جنة الدنيا

Cover Image for جنة الدنيا
نشر بتاريخ

لم تكن جميلة سوى أما شابة، تعدّدت مهامها وتشابكت، حتى باتت تقوم بجميع المسؤوليات الملقاة على عاتقها وغير الملقاة.

أدّت أدوارها على أكمل وجه وتفنّنت في ذلك وأتقنت، كانت تسعدها كلمات الإطراء على أكلاتها الطيبة اللذيذة، وأخلاق أبنائها وحسن تربيتهم، وهندام زوجها الأنيق، وبيتها المرتّب النّظيف…

كانت حبيبة الجميع، تكرم الضيف، وتواسي الحزين، وتمسح عن آلام المريض، بحنانها الفياض ودفئها الشامل، لم تكن لتسمح بثغرة واحدة تطرأ على حياتها وأسرتها، ولا بكلمات نقد تتسلل إلى محيطها، وتثلَم ما تبنيه وما تسعى إليه.

لكنها ومع كل هذا التفاني، وهذا الحب الذي أهدته للجميع، نسيت أن تكون حبيبة نفسها.

نعم لم تغدق على روحها التي بين جنبيها ما أغدقته على الآخرين.

أصبحت كزهرة آيلة للذبول في أية لحظة، يراود نفسها الإنهاك والضمور، وتسلب منها الطمأنينة كل يوم، ومع تدينها وتشبثها بمبادئها الإسلامية، إلا أنها تنسى كثيرا استحضار النية الخالصة في جلّ أعمالها، أو كان ينقصها الإخلاص؟

لا وألف لا، كانت صادقة في كل ما تعمله وتبذله، لكن النسيان والغفلة غلبا عليها وأصبحت كلّ أعمالها قريبة من الرتابة والروتين اليومي.

أحست أنها تفعل كل شيء لغيرها، لكنها لا تعمل شيئا لذاتها هي.

أو مع كل هذا التفاني والجهد والتعب، لا تعمل شيئا؟

لم تستطع إسكات هذا الضجيج الذي يعمل في عقلها ليل نهار، ولم تهدإ الأصوات التي تتكلّم داخلها.

جالت بعقلها إلى أحداث كثيرة فاتتها، وإلى مواقف ضيّعتها، ومجالس غابت عنها بحجج كثيرة، أغلبها واهية. لم ترتّب أولوياتها، ولم تصنف إنجازاتها وفق الدنيا والآخرة، لتجد نفسها رجحت كفة الدنيا على حساب كفة الآخرة.

هي ليست نادمة على ما قدّمته لأسرتها وحضنها، لأن ذلك من صميم مهمتها.

لكنها غيّبت في هذه المقاصد حتى أصبحت كتلة بشرية جامدة، لا تثيرها الأحداث، ولا تحركها الأشياء حولها.

مع كل ما قدمت وفعلت كانت بحاجة إلى كلمة رقيقة تحيي فيها ما اغتالته دوامة الحياة، وإلى مجلس ذكر ترطب به قلبها الجاف، وإلى صحبة صالحة تأخذ بيدها إلى جنة الدنيا والآخرة، كانت بحاجة إلى ركعتين في ليل طويل تحركان فيها بواعث الإيمان وإلى وعظ رفيق يذكرها بالآل والمآل.

أو لم تستطع طوال هذه السنين اقتطاع ساعتين في الأسبوع لتخرج إلى حلقة من حلق الآخرة؟

أصبحت كشجرة اجتثت من الأرض، وصارت معرضة للهلاك.

أو قطعت عن جذورها وهي التي كانت مثل النحلة تطير من مجلس إلى مجلس؟ أين سنوات الوصال التي قطعتها تحفظ وتحفّز وتذكّر؟ !

ألا تحنُّ إلى تلك الجذور وإلى سنوات الوصال تلك، وإلى لحظات غيّرت مجرى الزمان، وإلى أماكن شهدت لها بالصدق والجهاد؟!

ماذا جرى لتنسى أشياء لا تمحيها الأيام ولا يطويها النسيان؟!

نظرت إلى القطار الذي يمضي مسرعا ولا يتداركه إلا خفاف الأجسام والأمتعة. نفضت عنها غبار أثقالها، وتخففت من أمتعتها الثقيلة، وقرّرت اللحاق بالقطار قبل أن يغيب أو يُغيّب عن ناظريها، ستلحق به مهما كان الثمن.

أو كانت طمأنينة نفسها تستدعي منها كل هذا الجهد؟ نعم، هي بحاجة إلى ذلك، حتى تُعيد بناء نفسها وروحها التي استهلكت في دوامة الحياة، ما بين أكل وشرب ونوم وتنظيف.

آن الأوان أن تستيقظ من سباتها وتُرمّم ما ضاع منها في خضم هذا اليم العميق، بحاجة هي إلى معاودة الولوج إلى جنّة الدنيا لتنعم بجنة الآخرة.

لن تعود، كلاّ، مهملة، بل صانعة وفاعلة.

تتأثر بكل ما يروج في هذا العالم الموّار، وتساهم في البناء داخل مملكتها وخارجها، واضعة نصب عينيها: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.