2006/04/18 *
سبحان الملكِ الوهابِ الخلاق العليم البارئ المصور، جعل أحشاء الأم قرارا مكينا للإنسان في أطوار تخلقه العجيب، وجعل له في الأرض مُستقـرا بعد ذلك إلى حين في كنَف رَحمتها ومودتها. من آياته العظمى سبحانه خلقُ الإنسان، ومن آياته العظمى ما جعل بين حنايا الأم من مودة للكائن الضعيف الغض المتوجِّه بكيانه الجديد كله إلى ما تلقيه إليه الأم من غِذاء لجسمه، المتشرِّب في طفولته إلى ما معها من دَرِّ القلوب وسَحِّ الإيمان إن كانت من أهل الإيمان.
جعل الله عز وجل حبلَ الفطرة ممتدا عبرَ الأجيال عن طريق الأمومة، مفتولا مُبْرَماً،شِقَّاهُ جسم الجنينِ ثم الطفل، وروحُ الطفل يحبو نحو الرجولة وينهض وله من قُدوة أمه وكلماتها البسيطة وإخبارها بحقائق وجود الله تعالى وخبر الآخرة زادٌ منه يستفيض عُمْرَه.
الفطرة الاستقامة الأصلية على الدين، علَّمَها آدم عليه السلام بنيه،وعلمتها أجيال بنيه وبناته ذريَّتَهم، ويبعث الله عز وجل الرسل كلما فترَتْ في الأقوام جذوة الإيمان ليبعثوها فيهم حية. والوالدان سفيران دائمان لوصل الرسالة الفطرية، خاصة الأم.
قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولنا معه: فأقِمْ وجهك للدين حنيفا فِطرتَ الله التي فطر الناسَ عليها لا تبديلَ لخلق الله.ذلك الدين القيِّمُ 1 حنيفا أي مستقيما. والحنيفية سمحة سهلة بسيطة. لا يحتاج تلقينُ الإيمان للناشئ في حجر والديْه، خاصة أمِّهِ،لفلسفة واستدلال على وجود الله تعالى، وعلى معنى وجود الإنسان،وعلى موته ومصيره بعد الموت،وعلى الدار الآخرة وحقائقها. يكفي أن يُخبِرَه، وأن يجيب عن أسئلة بدَاهته، المصدَّقُ المحبوبُ المُحْسِنُ، أمُّه خاصة، فإذا بالإيمان يستقر في قلبه كاستقرار مادة الحياة موروثةً عن الوالدين.
هذه هي الجذور الفطرية السليمة للإيمان، فإن تلَوَّثت المُوَرِّثاتُ الإيمانية الفطرية في جيل نزل الجيل المولود مشوَّهَ المعنى كما تتشوه الخِلقة الجسمية بمرض الموَرِّثات الجسمية وفسادها. ويحتاج الأمر في الحالتين إلى تطبيب.
بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين في أمة أمِّية، قريبة من حالة السلامة الفطرية، بريئةٍ مما كان في أمم الهند وفارس والروم من فساد في الفطرة وانسداد في مسالكها بالفلسفة والحملقة الفكرية اللاهية في الدنيا عن السُّؤال البديهي: من خلقني، ولماذا، وإلى أين مصيري بعد الموت؟ بعثه سبحانه إلى أمة أمّية، نِسبةً إلى الأم، لا تزال محتفظة ببقايا الحنيفية السمحة من ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. دخلت الوثنية والشرك على الفطرة فشوّهتها، لكن الإقرارَ بوجود الرب الخالق الرزاق كان خبرا موروثا. غابت حقائق الآخرة وزعم المشركون العرب:ما هي إلا حياتنا الدنيا نمُوت ونحيَى وما يهلكنا إلا الدهر 2 لكن المحَلَّ كان سرعان ما يتقبل الحق من النذير البشير لأن المحل لم ينشغل بفلسفة ملتوية على نفسها تنفُث السموم.إنما كانت دهريَّة ساذَجَةً تذروها نسائمُ التبليغ الصادق بِلا عناءٍ.
وحفظ الله عز وجل الفطرة في أجيال المسلمين، من أهم ما حفظ، بتربية الأبوين المسلمين المومنين.حتى نصل إلى عصرنا،وإلى ضَعْفِ المحفوظ من الفطرة عند أمهات الغثاء، وانحرافه عن الاستقامة الحنيفية، وتَسَرُّبه في رمال الفتنة ورماد المادية القاحل.
نَكْبَةٌ ورَقدة في الفطرة لا يمكن أن ينبريَ لها بقومة مُحْيِيَةٍ مقومة إلا أمهات صالحات قائمات بوظيفتهن الحافظية كاملة غير منقوصة. وإنك تجد أمهات الغثاء اللاتي ضيَّعْنَ على مَدَى أجيالٍ الجَديلة المَعْنويَّة من ضفيرة الفطرة يعتنين بدقة بما يرضَعُ الطفل ويلبَس ويُطبَّبُ.لكنهن عن نشأته الإيمانية ورَضاعِه الفطري في غياب مُذهل. الجسمُ يُدلَّلُ ويُنعم ويُصان، والروح تربيتها سائبة ناكبة غائبة. تنطق هذه الحالة الرديئة بِدهريَّة تّقّمصت الأم وظللت طفولة أبنائها وبناتها بقَتامِ الغفلة عن الله، وظلام الجهل بما أنزل الله، وضبابِ الحِياد والتجاهل واللامبالاة أمام السؤال الفطري المصيري الأخروي. لا تخبر الأم ولا يأبَه الوليدُ.
