من كتاب المدهش لأبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله.
لقد خوفنا الموت بمن أخذ منا، ونعلمُ هجومه علينا وقد آمِنّا، ما أذكَرَتْنا المواعظ فما لنا ما لنا:
لا تَرْقُدَنَّ لعينك السـهـرُ ** وانظر إلى ما تصنع العبرُ
انظر إلى غِيَر مـصـرّفة ** ما دام يمكن طرفَك النظرُ
فإذا جهلت ولم تجد أحـداً ** فسل الزمان فعنده الخبـرُ
فإذا نظرت تريد معتـبـراً ** فانظر إليك ففيك معتبـرُ
أنت الذي تنعاه خِلـقـتُـه ** ينعاه منه الشعر والبشـرُ 1
يا من يؤمل أنت منتـظـر ** أملاً يطول ولست تنتظـرُ
ماذا تقول وأنت في غَصَصٍ ** ماذا تقول وذوقك الـمَـدَرُ2؟
ماذا تقول وقد لحقت بـمـا ** يجري عليه الريح والمطرُ
كم قد عَفَتْ عينٌ لهـا أثـر ** درسَتْ ويدرُس بعدها الأثرُ 1
يا من يشيع ببدنه الميت، فأما قلبه ففي البيت، أتخلى بين المودود والدود؟ وتعود إلى المعاصي حين تعود، هلا أجلت بالبال ذكر البالي؟ وقلت للنفس الجاهلة: هذا لي، من زار القبور والقلب غافل وسعى بين الأجداث والفكر ذاهل وشغله عن الاعتبار لهو شاغل فهو قتيل قد أسكره القاتل:
وما أعطى الصبابةَ ما استحقت ** عليه ولا قضى حقَّ المنـازل
مُلاحظها بعين غير عـبـرى1 ** وزايرها بجسم غير نـاحـل 2
شيّع الحسن جنازة فجلس على شفير القبر فقال: إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله، لحقيق أن يخاف آخره.
إخواني، كيف الأمن وهذا الفاروق يقول: لو أن لي طِلاعَ الأرض 3 ذهباً وفضة لافتديت بها، كيف الأمن؟ من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر؟
لما طُعن عمر قال لابنه ضع خدي على التراب فوضعه فبكا حتى لصق الطين بعينيه وجعل يقول: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي.
ودخل عليه كعب، وكان قد قال له: إنّكَ ميت إلى ثلاثة أيام، فلما رآه عمر رضي الله عنه أنشد:
وواعـــدني كعب ثلاثـاً بـعـدهـا ** ولا شـك أن القــولَ ما قـــاله كعـبُ
وما بي حذارَ الموتِ إني لميتٌ ** ولكن حذارَ الذنبِ الذي يتبعُه الذنبُواعجباً من خوف عمر مع كمالِه، وأمنك مع نقصانك.
قيل لابن عباس: أي رجل كان عمر؟ فقال: كان كالطائر الحذِر، الذي كأن له بكلّ طريق شَركاً 4.
يا مسدودَ الفهمِ بكثرة الشواغل! أحضر قلبَك لحظةً للعظة.
يا جامداً على وضعِ طَبعه! تحرّكْ إلى قُطْرِ 5 التذكرة.
يا عبدَ الطمع! طالعْ ديار الأحرار.
ما أطول غَشْية غَفلتكَ فلِمَن نُحَدِّث؟ قلبُك في غلافِ غفلة، وفطنتك في غشاوة غباوة، وحبلُ عزمك الجديد جذيذ 6.
لو خرج عقلُك من سلطان هواك، عادت الدولة عادلةً.
لو صحَّ مزاجُ فطرتِك حلا طعمُ النصح في فمك، المفروض عندك مرفوض، وكلام النصيح صوتُ الريح.
يا تلميذ الهوى ! اخرج من وصف التبعية، يا مقيَّد الوجود في فِناء 7 الفَناء ! قامت قيام الملامة وما تسمع، لقد ضحل 8 صوت النصيح، ولكنَّ صَلْخَ 9 صِماخِ 10 السمع مانعٌ.
