جماعة العدل والإحسان: توجهات ومواقف (6)

Cover Image for جماعة العدل والإحسان: توجهات ومواقف (6)
نشر بتاريخ

مسيرة الأربعين في تاريخ العدل والإحسان.. نظرات وثمرات -6-

جماعة العدل والإحسان: توجهات ومواقف

 
يسعى هذ الجزء السادس من مقالات النظرات والثمرات المتأملة في التاريخ الفكري والدعوي لجماعة العدل والإحسان، إلى عرض التوجهات التي اعتمدتها الجماعة تجاه كثير من القضايا ذات البعد السياسي والمجتمعي، والتي من خلالها بلورت مواقفها التاريخية من جملة الأحداث السياسية التي عرفها المغرب، علنا نستجلي بعض ما قد يكتنف قراءة مواقفها من اختلاف يراه البعض “تطرفا”، وتراه هي صمودا في وجه العبثية الواسمة للمشهد السياسي المغربي بفعل احتكار النظام لكل شيء.

راديكالية أو معارضة مسؤولة؟

للسياسة في عرف جماعة العدل والإحسان معنى نبيل إن كان يقطع مع دلالات الانزواء والانكفاء، فهو يقطع  أيضا مع نهج الاحتواء والالتواء؛ هي اعتناء بالشأن العام للشعب تهمما شرعيا بأمر الناس، وحضورا وتدافعا لنصرة المستضعفين قياما بحق النصرة القائم على حق الحرية المكفولة للإنسان حتى لا يكون أسير عبودية أي إنسان غيره. ومن هنا رفض احتواء الأنظمة لأي حركة تحررية؛ إذ لا معنى أن يمارس المرء سياسة تبدأ حدودها عند تمجيد الحاكم والخضوع لرأي الحاكم، وتنتهي عند الدخول في جبة الحاكم. ومن هنا أيضا رفض معاني المكيافيلية التي تجعل السياسة حربائية تتلون لكل موسم بلون، وتلبس لكل حالة لبوسها بدعوى المرونة والواقعية والتدرج المتدحرج إلى حضن الاستبداد؛ إذ السياسة عند جماعة العدل والإحسان وضوح وإحسان ومسؤولية واستعداد دائم لأداء الثمن: ثمن كلمة الحق عند سلطان جائر.

تفرض القراءة الموضوعية لتاريخ جماعة العدل والإحسان، الإقرار الشجاع بأنها تعرضت لأكبر عملية اضطهاد -كما غيرها من الشرفاء في هذا الوطن- في تاريخها؛ فقد نال مؤسسها الأستاذ عبد السلام ياسين حظه الوافر من التشنيع والاعتقال والحصار، وكذلك نالت قيادتها نصيبها غير القليل من الاعتقال والطرد من الوظائف والتضييق على الأرزاق والمتابعة والمراقبة والحد من الحريات العامة، وقضى بعض من شبابها عشرين سنة في سجون الظلم  والقهر، ونال الآلاف من أعضائها رجالا ونساء، أطفالا وشبابا وشيبا، حقهم من الاعتقال والمتابعات القضائية المزاجية والغرامات المالية، ومنعت جمعياتها المدنية ومنظماتها الأهلية وأنشطتها الإشعاعية من حقها في الوجود والاستفادة من الفضاءات العمومية وحتى الخاصة، وشمعت بيوت أعضائها بغير وجه قانوني، ورسب أعضاء آخرون في مباريات الولوج للوظيفة العمومية، وتم توقيف غيرهم ومنعهم من ممارسة مهامهم الوظيفية الرسمية، بل منع بعض المنسبين إليها حتى من الحج، وحتى من ممارسة الاعتكاف في مساجد الله في دولة يقولها دستورها إن دينها الرسمي الإسلام المتسامح المتعايش.