لو تأملتَ معي أخي،وتأملتِ أختي يا حافظة الفطرة تكليفا وتشريفا، كَم من جرائد ومجلات وكتب تنشر في العالم، وكم غابات تحصد ليصنع الورق، وكم آلات تدور، وكم أفلام تصور، وكم آلات تَبُث، وكم أجهزة تلتقط، وكم برامجَ وكم موظفين. كل أولئك لا يتحدث إلا عن الدنيا وزينتها ولعبها وعبثها وملذاتها وشهواتها وأزماتها وسياستها واقتصادها واضطراب أهلها وهَوَس حركتها. والأمهات جاريات في ذلك الضجيج، مغلوباتٌ فيه انغلاب الرجل. والدين في زاوية منسية، وأعظم نبإٍ في الوجود مسكوت عنه: ألا وهو نبأ البعث والنشور، والحساب والجزاء، والجنة والنار، وكون الدنيا دار مَمَر وامتحان واختبار.لو كان الناس عقلاء لاحتل هذا النبأ الصفحة الأولى الدائمة من اهتمام الكل. لكن الناس انطمست فيهم الفطرةُ وانبتَرت وانقطعت. ووصلُها، يا من اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، لا يكون إلا بحبل سُرِّيٍّ تُغذّين به الطفل في ليونته غِذاء الإيمان. وما في ذلك من كبير عَناءٍ، فالحُنُوُّ الفطريُّ والمودة والرحمة، وهن من لطائف خلق الله في قلب الأمهات، ميازيب توصِل الخَبَر على أقصر طريق وأصدقه وأبلغِه أثراً.
انطمست الفطرة في هذه الأعصار التكنولوجية الجنونية الراكضة خلف الاستهلاك والمتْعة والشهوة، وانغمرت وانغطست تحت رُكام دهرية مفلسفة معقدة. لا يُخِفْنا التواؤها وتعقُّدها من أداء مهمة الأبوين، ولا يُزِغنا تمشدقُها وحذلقتها عن الأسلوب الفطري:بثِّ كلمة الحق في الطفل في الوقت المناسب، بالبساطة المناسبة، من القلب للقلب. وذلك إن فعلنا، وفعلت الأم خاصة، كنزٌ لا يفنى، وبذرة حية لا تلبث بإذن الله أن تترعرع شجرة طيبة توتي أكلها كل ببساطة الحق، ونصاعة اليقين حين يتجلى للقلوب السليمة يخبرنا الله عز وجل عن حبل الفطرة في تدَلّيهِ من جيل لجيل. قال عز من قائل: ووصينا الإنسان بوالديه. حملته أمه كَرها ووضعته كَرها. وحملُه وفِصالُه ثلاثون شهرا. حتى إذا بلغ أشُدَّه وبلغ أربعين سنة قال: رب أوْزعني أن أشكرَ نعمتك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والدَيّ وأن أعمل صالحا ترضاه. وأصلح لي في ذريتي.إني تبت إليك وإني من المسلمين. أولئك الذين يُتَقبّلُ عنهم أحسنُ ما عملوا ويُتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة. وعد الصدق الذي كانوا يوعدون 3 شكرٌ لله تعالى على ما أنعم عليه وعلى والديه من نعمة الإيمان خاصة، ودعاءٌ بالصلاح لذريته، والجنة مثوىً للذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان. هذه هي القاعدة الفطرية.
وروى الشيخان وغيرهما واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:“ما من مولود إلا يولد على الفطرة.فأبواه يهودانه أو ينصراه أو يمجسانه.كما تُنتَجُ البهيمة بهيمة جمعاءَ.هل تُحِسُّونَ فيها من جدعاء!”قال ابن الأثير رحمه الله في “جامع الأصول”:كل مولود من البشر إنما يولد في مبدإ الخِلقة وأصل الجِبِلَّة على الفطرة السليمة والطبع المتهيِّئ لقَبول الدين الحق.فلو تُرِك عليها لاستمر على لزومِها ولم يفارقها إلى غيرها.لأن هذا الدين حُسنُه موجود في النفوس،وبِشرُه في القلوب.وإنما يعدِل عنه من يعدِل إلى غيره لآفة من آفات الشر والتقليد. (…) [الفطرة] فطرة الله تعالى، وكونه متهيئا لقبول الحقيقة طبعا وطوعا. ولو خلّته شياطين الإنس والجن وما يختار لم يختر إلا إياها. وضرب (رسول الله صلى الله عليه وسلم) لذلِك الجمعاءَ والجدعاء مثلا.يعني أن البهيمة تولد سَوِيَّةَ الأطرف،سليمة من الجَدْعِ (وهو قطع الأنف) ونحوه. لولا الناسُ وتعرضهم لها لبقيت كما وُلدت سليمة)والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
* العدل: الإسلاميون والحكم. الفصل السابع. للحبيب المرشد عبد السلام ياسين