جماعة المسلمين.. من أجل رؤية تبني الصرح وتوحد الصف (1/5)

Cover Image for جماعة المسلمين.. من أجل رؤية تبني الصرح وتوحد الصف (1/5)
نشر بتاريخ

تقديم

أرسـل الله عـز وجل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، قام داعيا إلى الله، مبشرا منذرا للناس بين يدي الآخرة، فجمع الله له الأخيار من الناس، زكى أنفسهم، وألف بين قلوبهم، ونظم صفوفهم وعقدهم في جماعة هو قائدها ومدار حركة جهادها، والمهاجرون والأنصار نواتها، والولاء لله عز وجل ورسوله والمؤمنين رابطتها، أسست على تقوى من الله وحمل الرسالة الرحيمة للإنسانية جمعاء. تربية نبوية تلقاها الصحابة وسار على نهجها خلفاؤه الراشدون من بعده. غير أنه باستشهاد سيدنا علي رضي الله عنه وكرم وجهه، واستيلاء أصحاب اليد والقدرة حاملي السيف لا حاملي الرسالة) على زمام أمر هذه الأمة، وما صاحبه من تفرق صحابة رسول الله وانتشارهم في الأمصار بداية الأثر على وحدة جماعة المسلمين حيث شكل كل عالم من الصحابة نواة جماعة علمية دعوية تربوية) 1 . فرق بينها الرأي والطبع والاجتهاد والموقف السياسي) رغم أنهم تخرجوا جميعا من نفس مدرسة العلم والتربية والجهاد، في هذه المدارس تربى ونهل من معين علمها أجيال من التابعين، فتوالدت المدارس والمذاهب ونشأ الخلاف، ومع توالي الأجيال، وابتعادهم عما كان لهم من العهد الأول، واستحكام الملك العاض ومن بعده الملك الجبري، وما مر على هذه الأمة من فتن ومحن ووهن، وتجزئة وتشتيت لأقطارها واختلاف مذاهبها وتعدد حركاتها، وخمول وموت للإرادات والهمم، ضاعت وحدة جماعة المسلمين وانفرط عقدها، فغدت مطلبا عزيزا، يحن ويسعى إليه أخيار هذه الأمة وحكماؤها وخلص علمائها.

إن وحدة جماعة المسلمين قضية من أهم القضايا التي شغلت بال وجهد الإمام المجدد عبد السلام ياسين – رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له العطاء والثواب على ما بذل وضحى خدمة لمستقبل هذه الأمة – باعتبارها مخرجا للأمة من غثائيتها ووهنها وتفرقها وخمولها، وفي نطاقها تجتمع حركات الأمة وطاقاتها وقواها الحية التي لا تنكر معلوما من الدين بالضرورة؛ توحيدا لجهودها كي تعود إلى مكانتها؛ تبليغا لرسالتها. ونظرا لأهميتها كقاعدة أساسية يبنى عليها صرح دولة القرآن ويوحد في ظلالها صف الأمة، أفرد لها الإمام المجدد كتابا سماه “جماعة المسلمين ورابطتها” وهو كتاب ضمن سلسلة الكتب التي تؤسس لمشروع دولة القرآن، والذي تم اعتماده بين يدي هذا البحث استنطاقا لأفكاره واستشهادا بنصوصه من أجل مقاربة رؤيتة في الموضوع.

ما هي جماعة المسلمين؟ وما هي العـوامل التي كانت وراء تردد الناس واضطرابهم في معرفة هويتها؟ ومن يقود حركة جهادها؟ من هم نواتها؟ وما هي النواظم الجامعة لعقدها؟ ما هي مؤسساتها؟ كيف تصدعت وحدة الجماعة الأولى التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ما هي العقبات والتحديات التي تواجه رأب صدعها ولم شتاتها؟ مواضيع ضمن مواضيع أخرى عالجها الكتاب، ستتم مقاربة بعضها في هذه القراءة من خلال المحاور التالية:

أولا- جماعة المسلمين… تحرير المفهوم

– ما هي جماعة المسلمين؟

ما هي جـماعة المسلمين الواجب إقـامتها وبناؤها إن تفرق شمل الأمة وتوزعتها العصبيات وزجت بها تحت الرايات العميات؟ ما هي جماعة المسلمين التي يأثم ويموت ميتة الجاهلية من لم يكن معها؟

يقرر الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى أن تحرير جواب في فقه المسألة يقتضي من المتصدر له علما عميقا، وفهما دقيقا، وقبله وبعده ومعه استعانة بالمولى عز وجل وتوكلا عليه كي يقدح له وَميضاَ من حكمته خدمة لمستقبل هذه الأمة، موردا مذاهب الفقهاء وآراءهم في تعريف الجماعة الناجية من كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي؛ مختصرا هذه الآراء في خمسة توضح فقه المسألة:

1- إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام.

2- إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين.

3- إنها جماعة الصحابة بالخصوص.

4- إنها جماعة أهل الإسلام.