 لكن ومقابل هذا الاضطهاد، يفرض الإنصاف أيضا الاعتراف بأن رد فعلها كان راقيا يرسم بمعاني العزة والصدق تاريخ الرجولة والثبات، وتاريخ الصمود في وجه مغريات البيع والشراء في الذمم، وضغوط الارتماء والانبطاح تحت نعال الظالمين المفسدين. ليتساوق ويتناسق التصور النبيل لمعنى السياسة مع موقف التنزيل: وضوح في تحديد مسؤولية نظام الحكم في ما تحياه الأمة، وصدع بكلمة الحق والصدق، وحضور في مواقع الشعب، واقتحام لعقبات الفعل النضالي الدؤوب، واستعداد لدفع الثمن بالمواقف الناصحة الناصعة، وتؤدة في التدافع من منظور خط ثالث رافض للمشاركة الصورية كما للانقلابية العنيفة المقيتة، ومد لليد لجمع الصفوف وتوحيد الجهود لبناء المصير الحر المشترك.

مشاركة سياسية أو مشاركة انتخابية؟

لماذا لا تشارك جماعة العدل والإحسان في السياسة؟ ولماذا  عوض ذلك تكثر من خطاب المظلومية وهي خارج العمل السياسي الشرعي؟ ولماذا تقاطع الانتخابات؟ ولماذا تتخذ مواقف راديكالية من المؤسسات الرسمية؟ أسئلة تقابلها جماعة العدل والإحسان بأسئلة أخرى لها جدواها: هل تقتصر المشاركة السياسية على الانتخابات؟ هل من الضروري  تقزيم معنى المشاركة السياسية في الخضوع لقواعد اللعبة النظامية كما تضع قواعدها الدولة المخزنية؟ وهل عليها أن تصمت  وتلجم لسانها وهي تتعرض للهجمات الشرسة القامعة المانعة من ممارسة الحرية التي يكفلها نص الدستور الممنوح؟ ولماذا ستشارك في الانتخابات؟ وهل عليها أن تشارك أصلا في مؤسسات ليس لها من أمر الحكم شيء؟ وهل من الديموقراطية -الملمَّعة عندنا- أن تتناغم كل القوى المجتمعية لتمجد السياسة الرشيدة للدولة السديدة؟

إن بنية النسق السياسي المغربي الدستوري والقانوني التي تجعل الحكم بيد الملك، وتجعل الحكومة معارضة وأغلبية منفذة لبرنامج الملك، تؤدي مباشرة إلى أن الحكومات عندنا لا تحكم، وأن الأحزاب لا تطبق برامجها، وأن دائرة الحركة والمناورة السياسية ضيقة في هوامش التدبير الحارق للملفات التي إنما تمتص من شعبية الفاعل السياسي وتذوب رأسماله الرمزي لصالح الإعلاء من دائرة الممسكين بقبضة الحكم وسلطة المال، وهو ما يعني أنه لا جدوى من الدخول للعب في أرضية ملعب يملك الحَكَم فيها  المرمى والكرة واللاعبين والمعلقين، بعد أن ملك رسم الخطة والمسار، وملك الإذاعة والإشهار.

إن واقع الممارسة السياسية بالمغرب المليء بالتحكم، وتاريخ الانتخابات بالمغرب المشهود له بالتزوير، يظهر أننا بصدد لعبة فارغة المعنى لتشابه نتائجها، وتماثل مخرجاتها؛ بأنها لا تخرج لنا إلا نخبة محكومة، ولا تفرز لنا إلا تناوبا شكليا على سلطة صورية، دون أن نتحدث عن غياب أي فاعلية في تمريض الوضع والدفع بعجلة التنمية العامة إلا في اتجاه الترتيب الذيلي في أسفل سلالم التصنيف التنموي، هذا عدا أن الداخلين إلى مربع اللعبة النظامية حتى بحسن نية في التغيير إنما كانت عاقبتهم أنهم تغيروا بدل أن يغيروا، وتبدلوا عوض أن يبدلوا. ولن نذكر هنا نهج المقاطعة التي سار عليها الشعب مما تفضحه نسب  المشاركة الحقيقية، لنفهم بعد الذي سلف أن خيار جماعة العدل والإحسان في مقاطعة الانتخابات هو الخيار السليم منطقا وواقعا، وأن حصر المشاركة السياسية في الانتخابات فرض لتصور مخزني للسياسة يريد حشر كل القوى المجتمعية في سلة وهم الإجماع الوطني الذي عرته احتجاجات الشعب وحراكاته المجتمعية التي فتحت إمكانات أخرى للفعل السياسي خارج ما يخطه النظام وترسمه الدولة؛ توسع من دائرة الحريات وتحد -بشكل معين- من تمدد التحكم وتسلطه، وتسترد أجزاء من الشارع العام، وتحرر أجزاء من الذهنيات، وتنمي أطرافا من الوعي المجتمعي بضرورة الانفكاك من الارتهان للتصور الوحيد الأوحد لفهم معنى السياسة من منظور الرأي الأمجد للسلطان الفرد السيد.

