جماعة المسلمين.. من أجل رؤية تبني الصرح وتوحد الصف (4)

Cover Image for جماعة المسلمين.. من أجل رؤية  تبني الصرح وتوحد الصف (4)
نشر بتاريخ

المحور الرابع- جـماعـة المسلمين.. مـؤسستان

نظرة تاريخية

إذا نظرنا من أعالي تاريخنا نجـد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بناء جماعة المسلمين الأولى على مؤسستين متكاملتين – قل إن شئت درعين وقائيين – مؤسسة دعوة، ومؤسسة دولة، كانتا متحدتين في الوجهة والمصدر، متكاملتين في الدور والوظيفة لكل واحدة منهما وظيفتها ورجالها وأجهزتها خدمة لأمر الله الجامع إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون 1 .

– مؤسسة دعوة: تحمل هم الإنسان وعلاقته بمولاه ومصيره وآخرته. الهم الأصل والقضية الكبرى والغاية العظمى؛ الغاية الإيمانية الإحسانية التي من أجلها بعث الله رسله صلوات ربي وسلامه عليهم جميعا.

– مؤسسة دولة: تدير وتسهر على الشؤون العامة للأمة، همها المعاشي الدنيوي من اقتصاد وأمن وثقافة وإعلام وكل كبيرة وصغيرة من وسائل القوة التي أمرنا بإعدادها في جميع مناحي الحياة، تأتمر بأمر الدعوة، وتقع تحت مراقبتها؛ خدمة للقضية والغاية الأولى؛ الدعوة إلى الله عز وجل والدلالة عليه؛ استعدادا للقائه.

لقد كان لرجال الدعوة؛ أهل القرآن والإحسان، مكان الصدارة والسيادة والإمامة في كيان دولة القرآن التي سلفت، مع الأمة مكانهم؛ تربيتها وإيقاظها وبث الوعي في سوادها؛ لتكون أمة حية تراقب وتحاسب وإن اقتضى الأمر تعزل كل من زاغ أو حاد عن المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله، وكان رجال الدولة أهل السلطان والإدارة وازع القرآن عليهم سلطانا غلابا تسكن جوانحهم ودواخلهم بواعث الخوف من الله عز وجل، فلا يدعون إلا إلى تعظيمه سبحانه وحده لا شريك له، ولا ينصرون إلا كتابه، ولا ينضبطون إلا لأمره – سرا وعلنا – ولا يأمرون إلا بما أمر به، ولا يستعينون إلا به، ولا يتوكلون إلا عليه، ولا يخدمون إلا الدعوة ورسالتها ولا ينصرون إلا رجالها ومؤسساتها. إنه أساس صلب وقاعدة متينة أسست عليها الجماعة الأولى على عهده صلى الله عليه وسلم، وعليه صارت زمن الراشدين المهديين من بعده.

بانحدار تاريخ الأمة إلى الملك العاض الذي حذرنا منه سيد ولد آدم وكشف لنا عيوبه وسيئاته، واستحكام سطوة السيف وتأمر أهله واستيقاظ العصبية المنتنة التي أمرنا بتركها، وقع تصدع وانشقاق بين أهل الدعوة والدولة، فدارت رحى الإسلام وافترق السلطان عن القرآن، وخاصم السلطان القرآن بعد ثلاثين سنة من انتقاله إلى الرفيق الأعلى كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم: “… ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن كتاب الله والسلطان سيختلفان، فلا تفارقوا الكتاب…”، دارت رحا الإسلام دورتها القدرية فأصبح السيف مسخرا لنصرة النفس والهوى وتوطيد أركان القهر والعسف على كل من خالف أو قام لتغيير المنكر الأكبر مناط بلاء هذه الأمة تصحيحا للمسار لتعود الأمور إلى نصابها، فانعزل أهل الدعوة عن الشأن العام للأمة، منهم من انعزل كرها؛ لأن السيف المصلت على الرقاب أمر غالب، ومنهم من انعزل اضطرارا؛ تفرغا للدفاع وحماية عقيدة الأمة من أهل البدع والأهواء، وآخرون منهم استكانوا طوعا؛ رضى بالواقع؛ وحفاظا على شوكة الإسلام و”وحدة” الأمة 2 . اجتهادات منهم وقدر من الله يمضي نحو وعده، والله غالب على أمره. فأصبحت الدعوة زينة يجامل بها حكام العض والجبر الأمة حيث يستنصر السلطان بالقرآن، يتنازل السلطان فيهتم بالدعوة، يضع الدعوة إلى جانبه في أشخاص علماء القصور فتعتز بقربها منه أو يضعها تحت إبطه في طي جلابيبه. يستنصر السلطان بالقرآن يتكئ عليه ليظهر للأمة بمظهر أقوى مما يخوله طروؤه على الأمه؛ وتسلطه عليها، وارتقاؤه على رقابها بغير رضاها. وفي كل هذه الحالات فالسلطان أصل والدعوة فرع، السلطان إمام والدعوة مأمومة، السلطان سيد والدعوة تابعة) 3 . إنه قلب للوضع وخيانة للعهد، وانتكاس عن الأصل الأول لدولة القرآن التي سلفت، فكيف يكون الوضع في الثانية الموعودة المرجوة بإذن المولى العلي العزيز؟

