تقديم “نظرية الدعوة والدولة” من خلال مأزق النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية المعاصرة (2)

Cover Image for تقديم “نظرية الدعوة والدولة”
من خلال مأزق النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية المعاصرة (2)
نشر بتاريخ

3. لماذا لم تنتج الحركة الإسلامية المعاصرة نظرية سياسية متكاملة؟

من المعلوم تاريخيا، حينما يكون الأمر يعني أمة أو شعبا، فإن النظريات السياسية هي الوسيلة العلمية الأساس لتعبيد طريق بناء أنظمة سياسية كبرى تدور على معنى الحرية والقوة والاستقلال، ولذلك يكون وراء صناعتها وصياغتها عاملان مهمان؛ قوة تصورية (مشروع مجتمعي متكامل) والتحكم في تجميع خبرة تاريخية حركية ذات سياق متكامل عبر قيادة جامعة وعالمة وحكيمة تقود عملية بناء النظام السياسي الكفيل بتحقيق تلك المقاصد (الحرية، القوة، الاستقلال)، وبتوفير عناصره الذاتية القادرة على تقويض امتداد المؤامرات الخارجية والتصدي للأزمات الداخلية في أي مجال وعلى أي حال، ولا يسمح بعودة الاستبداد والفساد مرة أخرى.

ولذلك لا يمكن نسبة انتصار الثورة المضادة أو فشل الحركة الإسلامية في تحقيق مقاصدها السياسية، مهما كانت نبيلة، إلى عامل المؤامرة الخارجية على خطورته، لكن يتحقق الفشل لما لا تتوفر العناصر الذاتية الكفيلة بصناعة عوامل المقاومة والممانعة وضمان الاستمرارية في بناء أركان النظام السياسي مهما كانت الظروف.

ولا شك أن ما يوفر تماسك العناصر الذاتية ونسقيتها الحركية البنائية هو وجود نظرية سياسية متكاملة تكون الوسيط العلمي والمعرفي والعملي الحركي بين مضامين التصور (العلم) وبين مضامين الموقف اللحظي من جهة، وبين هذا الموقف وبين تنفيذه من جهة ثانية، ليكون لبنة في مكانها المناسب وزمانها المناسب ضمن الاستراتيجية العامة لبناء ذلك النظام السياسي وتوفير عناصر الحفاظ عليه وتطويره واستمرارية صلاحه بتحصيل الثقة العامة فيه.

فالأمر لا يتعلق بمواقف فكرية عامة، ولا بمواقف تنفيذية وتنظيمية آنية، بل بخريطة ذهنية تصورية متكاملة ومتماسكة تنظم الحركة اليومية وتفاصيلها وتفعلها بشكل ناجع وفعال ومقتصد في اتجاه تحقيق المقاصد السياسية التي يكون النظام السياسي إطارا لها ووسيلتها المحورية.

ومعنى هذا أن النظرية السياسية، في الوقت الذي تنظم الجانب التصوري وفق نسقية علمية، فإنها تضع المعنى الهيكلي لتنظيم حركة المجتمع؛ سواء في فترة المعارضة أو في فترة الحكم، وبذلك تكون النظرية السياسية مستوعبة لكل سناريوهات التغيير المتوقعة وغير المتوقعة كما مستوعبة لكل الأزمات المحتملة وغير المحتملة لرهانها على القوة المجتمعية الواضحة الأفق السياسي.

ولا شك أن هذا لا يوفره نظام تفكير سياسي ضيق مشتغل كليا على مضمون الموقف السياسي من الحكم القائم، لذلك جنت الحركة الإسلامية مآسي كثيرة، وما زالت تجنيها إلى الآن في كثير من المواقع، لما بنت حركتها السياسية على الموقف من الطاغوت وضرورة كسر شوكة هذا الطاغوت وضرورة الحكم بما أنزل الله، أو على منطق إصلاحي جزئي لا يستند إلى نظرية سياسية تحررية.

