إن قضية المرأة من القضايا التي تضاربت حولها الآراء قديما وحديثا، ومعظم الدعوات تتمحور حول المطالبة بالحقوق والمساواة مع الرجل، وأحقيتها في إثبات ذاتها، وتحقيق وجودها، والتعبير عن حضورها، ومقاربة ذلك مقاربة سطحية غير آبهين بعمق المسألة وحقيقتها، فأغلب المواضيع لا تعدوا أن تكون وصفا أو سردا تاريخيا لما عانته المرأة قبل الإسلام، ووضعية المرأة عند الأمم السابقة، ومقارنة ذلك بما عرفته المرأة من رفعة وعزة وكرامة في فجر الإسلام، ولما آلت إليه في زمن الجمود الفقهي والفكري عموما حيث سجنت المرأة ولم يعد لها حق العلم والتعلم والمشاركة الفعلية، بل أصبحت على الهوامش، وأصبحت مجرد سلعة في السوق، أو جارية في القصر، وفي أحسن الأحوال آلة تنتج أطفالا إلى غير ذلك من المسائل غير الخافية على المهتمين والمهتمات، وهذه القضايا بالرغم من خطورتها فهي تصنف إما في باب الترف الفكري أو التوعية السياسية والثقافية، أو من باب الدعوات التغريبية التي تهدف إلى تحرر المرأة وانفتاحها، بل انحلالها لتكون كمثيلاتها الكاملات في الغرب سيدة جسدها! فهذه الدعوات في معظمها إما قاصرة عن النظر أو غير بريئة الأهداف والغايات.
دوافع اختيار العنوان
أول ما أبدأ به بعد هذه المقدمة هو الكشف عن دوافع اختيار هذا العنوان بالضبط، عوضا عن العناوين السائدة المستهلكة من قبيل : قضية المرأة، تحرير المرأة، حقوق المرأة، المرأة في الإسلام…إلى غير ذلك من المعاني، استبدلتها ب( تنوير المؤمنة في تصور العدل والإحسان) لغرض أساسي وجوهري هو تلخيص تصور العدل والإحسان لمسألة المرأة، حيث يظهر لأول وهلة أن مقاربة مسألة المرأة في المشروع العدلي الإحساني مقاربة تنويرية بالدرجة الأولى وعلى جميع الأصعدة. وأرى من اللازم الوقوف عند مفهوم التنوير لتتضح المعالم الكبرى للقضية و تتضح دلالاتها ومقاصدها، فالتصور مستفاد من التعريفات.
التنوير لغة
جاء في لسان العرب لابن منظور رحمه الله أن التنوير هو وقت إسفار الصبح، يقال: قد نور الصبح تنويرا، والتنوير الإنارة، ويقال : صلى الفجر في التنوير أي الإسفار.
وفي المعجم الوسيط : استنار: أضاء، ويقال : استنار الشعب صار واعيا مثقفا، واستنار به : استمد شعاعه، واستنار عليه ظفر به وغلبه، ونور الله قلبه : هداه إلى الحق والخير، ويطلق اسم النور على الهداية كما في قوله تعالى : (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)سورة البقرة، الآية : 257. وقوله عز وجل :( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) وقوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض) سورة النور، الآية : 35.
وجاء في معجم القرآن الكريم : “النور: المعارف والحقائق والدلائل التي تجلوا الشك، وتجلب اليقين في العقائد، وتنفي البلبلة والوسوسة، وعقائد الضلال”. وهذا التعريف يحمل دلالة فكرية وثقافية لا ينبغي إغفالها.
فالملاحظ من خلال هذه التعريفات اللغوية أن التنوير هداية؛ هداية قلبية وهداية عقلية معرفية وهداية عملية حركية، ولا تكون الهداية إلا بنور من الله، ولا نور يضيء قلب الإنسان وينير حياته إلا بإذن من الله. من هنا تتضح لنا الرؤية التجديدية لمسألة المرأة في المشروع العدلي الإحساني، إذ لا يمكن معالجة قضيتها إلا في إطار مشروع عام يشمل تنوير قلبها لتكون قضيتها مع الله أم قضاياها، ومصيرها الأخروي منتهى قصدها وباعثها على العمل، وتنوير عقلها لتصبح محيطة بواقعها واعية بمسؤولياتها في البناء والتغيير، وتنوير إرادتها وبعث روح الجهاد في حركتها، ولا يمكن معالجة قضية المرأة إلا في إطار مشروع شامل يشاركن فيه الرجال مشاركات لا تابعات، إذ معالجة قضية الأمة المؤمنة يجب أن تكون مزاوية ومساوقة لمعالجة قضايا الأمة المؤمنة العامة، فمحنة الأمة منشؤها فتنة الأمة.