في مستقبل دولة القرآن

في طريقنا نحو بناء مستقبل دولة القرآن، ورأب الصدع الذي وقع بين الدعوة والدولة نرجع إلى أعالى تاريخنا المشرق نورا، الناصع بياضا، الفياض رحمة ورفقا، المنتشر عدلا، نجعله نبراسا ومنارا نكشف به سلامة وقوة البناء، ونرجع إلى أسافله نظرا واعتبارا وبحثا. كيف وقع الزيغ والانحراف في الحكم بعد ثلاثين سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف افترق السلطان عن القرآن؟ كيف خاصم السلطان القرآن؟ كيف ذابت الدعوة في الدولة وأصبحت الدعوة زينة ومظهرا وتابعة لتبرير السطوة والاستحواذ على خيرات الأمة أحيانا؟ وكيف أبعدت واضطهدت أحاين أخرى؟

ألا وإن مستقبلنا سيكون مضببا ومشوشا غاية التشويش إن لم نعـد إلى تاريخنا استلهاما واعتبارا لنعيد الوضع بين الدعوة والدولة إلى أصله ومساره الصحيح كما كان عليه في العهد الأول.

1- لرجال الدعوة مكان الصدارة في إمامة الأمة

إذا كان ”العلماء ورثة الأنبياء” كما جاء في الحديث المشهور، والله عز وجل أرسل رسله وأنبياءه ليكونوا على رؤوس الأشهاد يستهدى بهم ويقتبس من نورهم وعلمهم؛ توجيها وإرشادا ودلالة على المولى سبحانه. فإن تمام الوراثة الكاملة للنبوة أن يكون لرجال الدعوة، رجال التربية والعلم مكان الصدارة والقيادة والإمامة في الأمة، وبه تحتل الغاية الإيمانية الإحسانية الصدراة، فتصطف السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والتنظيم، وكل كبيرة وصغيرة في كل مجال من مجالات الحياة، في أماكنها النسبية، تأتمر بأمر الدعوة، وتسعى لنشر الدعوة) 4 .

فتبليغ دعوة الله عز وجل، وإيقاظ الأمة من سبات الغفلة، وتربية سوادها على شعب الإيمان والارتقاء به في مدارج الإحسان مهنة وقضية رجال الدعوة، وهي لب رسالة الله عز وجل إلى العالمين وأساس البناء. فالبناء النفسي أساس ترتفع عليه هياكل الدولة وإلا كانت صنما وطاغوتا) 5 .

2- ابتعـاد رجال الدعوة عن دواليب الحكم

إن لممارسة السلطة مزالق تؤدي إلى مهالك -إلا من رحم الله- لما تحدثه من تغييرات نفسية على شخصية ممارسها، ولنا في التاريخ نظرة وعبرة؛ كم من دعوة صادقة انطلقت بريئة في مقصدها، سامية في غاياتها فحولتها ممارسة السلطة غولا تحير من هول ممارساته وبشاعة اقترفاته العقول. إنها الدنيا وانبساطها ومنافستها والحرص عليها، مهلكة لمن ركن إليها. اللهم أجر أمة رسول الله من هلاك الدنيا والآخرة. أمر انتبه إليه من نزل القرآن يؤيده في بعض اجتهاداته، إنه الملهم عمر الفاروق ثاني الخلفاء الراشدين الذي منع كبار الصحابة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من مغادرة المدينة المنورة وأجزل لهم العطاء ورفض أن يتولى أحد منهم ممارسة سلطة سياسية في دواليب الدولة؛ خوفا عليهم من أن تدنسهم الدنيا، لأن أصل مكانهم مع الأمة تربية وتنظيما وتجنيدا، لتبقى أمة حية يقظة مراقبة. مراقبة تحمي الدولة ورجالها من التغول والتفرعن والزيغ عن أصل الرسالة؛ نصرةً للقرآن وأهله، وانقيادا إلى الله وأمره، لا مراقبة تجثم على أنفاس الدولة لتحبسها وتشل حركتها، وتكبح اجتهاداتها في التدبير والتسير وإيجاد الحلول. ومن جهة أخرى كي يبقى للدعوة مكانتها وقدرها وكلمتها بعيدا عن المساءلة والمحاسبة الناتجة عن فشل سياسة الدولة في مجال من المجالات -وهو أمر وارد- فلا يربط فشل الدولة بفشل الدعوة، فيتطاول على هيبتها 6 .


[1] سورة النحل الآية 90.\
[2] لله در الإمام أحمد لقد تصدى لوحده لفتنة جارفة كادت تودي بعقيدة الأمة. فتنة خلق القرآن.\
[3] ن. ص: 37.\
[4] ن. ص: 33.\
[5] ن. ص: 37.\
[6] هناك ضوابط أخرى حول العلاقة والوضع بين الدعوة والدولة في مستقبل دولة القرآن مبثوثة في العديد من كتب المرشد عبد السلام ياسين، منها: المنهاج النبوي، العدل، وغيرهما، لمن أراد رؤية متكاملة في الموضوع.\