إن صياغة الحركة بناء على موقف جزئي مجرد عن نظرية سياسية متكاملة تبني نظاما سياسيا كبيرا ومتكاملا، وقبل ذلك تعطي لهذا الموقف مضمونا علميا بديلا عن مجرد أفكار فرعية أو حتى انفعالات نفسانية أو اجتهادات عفى عنها الزمن وتجاوزتها حركة التاريخ، لن يؤدي إلا إلى ضيق تصوري وهيكلي تنظيمي يفضي إلى الإقصاء التلقائي للكفاءات المؤهلة لبلورة هذه النظرية والعمل على تفصيلها ومتابعة العمل على ضوئها وتقييمه بناء على معاييرها، كما يؤدي إلى معارك هامشية أو جانبية، أو إلى نفق حركي تنظيمي لا يمكنه أن يستوعب المضمون التاريخي لحركة أمة لها مرجعية كبرى جامعة، خاصة لما تكون هذه المرجعية رسالة إلى العالم، ذلك أن الأنظمة السياسية الكبرى ترتبط دائما برسائل حضارية كبرى يجب أن تعكسها وتخدمها.

فالحركة الإسلامية، عموما، لم تقدم نظرية سياسية تؤسس لنظام سياسي في مستوى الرسالة التي تحملها للعالم، ولا شك أن وراء هذا عوامل كثيرة سنجمل أهمها في هذا البحث المركز في محاولة للبحث عن مخرج لهذه الحركة في ظروف سياسية بالغة التعقيد داخليا وخارجيا.

العامل الأول: بناء حركة سياسية على رد فعل

تعتبر الحركة الإسلامية المعاصرة، في غالب تنظيماتها ورجالها، رد فعل عقدي وسياسي على تداعيات سقوط “الخلافة العثمانية” باعتبارها كانت تمثل شوكة الإسلام، ولذلك نجد مواقف الإمام البناء، رحمه الله، السياسية والحركية تستند إلى هذا المبدأ حيث كان الحرص على بيان وتثبيت مضمون شعار: “سياستنا دين وديننا سياسة”، ومن هذا المنطلق يمكن اعتباره مجددا في القرن الرابع عشر هجري حيث قام بجهد عظيم حركي مصحوب بغزارة لا بأس بها من جهة البيان العلمي والخطابي العارض للمواقف العقدية والسياسية العاملة على تصحيح العلاقة بين الدين والسياسة، وتجسد هذا المجهود في بناء “جماعة الإخوان المسلمون” التي ما زالت تشتغل على هذا الرصيد من المواقف في محاولة، دون تجديد كبير فيما قام به البنا في ظروف معقدة، لتفويت الفرصة على ترسيخ مبدأ “اللائكية” الذي تبناه نظام أتاتورك في تناغم تام مع ما تروج له التجربة الغربية ونخبها في البلاد العربية والإسلامية من فصل الدين عن الدولة، الذي ترسخ أكثر بعد خروج المستعمر من البلاد العربية والإسلامية وخلف من ورائه نخبة في الفكر والسياسة والإدارة والتربية والتعليم مقتنعة بهذا المبدأ (فصل الدين عن الدولة)، ولذلك استغرقت مناقشة هذا المبدأ وقتا وجهدا كبيرين لدى القيادات التاريخية وقيادات الفكر دون أن تسنح الفرصة لبلورة نظرية سياسية جامعة، ولذلك عرفت الجماعة انشقاقات قطرية ومن جهة تنظيمها الدولي بسبب مواقف سياسية لا مرجعية.

ومن المعلوم أن جل الكتاب والمفكرين اشتغلوا على هذا النمط مع إضافات لا ترقى إلى بناء النظرية السياسية، الأمر الذي لا ينفي أن كثيرا من المفكرين والباحثين تصدوا لمفهوم النظرية السياسية في الفكر الإسلامي منذ أواسط القرن العشرين الميلادي، لكن الملاحظ أن أغلب هؤلاء بحثوا وكتبوا من خارج حركة التنظيمات الإسلامية، في الغالب، أو كانوا على هوامشها، أومن داخل المجالات الأكاديمية، وهو ما وفر تراثا معرفيا وعلميا قلما استفادت منه الحركة الإسلامية، مما وسع الهوة كثيرا بين هذه النخبة وبين هذه الحركات.