فإذا كان التنوير في الفكر الأوربي يعني التحرر التام من التعاليم الموروثة، وإعادة صياغة الحياة على أساس من النظر العقلي وإرادة العمل عن طريق العقل فإن التنوير في المفهوم الإسلامي يقوم على قاعدة تجمع بين تنوير القلب و تنوير العقل، فليس المعول عليه في التنوير بالمفهوم الإسلامي هو العقل المجرد غير المهتدي بنور الإيمان، وبالقدر نفسه لا ينفع المرء إيمانه إن لم يستخدم ما وهبه الله من نعمة العقل في التفكر والتدبر وتصريف الأمور على الوجه الذي يحقق المصلحة العامة التي تنفع الناس وتمكث في الأرض. والمصلحة الخاصة التي تنفع يوم العرض.
فتنوير المرأة بالمفهوم العدلي تنوير قلبها بعد أن يمنّ الله عليها بيقظة وتوبة ويكشف عنها غمة الغفلة التي لا تزيد إلا حسرة، وتنوير عقلها وتحريره حتى تصبح واعية بواجباتها نحو نفسها وأهلها وأمتها، إذ هي حافظة للمقاصد العامة التي جاءت الشريعة من أجلها، وتنوير هو تحرير لهمتها وطاقاتها لتطمع وتتطلع إلى ذروة السنام؛ الجهاد في سبيل الله من موقعها، وداخل خصوصيتها…
التنوير هداية قلبية إيمانية
تسمع المسلمة نداء ربها للإيمان فتؤمن وتدخل في زمرة المؤمنين وتقول قولهم( ربنا إننا سمعنا مناديا للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) سورة آل عمران، الآية : 193. هذه أول خطوة، سماع نداء الوحي، تعقبها خطوة لا تقل أهمية، هي إعلان توبة صادقة بعد غفلة جارفة، وأول منازل التوبة العلم واليقين بأن الله غفور رحيم وأن الله يفرح بتوبة عبده، وان إعلان التوبة اعتزاز وقوة واستقلال، وعندما يكون دافعها وباعثها الحياء من كرم الله قبل الخوف من عقاب الله للنفوس الكريمة تكون توبة كريمة، تتوب المؤمنة ـ والمؤمن ـ عن كبائر الإثم والفواحش، تقلع إقلاعا تاما عنها، وتتوب من اللمم والهفوات الصغيرة التي ترتكب حال الغفلة، وغلبة النفس وضعف الإرادة، التوبة تطهر واستغفار وصلح مع الله، إذا تابت المؤمنة قلبت سمعها وبصرها ولسانها وقلبها وجميع جوارحها، وتصفي طعامها وشرابها من كدر الحرام والشبهة، وتتورع في المعيشة وتجعل كل همها مولاها وخالقها، فتكون قضية مصيرها الأخروي أم قضاياها، وعنها تتولد وتتفرع باقي اهتماماتها وتنبني باقي أعمالها، تسأل نفسها عن معنى وجودها، وحقيقة حضورها وغاية مرورها في هذه الحياة، الوجود غير الحضور فرب موجود غير حاضر، والحضور يستلزم السؤال عن الغاية وعن المصير الأخروي المنتظر الموعود (ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد)سورة آل عمران، الآية : 194.
