حب يحيي الفؤاد

Cover Image for حب يحيي الفؤاد
نشر بتاريخ

ما أطيب الأيام التي تذكرنا بمولد طه، فيها يتأجج الشوق في قلوب المحبين، وتزداد لوعة العاشقين، فلا تكاد تسمع إلا مصليا أو مثنيا على خير الورى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فيزدان الكون بجمال نوره الوهاج وتتضوع الدنيا بعطره الفواح.

قوم تعلقوا بالسلسلة النورانية فتشربوا حب المصطفى صلى الله عليه وسلم عذبا زلالا من المعين الصافي؛ من قلوب أحبت وصدقت، ونقلت حبا صافيا محييا للقلوب عبر القنوات القلبية، ومخلصا للأبدان من الأنجاس والأدران.

ذاك الحب الذي أوجبه الله تعالى وحث عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لما قال: «أحبوا الله لما يغدوكم من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي» (رواه الترمذي).

وقد اعتبر الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم نعمة تستوجب حب الله، لأنه صلى الله عليه وسلم باب الله، فلا يدخل أحد الحضرة الإلهية إلا من خلاله، ولا ينال شرف القرب والوصل إلا عبر يديه الشريفتين.

ولا يتحقق حب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحب أهل بيته، وحب كل من تعلق بجنابه الشريف، وبرهن على صدق حبه بمواقفه الصادقة، لأن الحب المطلوب ليس ادعاء بل ثباتا وإيثارا لحبه على كل شيء، أليس هو القائل صلى الله عليه وسلم: «فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم  حتى أكون أحب إليه من والده وولده» (رواه البخاري)؟

ولنا في ساداتنا الصحاب الكرام رضوان الله عليهم النموذج الكامل للحب النبوي، حبا سار دما في عروقهم فآثروه صلى الله عليه وسلم على المال والأهل والنفس والولد. فهذا سيدنا أبا بكر يضع ماله كله بين يدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يهنأ له بال حتى يراه منتصرا. وهذا سيدنا أبا عبيدة بن الجراح يقتل أباه في معركة أحد لما قصده ولم يجد عنه محيدا. وهذه سيدتنا أم عمارة تترس عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتتحمل الطعنات والجراح فداء لخير خلق الله، حتى قال لها صلى الله عليه وسلم «من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة» (ابن سعد، 8/414). وسيدنا أبا طلحة يقاتل دون سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: نحري دون نحرك…

هذا الحب الخالص سطره الصحابة الكرام بماء الذهب، وجعلوا دماءهم تسري به، فأصبح حيا يحيي القلوب، ثم سرى من قلوبهم إلى قلوب التابعين الصادقين الذين ملأ حب المصطفى صلى الله عليه وسلم أفئدتهم فنصبوا أنفسهم حماة للعقيدة وكرسوا حياتهم لخدمة الإسلام والمسلمين، فكان شوقهم للحبيب صلى الله عليه وسلم قويا؛ ما إن يذكر بين أيديهم حتى ترى دموعهم تسيل وأحشاءهم تتمزق شوقا وهياما، فهذا «سيدنا مصعب بن عبد الله يروي عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه إذا ذكر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا  إلا ويبكي حتى نرحمه» (الشفا، 2/32). وهذا «سيدنا ثابت البناني رحمه الله الذي كان يقول لسيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: أعطني عينيك التي رأيت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبلها”..

هكذا سرى الحب النبوي من قلب إلى قلب، حتى وصل إلى المحبين الصادقين في زماننا، الذين آثروا حبه الشريف على المصالح الشخصية والأطماع الدنيوية، فكان الدافع لهم على الصبر والثبات رغم ما يلاقونه من صعاب؛ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، عن هؤلاء يبحث الكيّس والكيّسة، لتغترف من فيض الحب النبوي، وتسقي قلبها شراب الحب الصافي بما يحييه وينهض همته ليسير على درب أبا دجانة والقعقاع.. فيرفع كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله خفاقة في جميع البقاع، ويخبر الكون كله أن سيدنا محمد ما بعث إلا رحمة للعالمين.