حاجة العالم إلى ميثاق إنساني وأخلاقي (1/2)

Cover Image for حاجة العالم إلى ميثاق إنساني وأخلاقي (1/2)
نشر بتاريخ

1.   مكارم الأخلاق دستور الانسانية

إذا نظر الإنسان العاقل في جوهر البعثة المحمدية يمكن أن يلخصها في بعدين اثنين:

أولها دلالة الناس على الخالق بحيث يصبحون متحررين من كل القيود الأرضية التي تستعبدهم وتقتل فيهم روح المعرفة المتصلة بأصل وجودهم منذ العهد الأول من الاعتراف التأسيسي للخلق، حيث أشهدهم الله على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ. [الأعراف/آية172]

وثانيها: إتمام مكارم الأخلاق؛ ومن يتأمل المجتمع الجاهلي قبل الإسلام يجد سيادة دستور الأخلاق والاحتكام إلى الضمير الإنساني أمرا معروفا ومنتشرا بين الناس، فمثلا حينما حوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات وقد فرضت عليهم المجاعة والمقاطعة الاقتصادية والسياسية، ظهر بعض ذوي المروءات الانسانية، والنظراء في الخٰلق 1، من الأفراد والقادة يستنكرون هذا الحصار ويتساءلون “أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم جوعى”! والذي أثر في بعض النفوس، مما أدى إلى محاولات لتخفيف الحصار ومن ثم انتهائه. وكذلك لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في جوار المشرك المُطعِم بن عدي بعد عودته من الطائف، حيث منعته قريش من الدخول، فوافق المُطعم على حماية النبي، فتسلح هو وأبناؤه ووقفوا أمام المشركين للدفاع عنه، مما مكّن النبي من الدخول إلى المسجد الحرام والطواف بالبيت، وذلك قبل فتح مكة بسنوات.

والأمثلة في هذا السياق كثيرة ومتنوعة سواء في الكرم والشجاعة والوفاء.

نعم إنها الأخلاق الإنسانية في أبهى تجلياتها. وبهذا أٰمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يظهر هذا الخلق الإنساني الرفيع، ويعمل بموجبه مع من استجاره من المشركين، فخاطبه المولى قائلا ” وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ” [التوبة/6].

 فلا عجب إذا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن خطابا مدويا في القوم، مبينا الغاية العظمى من بعثته: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” 2. وكأن رسالة الإسلام كلها مبنية على ركائز الأخلاق ومحصورة فيها، فلا قيمة لأي تدين من دون أخلاق؛ ولعل قصة وفاة امرأة في العهد النبوي وإخبار النبي بدخولها النار، رغم أنها كانت قوّامة صوّامة، لخير مثال على التدين الأجوف! 3.

2.   عود على بدء…

ها هي فلسطين الآية.. فلسطين البوصلة… فلسطين الميزان! تحرك من جديد وجدان أصحاب الضمائر الحية لينتفضوا في وجوه الصهيونية العاتية التي لطالما استغفلت العالم من حولها بسرديتها الكاذبة عبر التاريخ. ها هي الآن تتزعزع أعمدتها على يد أحرار العالم الذين يبلغون صوت المظلوم ويحملون على عاتقهم مسؤولية نصرة شعب صودرت منه أراضيه بالنار والحديد منذ أزيد من سبعين عاما، هاتفين بكلمات تعيد الأمل إلى قلوب مكلولة مكدودة، من قبيل شعار “من النهر إلى البحر فلسطين ستنتصر”…

هذه الحركة للشعوب عبر العالم يجمعها رابط واحد صلب وقوي؛ إنه رابط “الضمير الحي والخلق الحسن” وهو يصح أن يكون مدخلا أساسيا لبناء وحدة الإنسان العالمي التي يراد لها أن تتفكك وتتهاوى عن طريق وضع برامج ممنهجة، تحول الإنسان إلى آلة يفعل بها ولا تفعل. لكن هيهات هيهات، وقد رأينا أسطول الصمود من جنسيات شتى، كبرهان عملي على التضامن الإنساني مع المظلوم ولو كان ذلك على حساب حياتهم! ورأينا اعتصامات جريئة وسط الساحات الجامعية لطلاب أمريكا والغرب عموما وهم يغامرون بمستقبلهم العلمي والمهني..! ورأينا شابة مسلمة في بلاد الغرب تقف شامة بين الأقران لتعلن انسحابها من أكبر شركة عالمية “مايكروسوفت”، لأنها تساند وتقدم خدمات الذكاء الاصطناعي في الإبادة الجماعية، غير آبهة (أي الشابة المسلمة) بالحظوة الاجتماعية والمادية التي يسيل لعاب الناس عليها!! ورأينا بعض الدول الأوروبية استطاعت أن تقطع علاقتها بزعيم الشر المطلق، بعد أن حركها نبض الشارع الذي لم يتوقف طيلة الإبادة اللعينة… ورأينا مواقف فردية لا تخطر على بال؛ كمثل ذلك الرجل العسكري الأمريكي الذي أقدم على إضرام النار في جسده احتجاجا على الإبادة الجماعية ضد شعب أعزل بفلسطين… كل هذه المشاهد والوقائع التي حدثت من أجل إسقاط الظلم وإنهاء الغطرسة الصهيونية هي رسالة قوية لأصحاب الضمائر الحية تقول: “من هنا البداية من هنا الخلاص”.

إنه لا خوف على المستقبل مادام في الناس وازع “مكارم الأخلاق”. فإنها تمثل قاعدة صلبة من أجل دفع الشر المطلق الذي يهدد الوجود كله، وإنه لا فعل في التاريخ قوي ومستمر إلا بتأسيس ميثاق عالمي يوحد ويجمع كل الحركات الاجتماعية التي تسعى لتحرير الإنسان وانتصاره على الفساد والمفسدين.

هذا الميثاق يكون ذا صبغة أخلاقية بالدرجة الأولى، يترجم لفعل جماعي صادق وأسلوب عمل مؤثر وقابل للتنفيذ. كما تكون أيضا منطلقاته وضوابطه مبنية على قواعد آدمية متينة ومؤطرة لدفع كل مصادر الشر، وجلب كل موارد الخير.


[1] من روائع نهج البلاغة للإمام علي كرم الله وجهه “الناس صنفان إمّا أخوك في الدين أو نظيرك في الخلق”.
[2] أخرجه الامام البيهقي في سننه.
[3] قالوا: يا رَسولَ اللهِ، فُلانةُ تَصومُ النَّهارَ وتَقومُ اللَّيلَ، وتُؤذي جيرانَها؟ قال: هيَ في النَّارِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، فُلانةُ تُصلِّي المَكتوباتِ، وتَصَّدَّقُ بِالأَثوارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ. ” أخرجه الامام أحمد والبزار وابن حبان مع اختلاف يسير.