قضايا الوطن أو قضايا الأمة؟

ترفض جماعة العدل والإحسان التبعية للجهات الأجنبية مثلما ترفض غلس السرية واللجوء للعنف، لكن هذا لا يعني أنها تنعزل عن قضايا أمتها الإقليمية والدولية. وكيف يمكنها ذلك وهي تقدم نفسها بكونها جزءا من هذه الحركة الإسلامية العالمية والصحوة الدعوية التي يأذن الله بخروجها تجديدا للدين؟ والعالمية هنا لا علاقة لها بالبعد التنظيمي إنما المراد الانتماء القلبي العاطفي الإيماني لأمة الإسلام، والتهمم بمآسي الأمة وآلامها، والإسهام في تحقيق آمالها بالحضور في المنتديات الوطنية والدولية التي تهتم بالمجال.

تؤمن جماعة العدل والإحسان بأن خيار الأمة المصيري بل خيار الإنسانية العالمية هو الوحدة والتوحد؛ قطريا بتوحد جهود الفاعلين في الدعوة، والفاعلين السياسيين والمجتمعيين من أجل جبهة مجتمعية لمجابهة الظلم والاستبداد، ومحاربة الفساد والمفسدين على أرضية ميثاق وطني جامع يُتَعاون فيه على المؤتلف المشترك، ويدبر فيه المختلف فيه. وعلى مستوى الأمة الإسلامية بالتدرج نحو بناء الجهود التأسيسية التي تقود إلى موعود الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بالخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة عبر تحرير الأوطان الإسلامية الممزقة المشتتة من الظلم والتخلف في أفق توحيدها في إطار جامع مبتكر محافظ على الروح والجوهر مناسب للزمان والعصر. وعالميا بإسماع رسالة الفطرة للإنسان الظمآن للمعنى، وبناء الأخلاقية الكوكبية التي تضع أسس الحفاظ على معنى الإنسان الوجودي لتدارك الأخطار المحدقة المتنامية بالفضاء المعيشي العام في كوكب مهدد بالاختفاء بفعل ما كسبته أيدي المستكبرين من الملأ المترف.

ضمن هذا نفهم رؤية العدل والإحسان للعالم: المسلمون هم أمة الاستجابة، والآخر غير المسلم هم أمة الدعوة، بعيدا عن منطق دار الكفر ودار الإسلام. العالم في جاهلية عن الله، والشعب مفتون غارق في فتنة قرونية تعاضد فيها عليه حكم السيف وقهر الاستعمار، وحالة الغفلة عن الله. والإنسانية في حاجة إلى من يقترح عليها النموذج الماثل للعمران الأخوي الجامع لدلالات التقدم والتحضر ومعاني الأخوة والرفق والرحمة ليخرجها من كوارث الخواء الروحي والضياع الحضاري.

في رؤية الجماعة لإدارة الصراع مع الجيران، خاصة في ما يرتبط بقضية الصحراء، ترى العدل والإحسان أنه من الضروري التمييز في معالجة المشكلة بين الموقف من الأنظمة الاستبدادية الحاكمة وبين الموقف من الشعوب؛ فالصراع على الصحراء مع استحضار معطيات التركة الاستعمارية الممزقة، ودهاليز المصالح المعقدة سببه الأنظمة الوارثة التابعة، وتبقى مسؤولية النظام المغربي قائمة بسبب استفراده بالملف من دون إشراك شعبي حقيقي، وتبقى دعاوى الإجماع والوطنية غير ذات بال لما تربط الحق في وحدة الأرض بالتسلط على الحقوق وإرجاء التنمية، وتأجيل النضال من أجل الدولة العادلة. ليكون الحل المقترح من وجهة نظر الجماعة أهمية التأسيس لتعاقدات سياسية تشاركية جديدة تقوي الجبهة الداخلية من خلال إحلال تنمية متكاملة الجوانب محل التردي التنموي العام، وتوسيع دائرة البحث عن الحل الجماعي، والتوجه نحو تفعيل الحوار المباشر مع الأطراف المعنية على قواعد حسن الجوار، وتجاوز الخلافات التاريخية، وإعلاء شأن الأواصر الجامعة دينيا وثقافيا ومصيرا مستقبليا.

