تقديم “نظرية الدعوة والدولة” من خلال مأزق النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية المعاصرة (4)

Cover Image for تقديم “نظرية الدعوة والدولة”
من خلال مأزق النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية المعاصرة (4)
نشر بتاريخ

النموذج الثاني: نظرية الدعوة والدولة عند الإمام عبد السلام ياسين

منذ أول مؤلفات الإمام عبد السلام ياسين بداية السبعينيات من القرن الميلادي الماضي كشف بوضوح عن رؤيته لموقع قضية الحكم في حركة الإسلام وأهميتها، وبنفس درجة الوضوح وبصرامة شديدة كان حريصا على ضبط العلاقة بين الدعوة والدولة فتابع التفصيل في جميع مؤلفاته الأساسية لهذه القضية، نظرا لأهميتها وخطورتها.

فتوفر الإمام على هذا الوضوح وفر له آلة علمية قرأ بها تاريخ المسلمين وحدد سبب الانكسار التاريخي بعد انقلاب بني أمية على الخلافة وفسره تفسيرا علميا متزنا، كما وفر له آلة علمية تصورية لاستشراف المستقبل.

إن تبني الإمام لمفهوم الدعوة والدولة) شكل تجاوزا علميا وعمليا لما بنت عليه الحركة الإسلامية السنية المعاصرة عملها السياسي؛ وهو العمل على إثبات العلاقة بين الدين والسياسة، وبهذا أخرج مشروعه من سياق ردة الفعل إلى سياق العرض البنائي وفق نظرية سياسية جامعة، ذلك أن البحث في علاقة الدين بالسياسية قاصر تماما عن استيعاب واحتضان المشروع التجديدي للحركة الإسلامية المعاصرة، خاصة في أفقه السياسي من حيث تصور النظام السياسي وبناء استراتيجيات إنجاز مراحله وإقامته، ولعل هذا القصور هو ما جعل بعض الحركات الإسلامية حينما تقترب من مواقع الحكم تصطدم بحائط سميك يحجبها عن رؤية واضحة وكاملة للمستقبل القريب فضلا عن البعيد، كما يعقد عملية التعامل المرحلي باعتبار حجم ما تطرح كل مرحلة من مراحل الحركة من إكراهات مختلفة الاتجاهات والجهات.

كما شكلت نظرية الدعوة والدولة تجاوزا كبيرا لنظرية ولاية الفقيه، حيث أخرجت حركة الإسلام من قبضة الفقيه الولي إلى حضن المجتمع عبر مؤسسات مستقلة عن الدولة لكنها راعية لحركة المجتمع وأفقها الغائي. وقد كان الإمام حازما في الدفاع عن ثورة الخميني دون أن يجاملها حيث خصص، في وقت سابق عن كثير من الباحثين والمفكرين والدعاة، بحوثا نقدية بنائية لهذه التجربة منضبطا إلى مطلب وحدة المسلمين الشرعي وما يطلبه هذا المطلب من وضوح علمي متزن في نقد هذه التجربة التاريخية.

أ- نظرية الدعوة والدولة وتحرير الدولة وبناء قوة المجتمع

وقد ترتب على هذا في تصورات الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، مهام الدولة ومهام الدعوة على درجة كبيرة من الوضوح تخرج حركة المجتمعات الإسلامية من تقلبات السياسة اليومية التي يجب أن ترعاها الدولة من خلال مؤسساتها، ومن قبضة أخطبوط الدولة المعاصرة إلى نظام قائم على الفصل، ليس بين الدين والسياسة وليس على الجمع بينهما على درجة من الغموض والالتباس والنظر الجزئي، وإنما قائم على الفصل بين مؤسسات الدعوة ومؤسسات الدولة وجامع بينهما من خلال معنى الوظيفة العامة للأمة، وهي حمل رسالة الإسلام إلى العالمين على قاعدة أن الهيمنة لمؤسسات الدعوة وفق مبدأ الاستقلالية بين المؤسستين (الدعوة والدولة) التي تحقق التكامل بينهما عمليا واستراتيجيا ومصيريا، وتخرج حركة المجتمع والدولة من قبضة الفقيه أو العالم مهما كان.

