3. القواعد الكبرى المؤطرة لميثاق إنساني
قاعدة العدل في مقابل الظلم: لقد جبل الإنسان عموما على حب قيمة العدل والإنصاف، إلا أن يكون شريرا منسلخا عن الفطرة. وعلى هذا الأساس العدلي تبنى الحضارات وتتفوق في شتى مجالات الحياة، إلا أن يمسها طائف من الظلم فينخر كيانها ثم تتهالك شيئا فشيئا إلى أن تسقط، فتبقى معيبة مشوهة، وقد صدق ابن خلدون في قوله “الظلم مؤذن بخراب العمران”.
ولقد أوجب الشارع الأخذ بمبدأ العدل حتى مع المخالفين من الأعداء، فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المائدة /8]. فالآية هنا تنهى عن الظلم والجور بسبب العداوة والبغضاء، وتدعو إلى إقامة العدل في جميع الأحوال ولجميع الناس، سواء كانوا أصدقاء أو أعداء.
وعلى هذا الأساس فإن قيمة العدل هي خاصية مشتركة بين بني الإنسان، وبهذا المعنى نخلص إلى أن العدل هو “أم المصالح” وهو أساس السلم الاجتماعي وعماد العمران الأخوي، وأنه يمثل الشرع الإلهي بين العباد، والرحمة بين الخلق. “فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه، وفي حق عباده؛ فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة بأن يؤديَ العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما، في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام.” 1.
كما يعتبر العدل عند أحد فلاسفة العصر بمثابة الركائز الأخلاقية الأساسية، فهو ليس مجرد مسألة قانونية أو ماديّة، بل هو قيمة ترتبط بالمسؤولية الأخلاقية والالتزام الروحي للإنسان أمام الله والناس على حد سواء، مشددًا على أن “التوجه إلى المتجلي بالعدل ودوام التجرد من أسباب الظلم” يشكلان قاعدة لا غنى عنها لأي مجتمع متوازن. ومن خلال هذا الربط بين الأخلاق والسياسة والدين، يقدم طه عبد الرحمان نموذجًا للحداثة التي لا تتحقق إلا إذا أقيمت على أسس روحية وأخلاقية، لا على المصالح المادية وحدها. 2
بهذا المعنى، يتحول العدل من مجرد مفهوم نظري إلى مبدأ عملي يوجّه السلوك الفردي والجماعي، ويضمن أن تظل الحرية والحقوق متوازنة مع المسؤولية والواجب، بما يعكس روح الحداثة كما يراها طه: حداثة قائمة على الأخلاق والائتمان بين الناس والله. وفي نفس السياق الأخلاقي يعتبر إمانويل كانط بأن “العدل هو مجموع الشروط التي يمكن أن تتوافق بموجبها حرية إرادة الفرد مع حرية إرادة الآخرين وفق قانون عام للحرية.” 3 وعلى هذا الأساس يعتبر العدل في المنظومة الكانطية ليس شيئًا ماديًا أو ناتجًا عن القوة أو المنفعة، بل هو نظام أخلاقي وقانوني يسمح بأن يعيش كل فرد حرًّا، بشرط أن لا تتعارض حريته مع حرية الآخرين. ومن هنا نخلص إلى إقرار الحق الإنساني في العيش المشترك وفق حريات محترمة بين كل الأجناس البشرية ضمن قانون “لا إكراه في الدين” حسب التعبير القرآني نفسه.
قاعدة الإحسان في مقابل الأنانية المستعلية: ليس هناك من بند ضامن لسيادة العدل واستمراره إلا مبدأ الإحسان الذي يضفي قيمة الجمال والجلال على أي فعل وحركة لبني الإنسان، بما هو إتقان في العمل، وإكرام للآخرين، وإخلاص لرب العالمين. ولعله لحكمة بالغة أن يقرن الله بين العدل والإحسان وأن يجمع بينهما في أمر واحد في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
ولأن الإحسان وإن كان فضيلة مستحب، فإنه يعد بمثابة (الغشاء السلوي) الذي يحيط بالجنين داخل الرحم ويحميه من الصدمات. يقول الإمام السعدي في تفسيره “والإحسان فضيلة مستحب، وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والعلم، وغير ذلك من أنواع النفع، حتى إنه يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول وغيره” 4. وفي الحديث النبوي تبرز مركزية الإحسان بين الخلق بصيغة توكيدية، لعل الناس يفهمون ولعلهم يعملون، يقول: “إنَّ اللهَ كتَبَ الإحسان على كلِّ شيءٍ، فإذا قتَلتُم فأَحْسِنوا القِتْلةَ، وإذا ذبَحتُم فأَحْسِنوا الذَّبْحَ، ولْيُحِدَّ أحَدُكم شَفْرتَه، ولْيُرِحْ ذَبيحتَه. “ 5.