ونأتي لقضية فلسطين قضية الأمة الأولى، بل قضية القضايا عند جماعة العدل والإحسان، الجرح النازف والأمل الآزف: النازف بما فعلته أيادي الصهاينة المعتدين بشعب أعزل من تقتيل ممنهج وتهجير مفجع، النازف بما يقوم به النظام العالمي المستكبر من مد يد العون للقتلة المعتدين ضدا على شعاراته المعروضة الموؤودة في سوق النفاق الدولي، والنازف بما تقترفه الأنظمة التابعة الحاكمة من بني جلدتنا من تطبيع سياسي وثقافي وتربوي وعلمي وصناعي. وفلسطين الأمل الآزف في نظرة العدل والإحسان لما تضمنه قضية الأرض المباركة من استمرار اتقاد جذوة الإيمان في القلوب، بترابط حل وضع فلسطين بحل وضع الإسلام والمسلمين، وتلازم تحرير فلسطين بتحرير الفرد المسلم وتحرير ديار المسلمين من داء الجبر والتحكم والفساد، الآزف بوعد الله باندحار اليهود الغاصبين بعد العلو الثاني، واستشراف عودة الخلافة على منهاج النبوة. وعلى هذا كان التطبيع عند جماعة العدل والإحسان جريمة ضد الدين، وضد الوطن، وضد الإنسانية، وضد الحق والعدل.

المرأة: تحرير أو تنوير؟

  المرأة عند جماعة العدل والإحسان ركن أساس في مؤسسة الأسرة، هي حاضنة الرجال، وبانية الأجيال، وصانعة المستقبل. المرأة عند جماعة العدل والإحسان مستضعفة المستضعفين باستضعاف الحكم لها، واستضعاف الرجل لها. هي ضحية الضحايا: ضحية التجزيء الذي وقف عند أعراض استضعافها والتغول عليها والظلم النازل بها من دون أن يربط قضيتها بقضية التغيير الشامل للوضع السياسي والاقتصادي والتربوي التعليمي، وضحية النظرة الصراعية التي تجعل المرأة تناطح أخاها الرجل البئيس هو الآخر  تفر منه من ذكوريته إلى خصوصية أنثوية تحتمي بها لتطالب بموقعها تحت شمس مناصفة غائبة، ومساواة ضائعة. وهي أيضا ضحية فقه منحبس يسد ذرائع الفتنة ليلبسها براقع الذلة واللذة، وليقصر عملها على الخدمة والرعاية، وليحد حياتها بين بيت أهل، وبيت زوج، وبيت قبر. ثم هي ضحية انبهار بحضارة عقلانية حداثية فكت عقالها من أسر التقاليد البالية البائتة البائدة لترسلها سائبة منحلة عارية من لباسها ومن حيائها فتغدو شيئا جميلا للتزيين والتأثيث.

تشارك المرأة في جماعة العدل والإحسان من خلال بنية تنظيمية للعمل النسائي داخل تنظيم الجماعة لتكتسب كمالات عدة على رأسها الكمال الإيماني، والكمال العلمي، والكمال الدعوي، لتؤدي مهمة الاضطلاع بحماية البرج الاستراتيجي الجامع بين صناعة الأجيال وبين المشاركة المسؤولة في جهاد البناء والتغيير. وتحضر إلى جنب الرجل في مختلف مواقع الأنشطة الدعوية والسياسية، وتختص بمؤسساتها التنظيمية المراعية لخصوصيتها، وتشارك في الدائرة السياسية من خلال قطاعها النسائي تدافعا مع الأغيار، وتشخيصا لوضع النساء في البلاد، وبحثا عن بدائل المستقبل المشرق الذي تجد فيه المرأة أرضية مناسبة لتؤدي دورها الأساسي في صناعة المستقبل وتعبئة الأمة.