5- إنها جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير موافق للكتاب والسنة.

لقد خلص الإمام الشاطبي رحمه الله من هذه الأقوال، أن جماعة المسلمين هم أهل العلم والاجتهاد من علماء الأمة المعتبر اجتهادهم، سواء أضموا إليهم العوام أم لم يضموا، فالاعتبار لهم أولا لأنهم عارفون بالشريعة والعوام لهم تبع بحكم رجوعهم في دينهم إليهم.

إن الملك العاض الذي جثم على صدر هذه الأمة من زمن مبكر وعمد إلى تغيير مجرى تاريخها، وعزل علماءها عن الشأن العام وحصرهم في تخصصات فرعية من حديث، وأصول، وفقه، وفرائض، وفتيا، وحسبة، وتدريس، وتأليف… بل أدمج بعضهم في دائرة حكمه ونظامه، فالتبس في أذهان الناس واختلف مع مرور الزمن مدلول الجماعة، ومدلول العلماء، ومدلول الاجتهاد، ومدلول السنة، لذا فالإمام عبد السلام يتفق مع الإمام الشاطبي في منطوق اجتهاده حول جماعة المسلمين، من أنها العلماء المتصدرون لقيادة الأمة، وأن الاعتبار لهم أولا والسواد الأعظم لهم تبع. لكنه خلف هذا المنطوق المشترك يفهم غير ما يتوقع أن يقصده من كان في مثل زمن الشاطبي وظروفه وملابساته، فالسلوك الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان سلوك جهاد، والطريق كانت واضحة، والجماعة التي أسسها صلى الله عليه وسلم وجمع فيها أصحابه من المهاجرين والأنصار أول علماء ومجاهدي هذه الأمة بعده وساروا على نهجها كانت جماعة مجاهدة، العلم فيها يرجع إلى العمل الجهادي، ويؤدي إليه، ويدل عليه، والاجتهاد والسنة لا يتعلقان بفقه العبادات الفردية فقط، وإنما هما أيضا منهاج السلم والحرب، والشورى، والحكم والقضاء، وفتح البلاد، ونصرة الله ورسوله والمستضعفين) 2 . الجماعة عنده جماعة مجاهدة يقودها علماء مجتهدون ومجاهدون، جامعون ومجندون لسواد الأمة ساعون للارتقاء به من إسلام الخمول إلى مصاف الرجال حتى يصبح جسما منظما مهيئا مجاهدا مقاوما لأنظمة الفتنة زاحفا نحو إقامة دولة القرآن.

وفي الطريق إلى أن يلتئم شمل الأمة جميعا، وتتوحد أقطارها ومذاهبها تحت جماعة واحدة وإمام واحد، على علماء وحكماء كل قطر أن يجمعوا شمل الأمة داخل كل قطر، إما في:

– جماعة قطرية تنتظم في إطار تنظيمي واحد، تجمع بين المنتسبين إليها وحدة في الغاية والتصور والسلوك، تكون الطليعة المجاهدة لسواد الأمة داخل ذاك القطر.

– رابطة قطرية مؤلفة من متعدد التنظيمات إذا وجد داخل القطر الواحد تعدد العاملين لمستقبل الإسلام وأمة الإسلام. في هذه الحالة يؤكد الإمام المجدد أن توحيد هذه التنظيمات داخل رابطة متعاونة، متعاقدة، مطلب ملح، السعي إليه غاية، والقيام من أجله واجب، لأنه لا يصح إطلاق اسم “جماعة المسلمين” واسم ”أمير المؤمنين” إلا عندما يتأتى إجماع علماء الأمة المهاجرين والأنصار، ومن ورائهم سواد الأمة موافقا مؤيدا، على هيئة إسلامية ولو تعددت في إطارها التنظيمات، ويختارون رجلا واحدا، يؤم أمة الإسلام في كل دار الإسلام) 3 .

– وحدة المسـلميـن معيار اختبار

في انتظار أن تتحقق وحدة جماعة المسلمين المرجوة يوجب الإمام المرشد على كل مسلم يضن بدينه وآخرته، أن يدخل باجتهاده في ولاية تنظيم من التنظيمات الإسلامية الموجودة حاليا، ففي دخوله تميز عن الرايات العميات. لكن كيف يعرف أنه لم يزج به تحت راية عمية؟ إن الدفع بعجلة الأمة نحو مستقبل وحدة جماعة المسلمين التي تتخلق في رحم هذه الأمة المباركة، ذاك هو معيار الاختبار أن الانتماء انتماء منج من ميتة الجاهلية. أما إن وجد في التنظيم الذي انتمى إليه توانيا عن تحضير وحدة المسلمين، فذاك هو الدليل على أنه زج به تحت راية عمية، يجب أن يفر منها فراره من المجذوم) 4 .


[1] كتاب “جماعة المسلمين ورابطتها” للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله ص: 74.\
[2] ن. ص: 77.\
[3] ن. ص: 80.\
[4] ن. ص: 80.\