فوضوح المهمة التاريخية للأمة وثباتها اقتضى وجود مؤسسة الدعوة وهيمنتها على حركة المجتمع هيمنة رعاية وتوجيه واحتضان وتنظيم قاعدي لقضاياه والحفاظ على سيادة معاني التضامن والبذل والتضحية والتكافل والتربية، في حين تهتم مؤسسة الدولة عبر أجهزتها الإدارية والشورية على التدبير اليومي والمتابعة اليومية وصياغة القوانين وإبداع الأشكال التنظيمية والهيكلية المطلوبة وفق قيم ومعاني النصيحة والشورى.

وبهذا تكون الدولة الأداة السياسية المحورية في المجتمع عبر مؤسساتها وسلطها الخادمة بفعالية ونظام تحقيق الأهداف الاستراتيجية نحو أفق المقاصد المصيرية للأمة، وذلك وفق نظام الشورى فيما تقتضيه مواقع المسؤولية من انتخابات ووفق إرادة الأمة عبر سيادة معاني الشورى في حياتها الخاصة والعامة.

فالمعنى السياسي لنظرية الدعوة والدولة يتجه إلى حل الإشكال الذي تغرق فيه التجربة السياسية الحالية، سواء في الدول الديموقراطية أو غيرها، المتعلق بخضوع حركة المجتمع ككل لمنطق الدولة ومؤسساتها، بل في بعض الأنظمة السياسية لمنطق شخص أو أشخاص أو لوبيات، إذ تتعرض العملية السياسية إلى اضطراب حاد ومهدد للجميع حينما يستشري الفساد السياسي والأخلاقي في هذه المؤسسات، أو حينما يشتد الصراع بين المكونات السياسية الساعية إلى تداول السلط عبر انتخابات منضبطة بمدة زمنية محدودة، أو حين تتحرك أطماع خارجية أو داخلية للاستيلاء على السلطة، أو حينما تعرف الظروف المالية والاقتصادية أزمة ما قد تكون، فقط، بسبب تلاعب مؤسسات اقتصادية أو مالية بمصالح الأمة في لحظة حرجة من تاريخها.

لقد أثبتت التجارب السياسية القائمة اليوم أن المجتمعات تتعرض لمخاطر جسيمة بسبب تقلبات السياسة والمال والاقتصاد في ظروف يصعب معها الاحتكام إلى الرأي العام حينها، خاصة أن هذه المجتمعات في ظل هذه التجارب عرفت انشطارات حادة عموديا وأفقيا لم تعد معها القوة المجتمعية موحدة، مما جعل آلة العسكر وأجهزته وأجهزة المخابرات هي القادرة على التوفر على أدوات الضبط والتحكم، وهو ما جعل السلطة معرضة لأطماع عسكريين قد يصبحون طرفا هاما في الصراع أو أدوات لتصريف مؤامرات خارجية.

كما أثبتت هذه التجارب السياسية أنه أصبح من الخطر رهن مصير شعب أو أمة بيد شخص أو حزب أو فئة قد تكون منتخبة بنسبة 50+1 في المائة مهما كانت القوانين والمؤسسات التي تشتغل معها، وهي عملية في مجتمعات متخلفة على الخصوص، جعلت الرأي السياسي في كثير من المنسابات يفضل حكم العسكر أو شخصيات عسكرية في زي مدني لما تملكه من قوة قادرة على الضبط، علما أن هذه النماذج من الحكم كانت أوخم تجربة سياسية عرفتها الأمم الحديثة.