ولعل هذا شكل مؤشرا على ما ندعيه في هذا البحث من كون مفهوم النظرية السياسية، كإطار معرفي وأداة عملية وعملية، غاب عن البناء التصوري لدى الحركات الإسلامية، حيث اتجهت القيادات بشكل شبه كلي إلى تنفيذ المواقف الجزئية والبحث عن مستنداتها الشرعية على أساس منهجية أصولية تقليدية مبنية على معاني التجريد والجزئية دون إعطاء الوقت الكافي لصياغة النظريات الجامعة الكفيلة بنقل الموقف من مستوى النظر الجزئي إلى مستوى البناء العملي المتكامل استراتيجيا ومصيريا، ولعل الغموض الكبير أو الالتباس الذي أحاط بمفهوم الشورى لدى جل الحركات الإسلامية خير دليل على هذا.

ولذلك ففعل الحركة الإسلامية السياسي في ظروف معقدة ومتشابكة لم يكن إلا رد فعل اتجاه ثلاثة قضايا كبرى؛ سقوط “الخلافة العثمانية”، وتوسع قاعدة النخبة المغربة وتغلغلها في دواليب الحكم والإدارة والتربية والتعليم والإعلام المشتغلة على قاعدة مبدأ التجربة الغربي؛ فصل الدين عن الدولة، وقيام أنظمة استبدادية وراثية أو انقلابية عسكرية تتلاعب بالدين وقضاياه وفق هواها ومصالحها وجندت لذلك كثيرا من رجال العلم والمعرفة والأعمال والإعلام.

وما يقتضيه المقام هنا الإشارة إلى أن الفعل السياسي لدى الحركة الإسلامية، لما لم يبن على عملية تجديد شاملة لأنظمة التفكير والاجتهاد في الفكر الإسلامي، وجد نفسه رهينة الرصيد التراثي في الفقه السياسي السلطاني وإن حاول التخلص من هيمنته في محاولات جزئية لا ترقى إلى مستوى توفير إمكانيات التحرر الشامل منه والتأسيس لفقه وتفكير سياسيين إسلاميين مناسبين لحجم الطموحات التي تروم الحركة الإسلامية إنجازها.

فهو لم يتخلص من المنطق المصلحي التبريري، مما جعله ذا مضمون إصلاحي جزئي، الأمر الذي لم يوفر له القدرة العلمية الذاتية لمجابهة التحديات التي تطرحها الأنظمة السياسية القائمة والنظريات السياسية القادمة من التجربة الغربية، مما جعله في اللحظات الحرجة جدا ينتكس وينكمش وربما يتحول إلى ردة فعل عنيفة تزيد من ضعفه وضعف حركته من الناحية الاستراتيجية والمصيرية، وقد يلجأ، في هذه اللحظات الحرجة، إلى تقديم إجابات ليست من صلبه بل مستوردة من خارجه.

لذلك نجد أنه كلما عاشت الحركة الإسلامية صدمة حركية تخرج من جنباتها ردات فعل عنيفة لا تستطيع الصمود أكثر من بضعة شهور أو سنوات ثم تتلاشى أمام نوع وحجم المطلوب تكتيكيا واستراتيجيا.

فغياب النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية، مهما كان رصيد خطابها السياسي وحجمها الجماهيري، جعلها بين خيارين ولم تنفتح على ثالث؛ خيار البحث عن “ثقب ديموقراطي” تحت أنظمة استبدادية ظاهرا وباطنا، وخيار الانقلاب العسكري أو العمل العسكري، وفي كلا الوضعين، لحد الآن لم نر نجاحا كبيرا يحسب إلا تراكم التضحيات والتضحيات وكأن الحركة الإسلامية وجدت لصناعة الموت لا التاريخ.

