت في القرآن الكريم لما له من أثر في نفس المؤمن، تربيه وتقربه إليه عز وجل.

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة” 1.

وفي حديث نفيس يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سَدِّدُوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا، فإنَّه لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه برَحْمَةٍ، واعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ أدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ” 2.

يتضمن هذا الحديث فوائد جليلة تجيب عما نحن بصدد البحث عنه: عدم الاغترار بالعمل، وعدم الاكتفاء من الطاعات، فالمعول على رحمة الله تعالى، وأحب عمل أدومه وإن كان قليلا.

إن رحمة الله وكرمه يتداركاننا في ضعفنا وتقصيرنا وفتورنا، كما في اجتهادنا وإقبالنا ونشاطنا للأعمال والعبادات، ولولاهما لما فاز فائز ولا أفلح مفلح.

ثانيا: دائما يعطينا الله بداية جديدة

دائما ما يعطينا الله المحب الرحيم الكريم بداية جديدة، ولهذا شرع لنا الاستغفار والتوبة. فإن قصرنا فلنبادر إلى الاستغفار والتوبة وتجديد النية والعزم، فلا مجال للحسرة ونحن على قيد الحياة بين يديه عز وجل.

إن الاستغفار عبادة جليلة، وقربة من القربات، يكفر الله بها السيئات ويزيد في الحسنات، ولا شك أنه يجبر كل تقصير ويداوي كل فتور. يقول الله عز وجل: ‎وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (البقرة: 58). والاستغفار ديدن الأنبياء ودأب الصالحين، وسيدنا آدم عليه السلام أول المستغفرين، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد المستغفرين. والتوبة تجب ما قبلها، ولنتأمل قول الفضيل بن عياض هذا إذ قال لرجل: “كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسيره تقول: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع ، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول، فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي، أخذت بما مضى وبما بقي” 3.

ثالثا: نجتهد فيما تبقى

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا” 4. هذا الحديث أقوى دليل على ضرورة مواصلة العمل إلى آخر ما يتطلبه بتؤدة وطول نفس، دون تهاون أو فتور. إن هذا الحديث الشريف يوقظ همتنا ويخبرنا ألا نيأس من عدم ظهور النتائج والثمار وألا نستسلم للعوائق والعقبات، وألا نقنع، فربما لا تحصل الثمار إلا عند آخر جهد مبذول. ألا ينال الأجير أجره بعد إنهاء عمله على الوجه المطلوب؟ بلى، إن الأجر عند الله يتطلب صبرا وطول نفس.

لذا، ونحن في العشر والأواخر خليق بنا أن نتمثل روح هذا الحديث الشريف، وأن نواصل المسير إلى آخر يوم، بل أن نضاعف الجهد رغم ما قد يعترينا من عياء، أو رغم ما يكون من فتور، أو تقصير سابق؛ ذلك أن الخيل، كما يقول ابن الجوزي، إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك! فإنما الأعمال بالخواتيم، فإنك إذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع.

نعم، وإن قصرنا فيما مضى فالعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات. يقول السعدي في تفسيره معقبا على قصة يوسف عليه السلام: “إن العبرة للعبد في حال كمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب عليه السلام جرى منهم ما جرى في أول الأمر من الجرائم المتنوعة، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، والاعتراف التام، والعفو التام عنهم من يوسف ومن أبيهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإذا سمح العبد بحق فالله أولى بذلك وهو خير الراحمين الغافرين، ولهذا في أصح الأقوال إن الله جعلهم أنبياء لمحو ما سبق منهم، وكأنه ما كان” 5.

هذه بضعة معالم للتعامل مع الأيام الأخيرة من شهر رمضان الأبرك، أخاطب بها نفسي قبل أن أخاطب من يشاركني هذا الهم؛ تبين أن مدار الأمر كله على الصبر وطول النفس وتجديد النية والعزم وأن حبل الرجاء لا ينقطع أبدا.


[1] رواه مسلم.
[2] رواه مسلم.
[3] ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، 2/376.
[4] أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
[5] عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ص 276.