تتوب المؤمنة وتدخل في عقد بيعة النساء، تتعهد بالتخلي عن أمور الجاهلية قال تعالى : (إذا جاءك المؤمنات مهاجرات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم)سورة الممتحنة، الآية : 12، فهذه بيعة تعقدها المؤمنة مع الله تعاهده فيها وتوفي بالعهد، ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ثم تقرأ المؤمنة ـ أو تسمع ـ قوله صلى الله عليه وسلم ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) رواه الإمام أبو داوود والترمذي رحمهما الله بإسناد صحيح. فتبحث عن الصحبة لتحافظ على شعلة الإيمان في قلبها ويشتد شعاعها، فالإيمان يبلى وينقص، ويتجدد ويزيد، فتجلس إلى أطباء القلوب علماء الآخرة لتتعلم أن الدين مراتب إسلام فإيمان فإحسان، وأن من لم يستكمل مبادئ الإسلام لا يمكن أن يطمح إلى الإيمان ومن لم يستكمل مقتضيات الإيمان لا يمكن أن يطمح إلى مقامات الإحسان وكمالاته، فإن لم تفهم المؤمنة دينها على أنه مدارج ومعارج للترقي في درجات الآخرة والقرب من الله، والمسارعة والمسابقة إلى ذلك، إن لم تعلم أن الآخرة درجات، ولا تنال إلى بالاجتهاد الجدي والعمل الصالح والنية الخالصة والإرادة السامية كانت من المحرومات، القانعات بالدون، والقناعة من الله حرمان. والطمع فيما عند الله إحسان إن رافقه عمل وإخلاص وإتقان.
التنوير هداية فكرية معرفية
إن التنوير الفكري هو تجديد لمفاهيم الدين ولوظيفة الدين للخروج من الجمود والقعود إلى ساحات العمل الهادف النافع للأمة، فصنع مستقبل الأمة يتطلب من المرأة وعيا تاما بمهمتها في هذه الحياة، والوعي علم، فتحرص المؤمنة على اكتساب مجموع فريد من العلوم تكون لها عونا على القيام بمهمتها على أكمل وجه سواء أكانت علوما شرعية دينية أو كونية دنيوية، وأول شيء تحرص عليه هو كلام الله وما يتفرع عنه من علوم الدين والدنيا، وكل ما تحتاج إليه من أمور خاصة تعينها على إقامة دينها ودنياها تأسيا بمن سبقنها من المؤمنات اللاتي أتين الرسول صلى الله عليه وسلم يسألنه أن يجعل لهن يوما خاصا بهن يعظهن ويفقههن في أمورهن الخاصة. فطلب العلم واستكماله هو النور الذي به تكون المؤمنة حية بين أموات، بل تكون ميتة إن لم تكن بنيتها النفسية والعقلية( مؤسسة على قاعدة طلب العلم من المهد إلى اللحد) تنوير المؤمنات للأستاذ عبد السلام ياسين ج2ص65 ، فهذا من باب كمال توبتها، فالأم الجاهلة بما عليها ومالها ( إمامة ضياع، وامتداد لبؤس الأمة…) نفس المصدر السابق.
فالمؤمنة تستجيب لنداء ربها وتساهم في بناء مستقبل أمتها مستنيرة بنور العلم، علم خطوة لا علم خطبة، العلم النافع الذي تجد ثمرته في قلبها، فيملأ القلب إيمانا وتصديقا، ويدخل العقل فيملأ تدبيرا وتفكيرا ويقينا. فالتغيير يتطلب تكوين نساء واعيات عالمات بما عليهن من واجبات قبل مالهن من حقوق، فالمسلمات اليوم غارقات في مشاكل الحضيض اليومية منصرفات إلى أمورهن الخاصة لذا فالتغيير يحتاج جهودا، يحتاج اقتحام عقبات الأنفس لتطلع المرأة على حقائق الواقع، الذي يطلب إلى المؤمنات المشاركة في تغييره حاملات رسالة الإسلام إلى العالم، متجاوزات الهموم اللاصقة بالأرض الملصقة بها.
على المؤمنات أولا جهاد لاقتحام عقبات التقاليد، وعوائق العقل الذي ينبغي أن لا ينقاد إلا للحق، وعوائق العادات والأنانيات والذهنيات المتخلفة، والذهنيات المتغربة لكي لا تضيع المؤمنة بين تقاليد وفقه جاف غال هو مزيج من الأعراف، وبين من يحاول توظيف قضيتها لأغراض مشبوهة. حيث ( لما بلغ الإفساد التغريبي أشده برزت الدعوة الإسلامية ومالت على التبرج وميوعة المرأة وتمييعها تشديدا معاكسا، مستندة في ذلك على أضيق التأويلات الفقهية وأعسر المذاهب في حق المرأة، فلم يبق للمؤمنات متنفس بين ميوعة أولئك وتشديد هؤلاء) تنوير المؤمنات، الفصل الأول، باب تحرير المرأة.