فسيادة المنطق الإصلاحي التبريري الجزئي في بناء الموقف السياسي كرس تموقعا ناقصا لدى الحركة الإسلامية، وفرض عليها تبني مفاهيم فضفاضة؛ كمفهوم الحضارة والخلافة والتنظيم العالمي، أمام حجم ما يطرحه نظام عالمي قوي يستند إلى أنظمة سياسية كبرى وعريقة وقوية في علاقة مصلحية مع أنظمة محلية قائمة على الاستبداد المطلق لا تتوانى عن اعتماد الوسائل القذرة في مواجهة المد الإسلامي.

إن سيادة هذا المنطق هو نفسه مؤشر على غياب النظرية السياسية التجديدية، حيث من وظائف هذه الأخيرة بناء نظام تفكير متكامل ونسقي يحرك الموقف السياسي ضمن حركة استراتيجية تجديدية تقترح نظاما سياسيا متكاملا بديلا عن أنظمة ظاهر قيامها على الفساد والاستبداد واحتكار السلطة ومصادر الثروة وتسخير كل واحدة منها لخدمة الأخرى، ومتعارضة مع مصالح الدين ومقاصده، إذ لا مصلحة تجنى من داخل مفسدة الحكم الشمولي مهما كانت نعومته، لأنه يسخر حركة الدين لترسيخ وجوده ولا يقبل إلا أن تكون حركة الدين تحت إبطه وسقفه.

فالمنطق المصلحي التبريري، الذي قد يوجد له مبرر في ضرورة الحفاظ على بيضة الإسلام ووحدة المسلمين تحت ظل نظام سياسي غير شرعي وقائم على اغتصاب الحكم وتوريثه، لم يعد له معنى اليوم لما تمزقت هذه الوحدة وتكسرت هذه البيضة وانشطر المجتمع أفقيا وعموديا في كثير من الأقطار لا يتوقف نزيف تجزئتها إلا ليستمر على صور بشعة من القتال والتقاتل وتهيئة أرضية مناسبة لاختراقات المؤامرات الخارجية التي لا تتوقف إلا لتستعد للاقتحام بعنف متجدد.

ولذلك فمستند النظرية السياسية يكمن في وجود تصور علمي متخلص من المواقف الانطباعية أو الجزئية المبنية على روح ردة الفعل التاريخي، ومنطلق من وحدة العلم التي تفضي حركتها الميدانية إلى وحدة رجال العلم ليقودوا من خلال مشروع تغييري مجتمعي النهضة الشاملة لبناء واقع الحرية والقوة والاستقلال.

العامل الثاني: زواج الفكر الوهابي وحكم آل سعود الذي توفر له الذهب الأسود

هناك رصيد علمي غزير خلفته تجربة الإمام ابن تيمية، رحمه الله، عند تعاطيه في ظروف مضطربة مع قضايا مختلفة منها قضية الحكم والموقف منه، وقد تأسست حركة محمد بن عبد الوهاب على رصيد تجربة ابن تيمية في جوانب كثيرة منها كما فهمها محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، دون أن نتجاهل الرصيد الخلافي العقدي الذي يرتبط بالتكفير عبر تاريخ المسلمين الذي تفرع عن الانقسامات المتتالية في الفكر الخوارجي والذي استطاع، بحكم لجوئه إلى منطق ساذج في التكفير وبناء المواقف، اختراق منظومات التفكير والاجتهاد لدى كثير من علماء الحجاز، لذلك لما قام محمد بن عبد الوهاب بحركته الإصلاحية لم تخل تفاصيل تفسير مذهبه من هذا النمط من التفكير والاجتهاد السريع الانقسام لكونه ضيق من مجال إعمال الاجتهاد وبيان العقيدة عبر سيادة منطق التكفير والطائفة الناجية بالارتكاز إلى فهمه للدين والشريعة. وقد اضطر محمد بن عبد الوهاب، في لحظة معينة أن يتحالف مع آل سعود ويقيم دولة قائمة على الوهابية فكرا وفقها، علما بأن آل سعود هم الذين تأبطوا حركة ابن عبد الوهاب وليست هذه الأخيرة هي من جند معها هؤلاء كرجال دولة.