يا هذا! لو وقفَ مرضُك رجونا لك البرءَ، ولكنَّ المرض يزيد، وقوةُ العزمِ تضعفُ:
متى يلتقي الأُلاّف والعيسُ كلّما ** تَصَعَّدْنَ من وادٍ هبطنَ إلى وادِ
يا مقبلاً على المعاصي أَدْبِر، ويحك ! إذا أُخْرجْتَ من يدك 11 فمن يُحصِّل؟ كم تعِد بالتوبة ولا تفي؟ ويحك إن العقوبة باللذة لا تفي، ضمانُك عقيم، ووعدُك عاقرٌ، إذا أقمتَ بناء توبة اكتريتَ ألف نقّاض، ويحك ! لا تفعل، فإنه ما سحبَ أحدٌ ذيل الهوى إلا وتعثر، اُكتب قصة الندم بمداد الدمع، وفي الحال تصل:
سألت ودمعُ العين سـائل ** ودَّعتُ وداعي البين شاغل
فأجاب دمعي وهـو فـي ** صفةِ الأسى سحبانُ وائل1
أعرضتُ عنك فمن تـروم ** وبِنْتُ منك فمن تُواصـل
لم يبق من سنن الـهـوى ** إلا الوقوفُ على المنازل 12
يا مشرداً عن الأوطان! إلى متى ترضى بالتمردك 13؟ للقطا أفحوص 14، ولابن آوى مأوى.
منذ خمسين سنة تجدّف في العبور إلى ساحل التوبة وما تلحق الشطَّ، قوةُ الأمل عقدةٌ في وجه منشار الجد، الرياء عيب في رئة الإيمان، يَسُل 15 المرضَ إلى السل، شدة الحرص على الفاني سَدَّة في كبد اليقين، ومن صبر على مرارة الدواء عوفي:
السقم على الجسم له تـَرْداد ** والصبرُ يقلُّ والهوى يزدادُ
ما أبعد شقتي وما لـي زاد ** ما أكثر بهرجي1 ولي نَقَّاد 16
يا أرباب الدَّنس! يا أوساخ الذنوب! هذا مُغْتَسَلٌ بارد وشراب (سورة ص، الآية 42)، لا تقنعوا بصب ماء التوبة على الظاهر، بُلُّوا الشعر، وانقوا البشرة، ما لم تَسبحُ بدمع عينيك لم تأتِ بسُنَّةِ الغُسلِ:
فلو داواكَ كُلُّ طبيبِ دَاءٍ ** بِغَيْرِ كلامِ ليلى ما شفاكا
أبلغُ المراهمِ لجراح الذنوب الندمُ، وأوطأُ فراشِ المعتذِر القلقُ، وأسرعُ الأوقاتِ إجابةً السحرُ، فاطردْ عن عينيك لذّةَ النومِ، ونادِ في نادي الأسى مع القوم:
يا من بسهامه لقلبي جَرحـا ** صِلْ مشتاقاً بِغَيْرِكم ما فَرِحا
ما ناح له مُطَوَّقٌ1 أو صدحـا ** إلا شرب الدمع وعافَ القدحا 17
يا نائماً طول الليل ما تُحسُّ بِبَرْدِ السَّحَر؟ لقد نَمَّ النسيمُ على الزَّهْر، ودلّتْ أغاريدُ الحمام على دنو الفجر، صاح الديك فلم تنتبه، وأعاد فلم تُفِق، فَقَوَّى ضربَ الجناحين لطماً على غفلتك، صفق إما ارتياحه لسنا الفجر، وإما على الدُّجى أسَفاً.
يا مَـطُـولاً1 بـالـقـــيام ** مسـتـلـذاً بـالـمـنـام
قم فـقـد فــاتـــك يا ** مغبـونُ2 أربـاح الـكـرام
وخلـوا دونـك بـالـمـو ** لى وفـازوا بـالـمــرام
وكذا تـسـبـقـك الـقـو ** م إلـى دار الـســـلام 18
2- الـمَـدَرُ: قطع الطين اليابس (القاموس المحيط). أو الطين المتماسك (لسان العرب).
[2] 1- عـبـرى: باكية.
[3] طِلاع الأرض: ما يملؤها حتى يطلع عنها ويسيل.
[4] الشرك: الفخ.
[5] قُطر: بلد وناحية.
[6] جذيذ: مقطوع.
[7] فِناء: باحة وساحة.
[8] ضحل: بحّ.
[9] صَلْخَ: صمم.
[10] صِماخِ: خرق الأذن، وقيل: هو الأذن نفسها.
[11] أخْرجْتَ من يدك: كناية عن انتهاء الحياة، وانقطاع العمل، وانتهاء فرصته.
[12] 1- سحبانُ وائل: يضرب به المثل في البلاغة، فيقال: أفصح من سحبان: لَسِناً بليغا.
[13] التمردك: التصاغر.
[14] أفحوص: بوزن عصفور، مَجثم القطاة، لأنها تفحصه.
[15] يسل: أي يوصله إلى السلال، وهو المرض المعروف بالسل.
[16] 1- البهرج: المزيف.\
[17] 1- المطوق: الحمام له طوق كالقمري.
[18] 1- مطولا: مماطلا، لا يفي ما التزم به.
2- المغبون: المخدوع وضعيف الرأي.