تنشئة الأبناء في واقعنا المعاصر: إشارات وتنبيهات (2) | الرفق

Cover Image for تنشئة الأبناء في واقعنا المعاصر: إشارات وتنبيهات (2) | الرفق
نشر بتاريخ

قاعدة 2: الرفق زين والعنف شين

معلوم أن الرفق ضد العنف، فهو يفيد معاني اللين واليسر والتُّؤَدة والصبر والحِلم والمحبة والرحمة، قال الله تعالى رضا بخُلق رسوله صلى الله عليه وسلم وتذكيرا بروح قانون الـتأليف بين الناس: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ  (آل عمران:153)، بالرحمة والحنان يشع اللين في المعاملة ويحصل التأليف بين القلوب، فيكون العفو والصفح والتشاور. وإذا غاب الرفق غابت القيم المتصلة به، وحصل الانتقام والكراهية والاستبداد والتنافر، ففي الحديث: “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ” [1]، وفي رواية مخاطبًا أمنا عائشة رضي الله عنها: “عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ فَإِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ” [2]، الرفق مزية وزَيْن، والعنف منقصة وشَيْن. ومن لا يَرحَم لا يُرحَم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبره يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلىالله عليه وسلم من على المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: “رأيتُ هذين يمشيان ويعثران في قميصهما فلم أصبر حتى نزلت فحملتهما” [3].

كان النبي صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبية سواء كانوا ذكورا أو إناثاً يُقبِّلهم ويمسح على رؤوسهم ويدعو لهم ويداعبهم، وكان إذا دخلت عليه فاطمة الزهراء رضي الله عنها فرح بها وقال: مرحباً بابنتي، وخرج يوماً يصلي بالناس وهو يحمل أُمامة بنتَ بنته زينب عليها السلام، فكان إذا ركع وضعها وإذا قام حملها. رحمة وقدوة وتعليم.

من الرفق إذن ملاعبة الطفل ومداعبته والتصابي له، بل ينبغي حثه على اللعب والرياضة البدنية ليبعد عنه الخمول والكسل. وعلماء التربية قديما وحديثا يؤكدون أهمية اللعب الهادف في تربية الطفل تربية متوازنة، سواء أكان لعبا فرديا أو جماعيا، شريطة مساعدته وتوجيهه، حتى لا يتعرض للأذى لقلة خبرته أو لضعف قوته أو لاستغفال الآخرين له. باللعب وخاصة إذا كان لعبا جماعيا، يتعلم الطفل ثقافة الوسط الذي يعيش فيه بلغته وعاداته وحيله وطقوسه ومقولاته، ويتدرب على مهارات كثيرة ومتنوعة بتنوع الحركات والألعاب والتحديات والمغامرات. فضلا عما يحققه من ترويح على النفس بالفُرجة والدعابة والمزاح. وبالتنشئة وسط ثقافة ما يتشكل مزاجه وتتقوى روابط الصداقة مع بني جنسه ويندمج في روح الجماعة التي تحيط به. والمجتمع التعيس طفولته تعيسة [4].

حبِّب لأبنائك، وهم يلعبون، الدِّين والعلم وحُسن الخلق برفقٍ، واغرس في قلوبهم الإيمان ببِشْرٍ، ربِّهم على خصال حُب الله وحُب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحُبِّ الخير للغير، يقول الإمام رحمه الله: “يُربى الصبيان والناشئون على حب الله، والحب في الله، والبغض في الله، والشجاعة في الحق، ونصرة المظلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر… وذكر الله المستديم، ودعاؤه سبحانه، والتوكل عليه إقداما وَعملا جادا، وامتلاك النفس عند الغضب، وحفظ اللسان. إلى سائر شعب الإيمان ومنورات الإحسان” [5]. فالمربي الرفيق هو الذي ينوِّع الأساليب ويُحسن استثمار الأوقات والمناسبات، ويغض الطرف عن  الهنات والعثرات، ويعالج الأخطاء بحكمة ورحمة وصبر، ولا يعيِّر أحدا بلقبٍ مكروه، ولا يجْهِز على الغير في حال الضعف أو الفشل، بل يُنهض ويحفز ويواسي ويُعين. وفوق طاقته لا يُلام.

القسوة على الأبناء وكثرة التوبيخ والتقريع في كل صغيرة وكبيرة تتحول إلى تخويف ملازم للولد، فيتوجس من كل حركة وينكسر أمام كل عقبة ويصاب بالاضطراب النفسي والخجل والتردد. والعنف على الأطفال يُبعدهم عن الآباء ويفضلون غيابهم.وقد توصل خبراء التربية إلى أن الضرب لا يؤدي إلى إزاحة السلوك المرفوض المعاقب عليه ولا إلى محوه نهائيا وإنما إلى تصريفه بطرق عنيفة وأكثر حدة. فالطفل الذي يُضرب كثيرا يفضل الانعزال عن والديه، يأكل وحده وينام وحده ويجلس وحده، ويمكن أن تصل بعض الحالات إلى الانطواء أو الانحراف. إن القلب إذا أُكره عمي، قال الله تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج: 46). وإذا رأيت ما لا يعجبك فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (الحِجر: 85)، ولا تُكثر العتاب ولا تفْرط في العقاب. ومن ستر مسلما ستره الله، وأولى الناس بالستر أهل البيت.


[1] صحيح مسلم، كتاب الآداب، باب فضل الرفق، رقم الحديث: 6693.
[2] صحيح مسلم، كتاب الآداب، باب فضل الرفق، رقم الحديث: 6694.
[3] سنن النسائي، كتاب صلاة العيدين، باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة، رقم الحديث: 1585.
[4] انظر: عبدالسلام ياسين، الإسلام والحداثة، دار الآفاق، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص 205.
[5] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مرجع سابق، 2/ 282.