وهنا حصل زواج تاريخي كرس واقعا سلبيا، سواء من جهة تجديد الفكر والفقه، أو من جهة عرض مضمون الدين ومعناه.

فما جرى في التاريخ أن الحركة الإسلامية في الوقت الذي توجهت، على العموم، إلى معارضة أنظمة الحكم القائمة بمناهج مختلفة، كانت المؤامرة الخارجية الغربية ترتكز على حتمية محاربة هذه الحركة، خاصة لما ترسخت دولة الكيان الصهيوني في فلسطين، وقد أدرك رواد هذه المؤامرة، من خلال مكاتب الدراسات وخبرائها واستخباراتها، حجم التعارض الجوهري بين الحركات الإسلامية الأخرى بكل مدارسها وبين الحركة الوهابية، مما دفع بهم إلى تجنيد كل الإمكانات المادية والإعلامية لينتشر هذا الفكر بشكل سريع ومفاجئ وكاسح بحكم وجود أنظمة سياسية تتحالف معه وتبني أنظمة تفكيرها على قواعده ومن خلال رجالاته، وقد تجلت نتيجة هذا الهجوم الكاسح للفكر الوهابي في ثلاثة أمور أساسية:

الأمر الأول: اختراقه بدرجات متفاوتة للحركة الإسلامية عموما، وهو ما أثر على كثير من مواقفها الفكرية والسياسية والحركية والفقهية، وغيرها، إذ لم تنج منه، تقريبا، أية حركة إسلامية. ومن المعلوم أن هذا الاختراق كان من أهم عوامل تكريس وتعميق موقف سلبي من الشيعة خاصة بعد ثورة الإمام الخميني، رحمه الله، أفضى إلى تعميق الهوة بين إيران والعالم العربي وأغلب الحركات الإسلامية بما فيها جماعة “الإخوان المسلمون”؛ حيث ظهر ذلك جليا مع ما سمي بالربيع العربي، دون أن نغفل أخطاء كثير من قيادات الثورة الإيرانية السياسية والتواصلية مع الدول العربية بعد الثورة في إيران.

ولعل تعقد ما سمي بالربيع العربي كان نتيجة هذه العلاقة المتشنجة مع إيران خاصة لما قاد هذه العلاقة امتداد الفكر الوهابي في الفكر السياسي السني، خاصة منه التكفيري.

الأمر الثاني: توجيهه سهام نقده إلى الحركة الإسلامية أكثر من غيرها، مع اعتماده فقها منحبسا تجاه خصومه حيث وظف مفاهيم التكفير وما شابهها، وهو ما عبأ بشكل صراعي حاد وقاس كثيرا من تيارته، وإن عرف مراجعات فكرية وعقدية عند بعض رموزه لا ترقى إلى مستوى التغير الجوهري، إلى أن وصلت هذه التعبئة عنتد كثير من فئاته إلى اعتبار الحركات الإسلامية من صنف المرتدين؛ فتعامل معها بناء على فتوى: محاربة المرتد أولى من محاربة الكافر.

الأمر الثالث: أن حجم التعبئة والاستقطاب الكبيرين أديا به إلى درجة من التضخم الحركي والعلومي لم تعد وضعية الزواج بينه وبين أنظمة سياسية تقليدية جامدة، كالنظام السعودي، قادرة على استيعابه، خاصة لما كشف توالي الأحداث والسنوات ضعف هذه الأنظمة وسقوطها في خدمة استراتيجيات الغرب في المنطقة، بالإضافة إلى فسادها السياسي والمالي والأخلاقي، وهو ما جعله ينقلب عليها تكفيرا، ومن ثمة قتالها بناء على موقف لا على نظرية سياسية متكاملة، كما أدى هذا التضخم إلى واقع ترفي في الفهم والحركة لدى هذا التيار، وهو ما انعكس في صورة انشقاقات لا حصر لها وستستمر بشكل غريب وعنيف تستثمره وتعمقه أجهزة الاستخبارات الرسمية العربية والغربية.