إن أراد البعض للمرأة تحريرا يلخص شخصيتها في مظهرها، يلغي عقلها وإنسانيتها، فإن تصور جماعة العدل والإحسان لمكانة المرأة يطلب لها تنويرا يرفع إرادتها إلى العلياء لتتحرر من أسر الظلم الأكبر الذي هو الجهل بالله، ولتنعتق  من الظلم الأصغر ليجعلها أَمَةً لله، ولتضع عنها قيود التاريخ والتقاليد ليضمن لها وضعها الاعتباري في منظومة التغيير الشامل للإنسان، ولتفك عنها أغلال أسر الانحلال والتبعية للحضارة المادية لتتمكن من قيمها وحيائها فتكون الحصن الملاذ، والحضن المربي للناشئة.

التعليم: إصلاح أو تحرير؟

تضع جماعة العدل والإحسان قطاع التربية والتعليم في قلب أولوية الأولويات، وفي القمة من الصدارة والتقديم في مشروعها التغييري؛ لأنه عندها ساحة تصارع إرادتي الهدم والبناء، وبغلبة أحدها تتحدد وجهة المجتمع أإلى إعادة استنساخ نموذج المواطن الصالح لخدمة الظلم أو إلى وجهة بناء الإنسان الجامع بين القوة والأمانة، بين الكفاية المعرفية المهارية وبين القيم الأخلاقية التي تجعله يبني ذاته ويبني كونه عوض أن يعيث فيه فسادا؟

ترفض جماعة العدل والإحسان الرؤية التجزيئية التي تريد إصلاح التعليم بالمغرب من زاوية تعزله عن مقاربة الشأن العام في بعده السياسي أساسا، بحكم أنه لا يمكن في نظرها تغيير واقع المنظومة التربوية المغربية من دون تغيير عميق يمس المجال السياسي والاقتصادي والثقافي لتكون كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية المعهودة في خدمة التربية والتعليم. كما ترفض مقاربة الشأن التعليمي من زاوية التركيز على التشخيص الرصدي لمواطن الأزمات ومكامن الاختلالات من دون النفاذ إلى عمق الأزمة، وجوهر الكوارث التي تحد من أداء الوظائف العظمى للقطاع الذي يعد الحياة والمستقبل عند عقلاء العالمين.

ترى جماعة العدل والإحسان أن سبب بلايا قطاع التربية والتعليم يكمن في تحكم الدولة في رقبة التعليم من خلال مجالسها المعينة، وفي إملاءات المؤسسات الدولية من خلال منحها المالية ومساعداتها المادية، كما يكمن في غياب مشروع مجتمعي أصيل يستجيب لهوية الشعب ولحاجياته وضرورياته. أي أن أزمة التعليم عندنا بحسب الجماعة أزمة مركبة معقدة لبها الافتقاد للاستقلالية في القرار التربوي، وتجلياتها ظاهرة في كوارث الهدر والتسرب، وضعف المكتسبات، وتنامي الانحراف وضياع الأخلاق، وافتقاد الجدوى والنجاعة. ونتائجها حصد الفشل تلو الفشل وبلوغ درجات التقدم في أسفل مراتب التنمية بين مصاف الأمم. من هنا تدعو جماعة العدل والإحسان إلى تحرير التعليم من الاستبداد ليعود إلى كنف الشعب، ومن التبعية ليستقل بحاجياتنا، ومن التغريب ليدلنا على قيمنا وهويتنا.

تؤمن الجماعة أن الاعتناء برجل التعليم “واسطة عقد المنظومة التعليمية” هو مدخل مهم في تحرير التربية والتعليم، لأنه يفترض فيه أن يكون معلم الناس الخير، والقطب الأساسي في تدبير العملية التعليمية التعلمية، وأنه دون تهييئ ظروف الاستقرار النفسي، والتحرير من عبودية هم المعاش، وبناء الكفاءة العلمية العملية، ومن دون تحميل مسؤولية التعليم للأفاضل الأتقياء لن يكون هناك بناء سليم. وإن إعادة ترتيب العلاقات التربوية بين المتعلم والمعلم أمر ضروري لإعادة الجدية للمدرسة المغربية الزاخرة بالاضطرابات العاطفية، واللامسوؤلية التربوية وإنتاج الأمية والظواهر المشينة بالأخلاق والقيم. وإن حل معضلة المعضلات عندنا في التربية والتعليم كما ترى ذلك جماعة العدل والإحسان رهين باجتماع الفاعلين الغيورين في جبهة مجتمعية من أجل مدرسة مغربية تبتكر حلولا تناسب وضعنا وتستجيب لغاياتنا في تعليم يراعي هويتنا ويحقق احتياجاتنا في عالم الاتصال الموار الفوار.

