واحدة من أولئك النساء العظيمات اللواتي أنعم الله عليهن بصحبة خير الورى عليه الصلاة والسلام، وحظين بشرف التلمذة المباشرة على يديه الشريفتين فنلن كمالهن بما صدقن في الاستجابة للتربية النبوية، وبما سجل لهن التاريخ البشري من مواقف خالدة ظلت على توالي العصور والأزمان نبراسا للمؤمنات المشرئبة أعناقهن إلى نماذج حية للكمال البشري.
زوجها الصحابي الجليل أبو الدحداح، ثابت بن الدحداح أو الدحادحة، بن نعيم بن غنم بن إياس، أحد الصادقين في دين الله المتاجرين مع رب العالمين بما يملك من مال ونفس، باع واشترى وغنم. وشاركه في ذلك الربح أهله وعياله رضي الله عنهم أجمعين.
كانت أم الدحداح على موعد مع دعوة الحق، حين قدم سفير الإسلام الأول، سيدنا مصعب بن عمير أو مصعب الخير كما كان يناديه رسولنا ومعلمنا عليه الصلاة والسلام، إلى المدينة داعيا ومبشرا، فلم تكن رضي الله عنها لتتأخر عن الاستجابة لداعي الله ورسوله، هي وزوجها وباقي قومها، وبذلك تبدأ صفحة جديدة من حياة أهل المدينة عامة، وحياة أسرة أم الدحداح خاصة.
اختيار باستقلال
عندما علمت أم الدحداح رضي الله عنها بما فعل زوجها برزقها ورزق عيالها، حين تصدق بنصف ماله للمسلمين، لم تجز ما فعل فحسب، بل اعتبرت ذلك بشرى لها، ولم تملك نفسها من شدة الفرح، فجادت قريحتها بأبيات شعرية تنم عن عمق إيمانها، وتريح بال زوجها وترضي رب العالمين، مما يعطي دليلا قاطعا لكل مؤمنة أن اختيار الصحابيات الجليلات ومواقفهن الخالدة لم تكن جَبرا من زوج أو أب أو أخ، بل اختيارا مستقلا وقناعة ذاتية، وإلا فالمجبر لا ينشد شعرا! ولا غرابة فقد كانت الواحدة منهن، رضي الله عنهن، تشترط على خاطبها الدخول في دين الإسلام، بل وتكتفي بإسلامه مهرا لها، فكيف إذا كان الزوج مؤمنا ومجاهدا؟ إنها مدرسة النبوة حيث تخرج جيل من الرجال والنساء يؤثرون الباقي على الفاني وتتحد إراداتهم في طلب وجه الله والدار الآخرة.
وإليكم القصة كاملة:
كان لأبي الدحداح حديقتان وافرتا المياه طيبتا الثمار هما كل ما يملك من متاع الدنيا، فما أن سمع قوله تعالى:من ذا الذي يقرض قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم [الحديد، 11] حتى سارع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستوضحا، يريد أن يفهم عن ربه عز وجل، قال: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ لله درك يا صاحب رسول الله، ما أرفع ذوقك وأنت تخاطب نبيك وما أعمق إيمانك حين تسأل عن دينك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعم، يريد أن يدخلكم الجنة به” قال: فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحادحة معي الجنة؟ نعم الأبوة يا سيدي أبا الدحداح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “نعم”، قال: فناولني يدك، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقال إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا لله تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لعيالك”، ما كان المربي الرحيم ليغفل أمر العيال، قال فأشهدك يا رسول الله أني جعلت خيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذن يجزيك الله به الجنة”. فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع الصبيان في الحديقة تدور تحت النخيل، فأنشأ يقول:
هداك الله سبل الرشاد ** إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد ** فقد مضى قرضا إلى التناد
أقرضته الله على اعتمادي ** بالطوع لا مَن ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد ** ارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زاد ** قدمه المرء إلى المعاد
وذوق رفيع أيضا وأنت تخاطب امرأتك، تلطف في الإخبار، وإقناع في الترغيب! يا لمدرسة النبوة.
قالت أم الدحداح رضي الله عنها: ربح بيعك، بارك الله لك فيما اشتريت، ثم ردت على شعره بما يماثله فقالت:
بشرك الله بخير وفرح ** مثلك أدى ما لديه ونصح
قد متع الله عيالي ومنح ** بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح ** طول الليالي وعليه ما اجترح
أقول: هل هناك حوار أرقى في أدبه وأرفع في ذوقه من حوار هذين الزوجين العظيمين، رغم طول العشرة بينهما ووجود من قد يكون وجوده عند باقي البشر مجبنة مبخلة؛ أي الأبناء؟
ثم أقبلت أم الدحداح على صغارها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر! ليس هناك ما هو أثقل على قلب الأم من نزع ما بيد طفلها ولكنه الإحسان في العمل والإنابة إلى دار البقاء والتجافي عن دار الغرور، والطمع فيما عند الله عز وجل. فقال صلى الله عليه وسلم “كم من عذق (العذق: ما يشبه العنقود من العنب) رداح (عظيم) في الجنة لأبي الدحداح”.