إن وضعية الزواج بين الفكر الوهابي والنظام العائلي الوراثي في غالب دول الخليج، التي أفرزت ردة فعل عنيفة على هذه الأنظمة والشعوب كذلك، شكلت عامل انحراف إضافي إلى عامل سيادة المنطق المصلحي التبريري على المواقف السياسية اتجاه أنظمة سياسية قائمة على الاستبداد وتتحكم في جميع مفاصل الحياة المجتمعية والسياسية وخادمة لاستراتيجيات الهيمنة الغربية على المنطقة، لذلك لا مستقبل للحركة الإسلامية ما لم تفكك علميا وعمليا هذه العلاقة المزورة بين الإسلام وبين أنظمة العائلة، وتخرج من قبضة الموقف السياسي الجزئي إلى موقف النظرية السياسية العارضة والواصفة والكاشفة لحجم المشروع التغييري الذي تشتغل عليه هذه الحركة، ومن هيمنة الفكر الوهابي، خاصة التكفيري منه، حتى ولو كان حاضرا بشكل جزئي في بنائها التصوري لقضايا العقيدة والدين والسياسة والاجتهاد وغيرها، لتعانق المستوى العلمي الجامع وتخاطب من خلاله حاضر ومستقبل الأمة والإنسانية.

العامل الثالث: تجزؤ العلوم وهيمنة التفكير الجزئي على التفكير السياسي لدى الحركة الإسلامية

نعم، يمكن أن يجد الباحث لدى كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة تصورات سياسية عامة، لكنها لا تنتظم ضمن نظرية سياسية ساهرة، بكل وضوح ويقظة، على بناء المراحل السياسية والحركية، وذلك راجع، أساسا، إلى فقدان القاعدة العلمية الجامعة.

فقد وجدت الحركة الإسلامية المعاصرة نفسها تحت ثلاثة أثقال جسيمة؛ ثقل أنظمة سياسية وراثية واستبدادية أضيفت لها انقلابات عسكرية فتاكة هي نتيجة الانكسار التاريخي بانقلاب بني أمية على الخلافة، وثقل علومي فرضه الهجوم الغربي من خلال الاستعمار وقضايا العلم والعلوم ومناهجه ونظرياته المتطورة والسريعة التغير والمتماسكة السياق والنسق المسندة بقوة عسكرية غازية، وثقل البعثرة العلمية والعلومية الإسلامية الضاربة في أعماق أنظمة التفكير والاجتهاد؛ حيث جعلت العلاقات المجتمعية تتمرتس وراء مواقف فقهية وعقدية جزئية، مما أدى إلى تمزق علمي حاد في الوسط الإسلامي لولا إطلالة أكابر العلماء من خلال معاني ومباحث مقاصد الشريعة التي لم تتحول بعد إلى أداة علمية جامعة بسبب حجم التمزق والتفتت العلمي والعلومي الشائك عبر تاريخ الانكسار وسد أبوب الاجتهاد في مراحل تاريخية متعددة، وبسبب عامل تمزق العلماء، إذ لا مدخل للوحدة والقوة إلا بوحدة العلم ووحدة العلماء وقوتهم ضمن الحد الأدنى الذي يجب أن تقود الحركة الإسلامية، قبل غيرها، مهمة إنجاز هذا الواقع الوحدوي من خلال تكريس البحث العلمي الجامع في الباب، ومن خلال عملية تواصلية قوية وجامعة بين العلماء معهم المفكرين والمثقفين والباحثين الفضلاء.

إن هناك غرابة في أن لا تقود الحركة الإسلامية هذه المعركة المصيرية، إذ نجد، في الغالب، العكس، حيث جل الحركات الإسلامية تخلو من ثقل العلماء إن لم تكن لا تتوفر على قابلية الاستيعاب العلمائي، كما تركز على ما يخدم تصوراتها الخاصة دون البحث عن القواسم والعوامل المشتركة، وهي لا تحصى، بين المسلمين لتفعيلها وتنظيفها من لوثة تاريخ الانكسار والانحراف وتحقيق معانقة هذه المشتركات العلمية مع تصوراتها الجامعة ليكون كل ذلك دفعة قوية نحو وحدة المستقبل كما هي وحدة المصير.