ومن هنا، فإن بناء مؤسسات الدعوة كإطار تنظيمي وهيكلي لحركة المجتمعات المسلمة بعيدا عن تقلبات مؤسسات الدولة وسياساتها اليومية الخاضعة للظروف القائمة ساعتها سياسيا واقتصاديا، محليا وإقليميا ودوليا، يجعل المجتمعات في تماسك قوي وقادرة على احتواء كل أنواع الأزمات وفي كل المستويات والمجالات، كما يجعل مؤسسات الدولة تشتغل في أجواء من الاطمئنان والحرية وفق الإرادة الشعبية واستثمارا لكل كفاءات المجتمع بضمانة القوة المجتمعية.

وبهذا تُخلصنا نظرية الدعوة والدولة من اللوذ إلى الحاكم المستبد أو إلى نظام الحكم الوراثي لحماية العملية السياسية والمجتمعية من الانهيار، في الوقت الذي قد يكون هذا النظام الاستبدادي، مهما كان شكله، هو مصدر هذا الانهيار، الذي قد يكون شاملا في لحظات لم تعد معها مؤسسات الدولة والمجتمع تحت القبضة الاستبدادية قادرة على حماية نفسها من هذه الانهيارات في زمن تواصلي غير متوقع السرعة.

فنظرية الدعوة والدولة في صورتها التفصيلية مبنية أساسا على أن شعوب غالبية المجتمعات مسلمة، حيث هذه النظرية ضامنة لكل حقوق الأقليات؛ دينيا واجتماعيا وسياسيا وماليا واقتصاديا، ولهم الحق في الوجود في كل مؤسسات الدولة باعتبار معيار الكفاءة مثلهم مثل باقي أبناء المجتمع لا باعتبار “الكوطة” التي تشكل نفاقا سياسيا وتلفيقا مجتمعيا، ولأن هذه النظرية مبنية على معنى القوة المجتمعية باعتبار المشاركة الواعية والإرادية للأمة في العملية السياسية برمتها.

وبهذا تخرجنا هذه النظرية من النقاش الفقهي العقيم حول أهل الذمة السائد اليوم لدى أغلب الحركات الإسلامية إلى نقاش نظرية الحقوق والواجبات وفق نظام مجتمعي أصيل وجامع يأخذ المعنى الفقهي فيه معناه الحقيقي ومكانه وحجمه الطبيعيين.

ولذلك تتجه هذه النظرية في معناها التنظيمي الهيكلي من خلال اكتشاف المعنى التجديدي لمفهوم الجماعة كما اجتهد في عرضه وبيانه الإمام عبد السلام ياسين، حيث الجماعة بهذا المعني نظام للمجتمع عموديا وأفقيا وتشكل قاعدة الشورى لا المجتمع المدني كما هو شتيت فسيفسائي وأداة جزئية ضمن التجربة الغربية.

فالجماعة بمعناها العام نظام مجتمعي قائم على قواعد المحبة العامة والبذل والعطاء وسيادة قيم الشورى باعتبارها نظام للتفكير والاجتهاد، وباعتبارها نظام عام للحياة. وهو ما يجعل حركة الجماعة بمعناها التجديدي في مرحلة المعارضة للحكم غير الشرعي مبنية على ركيزتي الإحسان والشورى، حيث تتجه مباشرة هذه الجماعة، المنظمة أفقيا على قواعد الولاية الخاصة من خلال ميثاق جامع، وعموديا من خلال التنظيمات المجتمعية المشتغلة على الروح وبالروح الميثاقية، إلى بناء ركيزة العدل، فيكون النظام السياسي، الذي تبنيه نظرية الدعوة والدولة باعتبارها نظرية سياسية كبيرة، قائما على قواعد: الشورى والعدل والإحسان.