من الثمرات التي يمكن عرضها من هذا الذي تقدم في الفقرات أعلاه:

– لا مكان لمعنى اللعبة في فهم جماعة العدل والإحسان للسياسة؛ إذ العقلاء لا يلعبون، ومصير البلاد ليس موضوعا للعب. وهذا يعني فتح مجالات للابتكار من خارج قواعد اللعبة النظامية. وإذا كان البعض يناور ويداور ويراوغ خوفا أو طمعا فليس من المعقول أن يرجى أن تمارس الجماعة السياسة بالمعنى الذي يمارسها به غيرها، وإن خاف بعض الناس أو طمع بعض الناس فليس على الجماعة أن تخاف أو تطمع. وعلى كل حال فأرض الفهوم واسعة، وممكنات التفكير غير ضيقة. وبهذا نكون إزاء سياسة مبادئ لا سياسة فن الممكن كما يقال، ونكون بصدد إعادة الاعتبار للسياسة في زمن السفاهة والسفالة.

– لا يعني التهمم بوضع الأمة عند جماعة العدل والإحسان الاستغناء عن التهمم بوضع الوطن، بل إن هذا من ذاك وذاك من هذا، لا تعارض ولا تضارب. إن هذه أمتنا أمة واحدة، وإن تحريرها من جهلها بدينها، وتخلفها عن ركب التقدم والتنمية لن يتم إلا بتحرير الوطن القطري من قبضة المستبدين وعتو المفسدين، وإن تحرير الوطن القطري لن يتأتى إلا بتحرير الإنسان نفسه من براثن حب الدنيا وكراهية الموت. وإن الرجاء في الله عظيم أن يمن على المستضعفين ويورثهم الأرض متى استمسكوا بحبل الله المتين، وقووا روابطهم الجامعة، وتم الوعي بأن لا مناص من التكتل والتوحد خاصة وأن كل المقومات الدينية والتاريخية والثقافية والإمكانات البشرية والطبيعية والبشرية تؤهلنا نحن المسلمين لنكون قوة عالمية صاعدة تقود الإنسانية نحو مجتمع الإخاء لا مجتمع الاقتتال.

– تحرص العدل والإحسان على مجابة التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ لأن الصهيونية الجاحدة القاتلة جرثومة خبيثة تقطن روح العالم، ولأن التاريخ البعيد أثبت أن لا أمانة ولا ميثاق لقتلة الأنبياء وخونة العهود، ولأن التاريخ القريب واضح في أن كل المطبعين لم يجنوا من عنب التطبيع إلا شوك الاختراقات المتنوعة، وقتاد الدمار المتعدد. ثم لأن فلسطين ببساطة ليست للبيع وصراعنا مع الصهاينة صراع عقدي لا صراع أرضي مادي، وإن ربط التطبيع السياسي بمردوده على وحدة البلاد زور وبهتان يتكشف يوما بعد يوم.

ومجمل القول إن لجماعة العدل والإحسان رأيا في ما يقع بالبلاد، ورؤية لما ينبغي أن يكون عليه الحل الجماعي الذي يجمع الكل من الفرقاء والفضلاء على أرضية توحد الجهود نحو وجهة واحدة تقف سدا منيعا ضد مسوقي الوهم وبائعي الشعارات أن لا تنمية ترجى ولا نهوض يستشرف إلا بالدخول في عجلة لعبة الدولة التي أصابها التلف وعلاها الصدأ من جراء إعادة التدوير والتكرير للسلوك السياسي نفسه الذي عطل البلاد لأكثر من ستين عاما عن اللحاق بركب التقدم والازدهار.