بلغتم المنى يا آل أبي الدحداح
كانت صحابيتنا الجليلة على علم بما حذرنا منه رب العالمين عز وجل حين قال: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم (التغابن، 14)، فاختارت أن تكون في الطرف المرضي، حيث تكون المرأة زوجا إيجابيا لزوجها في الدنيا والآخرة، فينفقان معا مما يحبان. ففازت رضي الله عنها وفاز زوجها وأسرتها وربح البيع. فأعذاق التمر هناك متدلية والجنان وارفة الظلال مبتهجة لقدوم أبي الدحداح وآله، وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ألحقنا الله بهم في الصالحين.
أم الدحداح والصبر على فقد الزوج
لم تقدم أم الدحداح حديقتها الغناء هدية للمسلمين فحسب، حبا في ذات الله، بل ما لبثت أن قدمت أيضا زوجها الغالي أبا الدحداح، شهيدا في غزوة أحد، حين تفرق المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسقط في أيديهم، فتقدم هذا الرجل العظيم صائحا بأعلى صوته: “يا معشر الأنصار إلي أنا ثابت بن الدحداحة، قاتلوا عن دينكم فإن الله مظهركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار فجعل يحمل بمن معه من المسلمين، أي يهجم على العدو، وقد وقفت له كتيبة خشناء شديدة البأس، فيها رؤساؤهم: خالد بن الوليد، عمرو بن العاص، عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب. فجعلوا يناوشونهم وحمل عليه خالد بن الوليد الرمح فأنفذه، فوقع ميتا رضي الله عنه”.
فاسترجعت سيدتنا أم الدحداح حين جاءها الخبر، واحتسبت وصبرت. وأثل الصحابي الجليل لأمة الإسلام موقفا عظيما في الرجولة والتضحية بالنفس (حيث كان الحق بينا والباطل بينا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المسلمين. أما وقد اختلط الأمر على المسلمين اليوم وعمت الفتنة، فإن جهاد التربية والتعليم، وجهاد الوضوح والرحمة بأمة الإسلام، وجهاد الكلمة والموقف، وإسداء النصيحة للمسلمين، من أولى أولويات الجهاد). وقد صدقت رضي الله عنها وأرضاها في مدحه بقولها “فمثلك أدى ما عليه ونصح”.. نعم لقد أدى الصحابي الجليل ما عليه، ونصح لله ولرسوله ولهذه الأمة رضي الله عنه وأرضاه. ونقول لسيدتنا الجليلة، وأنت أيضا عليك رضوان الله أديت ما عليك ونصحت، فما كل امرأة تقدر على مثل ثباتك وصبرك ومساندتك لزوجك، وأنت تعلمين أن طريق الجهاد محفوف بالمكاره، ولديك أطفال سيتطلب أمر تنشئتهم أن تكوني لهم أما وأبا في ذات الوقت، فجزاك الله خيرا عنا وعن دين الإسلام.
ما أعظم أن تتفق إرادة الزوجين فيما يرضي الله عز وجل، وما أعظم أن تكون الزوجة أول محفز للزوج وأول دافع له حتى ينهض لطلب وجه الله الكريم.
الروح والمعنى لا الشكل والمبنى
مرادنا حين نقتفي خطى من صحبن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهن، أن “نقرأ حياتهن قراءة جديدة نقرأها على أنها دروس تربوية تطبيقية من هدى الله وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم. دروس تتحدانا وتعلمنا وتقرب إلينا لنتحلى بالروح ونتحلى بالخلق وننبعث بالإرادة في بيئة أخرى، أشد تعقيدا وأعظم ابتلاء من بيئتهن… لب الدروس التطبيقية التربوية وخلاصتها وزبدتها هو انتقال أَمَة الله الصحابية وعبد الله الصحابي من ضلال السعي للدنيا في الدنيا، ومن إرادة الدنيا للدنيا، ومن الاستهلاك في الدنيا مع بنات الدنيا وأبناء الدنيا، إلى السير المهتدي، إلى إرادة الآخرة، إلى إرادة وجه الله عز وجل حبا له وخشية منه، وتهمما بلقائه، واستعدادا للعرض عليه بالتوبة والاستغفار والعمل الصالح” [تنوير المومنات للأستاذ عبد السلام ياسين 2/ 348 – 349].
ولا يهم بعد ذلك إن كنت في بيئة حضرية أو قروية، إن ركبت الدابة أو الطائرة، إن كان اسمي فلانة أو أم فلان، المهم بأي قلب أكون، قلب متعلق بربه ساع لمرضاته، أم قلب لاه غافل عن مصيره لا يفيق حتى تأتيه منيته.
للَّهِ درُّ أقْوامٍ تركُوا الدُّنْيا فأصابُوا
وسمعوا مُنادي {واللهُ يدعو} فأجابُوا
وحضَرُوا مَشاهِدَ التُّقى فما غابُوا
واعْتذَرُوا مع التّحْقِيقِ ثُمّ تابُوا
وقصَدُوا بابَ موْلاهُم فما رَدُّوا ولا خابُوا.