فمعالجة قضية المرأة تحتاج إلى نقلها من نزاع حقوقي صرف بين الرجل والمرأة إلى هم المصير الأخروي للطرفين، وعلاقتهما بالله، كما تحتاج إلى وضعها في إطار شمولي يربطها بالتردي العام لأحوال الأمة واعتبار علاجها جزءا من مطلب التغيير الشامل، متجاوزين بذلك مسألة التقليد في تناول هذه القضية بالدعوة لتجاوز القراءات الفقهية المذهبية الضيقة والمناداة بضرورة اجتهاد حقيقي ينهل من الكتاب والسنة، لمحاربة الظلم الذي يطال المرأة من جراء قوانين الأحوال الشخصية التي تستند في معظمها إلى اجتهادات فقهية هي أقرب إلى الأعراف منها إلى سنة رسول الله التي حررت المرأة في وقت قياسي من الاستبداد الذكوري، وأهلتها للترقي من اللاشيء إلى مواطنة ذات مساهمة كاملة وفعالة في مجتمعها، مكلفة كما الرجل مكلف مع احترام خصوصيتها، ومعنى هذا أن تكون ربة البيت النموذجية التي هي نقيض المخلوقة التافهة المقهورة الساكنة الساكتة التي تمر من الحياة كأن لم تمر منها دون أن تترك أي أثر تذكر بذكره، تعاني في صمت.
التنوير هداية عملية جهادية دعوية
قال تعالى : ( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله. إن الله عزيز حكيم) سورة التوبة، الآية : 72. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية مشتركة بين الرجال والنساء، ترتقي المرأة من الدونية إلى مستوى الحضور والمشاركة في بناء المجتمع النبوي مشاركة تساهم بها في مشروع الدعوة إلى التوبة إلى الله، ومشاركة تساهم بها في توعية المرأة تكوينا وتوجيها وخدمة.
فالغاية والهدف هو النهوض بحال المرأة، بدأ من استرجاع ثقتها في الله تعالى ومصالحتها مع فطرتها، ورفع همتها، وتحقيق استقلاليتها، وتحرير إرادتها، وتوعيتها وتعليمها حتى تصبح محسنة فاعلة نافعة عاملة إلى جنب الرجل، صانعة للمستقبل كما كانت في عهد التنزيل. إذ إن أمة مشكلتها الأولى هي الخروج من ربقة التخلف لجديرة أن تستفيد من جهود كل أبنائها وبناتها، وللمرأة مكانتها في مجتمع العمران الأخوي تتصدر وظائف التعليم والتطبيب وسائر الأنشطة الاجتماعية وغيرها، مما لا يتنافى مع الحشمة والأخلاق والعفة والتقوى.
على المرأة المسلمة أن تتعرف على حقوقها وأن تطالب بها لأن غيرها لن يقوم مقامها في هذا المجال، ولأن أرضية صلبة من الحقوق المادية والنفسية كفيلة بتحريرها من الرق المتوارث، وتمكينها من القيام بواجباتها. فانتشال المسلمين مما يتخبطون فيه مهمة شاقة تستدعي تطوع الجميع، النساء إلى جنب الرجال، فلابد من المساهمة النسائية في القرار الرجالي إذ لا يمكن تجاوز أو تعويض أنوثتها وأمومتها الحاسمة في عملية التغيير، فالنساء صانعات المستقبل، مربيات الرجال.
وخلاصة القول تهدي إلى أن الهدف أن ترتفع همة المرأة للنظر إلى نفسها وإلى مهمتها في العالم من شخص ضعيف منشغل بمشاكله الدنيوية منصرفة إلى شأنها الخاص تعاني في صمت إلى مؤمنة فاعلة إيجابية ذات إرادة متماسكة مع إرادات المؤمنين والمؤمنات، يعنيها مصيرها إلى الله كما يعنيها مصير أمتها.