وإذا كان الإحسان مطلوبا حتى عند ذبح الحيوان فما بالك بالإنسان الذي أكرمه الخالق وأعلى من شأنه في قوله ولقد كرمنا بني آدم…[الإسراء/70].
لقد لخص الإمام المجدد عبد السلام ياسين الكلام عن الإحسان في قوله «الإحسان أن يُحسِن العبد عبوديته لربه، ويُحسِن إلى خلق الله، ويُحسِن العمل في الأرض. فالمؤمن المحسن لا ينغلق في خلوته، بل يعيش للناس، ويُصلح فيهم. » 6.
وعليه فإن الإحسان هو مطلب كل أهل الأرض وحوله يتيسر اللقاء من أجل بلوغ المرام في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وبما أن من معاني الإحسان خدمة الآخرين وتقديم أعمال الخير للناس، فقد حث على ذلك ديننا الحنيف في أكثر من مناسبة سواء في القرآن الكريم أو في السنة النبوية، ويشهد على ذلك قوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[البقرة/83] وقوله صلى الله عليه وسلم: “أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ؛ أَحَبُّ إليَّ من أن أعتكِفَ في هذا المسجدِ -يعني: مسجدَ المدينةِ- شهرًا، ومن كظم غيظَه ولو شاء أن يُمضِيَه أمضاه؛ ملأ اللهُ قلبَه يومَ القيامةِ رِضًا، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يَقضِيَها له؛ ثبَّتَ اللهُ قدمَيه يومَ تزولُ الأقدامُ” 7. فتقديم العون لإنقاذ البشرية هو خلق عظيم وعمل مقدس تلتقي فيه كل أصحاب الديانات وذوي المروءات.
قاعدة الآدمية في مقابل الجنس الآري: إن الغاية من خلق بني البشر تكمن في التعارف والتعاون على عمارة الأرض، مهما تباينت الأجناس واختلفت المذاهب وتباعدت العادات، يقول الله: 8[الحجرات /13]. “لتعارفوا” أي لتعاونوا على عمارة الأرض، وقطع سبل الشر أمام كل مستعل ومفسد فيها.
ويوم يصبح الناس سواسية أمام العدالة والقانون قولا وفعلا دون اقتفاء أسلوب المعايير المزدوجة في الدفاع عن حقوق الإنسان، آنذاك سيعود الأمن والسلام إلى هذه الأرض وستنتصر الكرامة الآدمية على روح الشر المطلق. ودون ذلك معارك فكرية تتشابك ودفاعات حقوقية تترافع وخطابات علمية تترفع عن الدونية والدوابية. ولهذا فإن مطلب المساواة هو مبدأ كل إنسان حر ينشد الخلاص من قبضة الظلم والاستبداد. وهذا ما يؤكده الخطاب النبوي القويم لتحرير الإنسان وتحقيق الوحدة الآدمية في قوله صلى الله عليه وسلم “يا أيها الناسُ! إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ قال: فيُبَلِّغُ الشاهدُ الغائبَ” 9.
هذه بعض القواعد المهمة في اللقاء الإنساني الطموح، وعلى أساسها ينبغي أن تعمل الهيئات العلمية والفكرية والجمعوية من أجل تقليص الفجوات وتقريب الرؤى الساعية لبناء قوة إنسانية إيجابية يستحيل على أصحاب نظريات الميوعة والفساد في الأرض تجاوزها ومدافعتها.
وهذا اللقاء الإنساني التاريخي بين كل الغيورين من أحرار العالم ضد المسخ الثقافي والشر المطلق حتما سيحصل، لأن اتجاه التاريخ يسير نحو تحقيق العدالة المنتظرة في استرجاع الكرامة الآدمية إلى أصلها المقدس.
[2] طه عبد الرحمان، كتاب روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية.
[3] إيمانويل كانط، كتاب ميتافيزيقا الأخلاق.
[4] الإمام السعدي، تيسير الكريم الرحمان.
[5] حديث أخرجه أبو داود في سننه.
[6] عبد السلام ياسين، كتاب الإحسان.
[7] الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط.
[8] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
[9] الحديث أخرجه الامام أحمد في المسند.