ومعناه ومقتضاه أن تنظيم حركة المجتمع على معاني الإحسان وقواعد الشورى هو ما يجعله قوة زاحفة مباشرة لإقامة نظام العدل وإعادة تنظيم وبناء المجتمع وفتح أفقه المصيري بناء على تلاحم قيم الشورى والعدل والإحسان؛ فيصير هذا المجتمع قوة لا تقهر وحركة لا تهزم ونظاما لا ينهار مادام هذا التلاحم بين هذه الأركان الكلية قائما، وهو ما يكشف حتمية وجود مؤسسات الدعوة ومؤسسات الدولة لتعملا في تناغم تام، ولذلك بعد مرحلة المعارضة تجعل نظرية الدعوة والدولة الجماعة مكونة من هاتين المؤسستين حيث تغطي الدولة مجال التدبير اليومي لكل القطاعات وتغطي الدعوة مجال تنظيم المجتمع حفاظا على وضوح أفقه الاستراتيجي المصيري وتضامنه اليومي حماية له من تقلبات الحكومات والتناوب على السلطات.

وهكذا توفر لنا نظرية الدعوة والدولة أربعة مفاهيم تفضي علميا إلى وحدة العلم كمرجعية جامعة، وعمليا إلى وحدة المجتمع قوة واعية وممتدة في المستقبل:

الأول: الجماعة

وهو مفهوم يستمد معناه ومضمونه من التجربة النبوية الخلافية (نسبة إلى الخلافة الراشدة)، حيث يكشف على المعاني والقيم التي تهيمن على حياة الفرد والمجتمع، وعلى ماهية النظام الذي تنتظم به حركة هذا المجتمع وعلى أفق حركته وماهية الحوافز التي تنتظم بها هذه الحركة.

وبهذا المعنى نتخلص جملة من معنى الجماعة كما صاغه الفقه السياسي السني من خلال مفهوم أهل السنة والجماعة، ونتجاوز في نفس القوت معنى الجماعة كما حصره الفقه السياسي الشيعي في بعض أئمة أهل البيت، فننفتح على معنى الجماعة الجامع الذي يتحرك بالأمة بعد إعادة تنظيمها إلى أفق نظام عالمي جامع، خلافة وإمامة، ينصف المستضعفين عبر نظام العدل الدولي.

الثاني: الشورى

نظام تفكير واجتهاد يمتد إلى نظام حركة الفرد والجماعة والمجتمع؛ فهو نظام حياة، ومسألة حياة أو موت، إذ لا حياة للمجتمع، في ظل نظرية الدعوة والدولة، دون نظام الشورى الذي ينقل حركة الأمة من البعثرة والسطحية إلى قلب المؤسسات الساهرة على تدبير الشأن العام في كل المجالات، فتكون هذه المؤسسات صادرة من صلب حركة الأمة وخادمة لها.

الثالث: العدل

العدل في الحكم قسمة الأرزاق وتحريك لقوة المجتمع لأجل إنتاج الثروة وتوزيعها بالإنصاف. والعدل في القضاء إنصاف ونصرة للمظلوم ودفاع عنه وإعطاؤه حقوقه.

الرابع: الإحسان

الإحسان الذي يصوغ نظرية الدعوة والدولة وتسهر هذه النظرية على الحفاظ عليه، بل لأجله كانت، هو المعنى الغائي المصيري الذي يصبح فيه في فهم ووعي وسلوك الفرد مصيره الفردي عند الله تعالى لا ينفك ولا ينفصل عن مصير أمته التاريخي ومن ثمة عن مصير خدمة الإنسانية من خلال خدمة المستضعفين برفع الاستضعاف عنهم.

إن هذا المعنى الإحساني الكبير، الذي فتل فتلا كاملا بين مصير الفرد ومصير الأمة ومصير الإنسانية، هو ما غير جميع معادلات التفكير السياسي ضمن نظرية الدعوة والدولة وأخرجها تماما وحررها كليا من ثقل التاريخ؛ ثقل الانكسار التاريخي منذ الانقلاب الأموي على نظام الخلافة، ومن ثقل الواقع كما فرضته الأنظمة السياسية الاستبدادية والوراثية على حركة الأمة، ومن ثقل التجربة الغربية التي فرضت هيمنتها على أنظمة التفكير بقوة الانبهار أو النار أو هذه مجتمعة.