وإن إغفال هذه الواجهة المصيرية لدى حركة الإسلام والأمة جعل من الحركات الإسلامية، في الغالب، تنظيمات محترفة للسياسة أو الفكر أو الفقه أو هذه مجتمعة على درجة من الغموض وغياب النسقية، الأمر الذي جعلها وكأنه ليست هناك فروق جوهرية بينها وبين الأحزاب السياسية بمفهومها التقليدي، ولذلك فلن تكون إلا رقما من الأرقام يتحرك ضمن لعبة التوازنات والمغالبات حول السلطة صعودا وهبوطا، حيث تم اختزال، في الغالب، الحركة الإسلامية في الموقف السياسي الذي قد تجعله متقلبا أحوال السياسة المحلية أو الدولية أو هذه مجتمعة.

نعم، لا يعني هذا عدم وجود علماء ومفكرين ومثقفين في صفوف الحركة الإسلامية أو عدم وعيها بأهمية مهامهم في البناء والاستمرار في التجديد، لأن حديثنا هنا ليس عن العالم أو المفكر أو المثقف العضوي على قلته بالنسبة لحجم العلماء في الأمة، لكن المقصود أن قوة هؤلاء داخل جسم الأمة حينما تنظم عبر جسم الحركة الإسلامية مشروعا كاملا يغطي كل حركة المجتمع؛ فذلك تجل واضح لتحقيق الحد المطلوب من القاعدة العلمية الجامعة، حيث هذه القاعدة الموحدة علما ورجالا ضمن حركة مشروع كامل هي معنى تجديد سياق حركة الأمة التاريخية وتجديد بناء نسقها العلمي والمعرفي المستقل عن التجربة الغربية حيث يحقق منها الاستفادة الحضارية دون تكريس واقع التبعية لها، والمتحرر من ثقل التاريخ والبعثرة العلومية الضاربة في عمق الحركة التاريخية للأمة، والمتجلية اليوم في هذا الحجم الرهيب من التقاتل والعنف، كما يحقق هذا المشروع الكفاءة ونجاعة الاستفادة البنائية من هذا التراث العريق والغني لأمة “اقرأ وارق”.

هنا نقف على مسألة بالغة الخطورة، ولم تأخذ حقها من البحث الكافي للكشف عن حقيقتها ومهمتها، وهي ما يخرج الحركة الإسلامية من دائرة التمزق إلى دائرة العمل الوحدوي، ومن دائرة الشتات العلمي إلى دائرة وحدة العلم، ومن دائرة المعنى الحزبي الضيق لحركتها إلى دائرة المعنى المجتمعي حيث القوة والوحدة والاستقلال، وهي أمر القيادة الربانية التي ليست هي القيادة العلمائية وليست هي القيادة الفقهية وليست هي القيادة الفكرية وليست هي القيادة السياسية، إذ لكل هؤلاء مهام البناء التفصيلي لقواعد العلم التصورية والحركية والاستراتيجية، أما القيادة الربانية فهي وعاء العلم الجامع، علم الغاية، علم المعاملة القلبية مع الله تعالى ومع الخلائق، علم البصيرة حيث الضوء الكاشف للطريق السيار إذ يجتمع فيها نور الوحي ووراثة النبوة وهو ما يحقق المضمون الرسالي في حركة المجتمع ومؤسساته، وبهذا فقط نستطيع أن نقهر كل معاني القسوة والغلظة والأنانية ونفتح آفاق المحبة والرفق والحلم والرحمة والعلم وفق أدوار استراتيجية لكل مكونات الأمة على قاعدة: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.

إن هناك عجزا واضحا، بعد كل هذه التجارب التي عاشتها الحركة الإسلامية، في تعميق البحث حول نوع وماهية القيادة التي يجب أن تقود الحركة الإسلامية.

هنا، بالضبط، نقف على مدخل النظرية السياسية التي لطالما بحثت عنها هذه الحركة وجربت ما تتيحه الديموقراطية من ثقوب ولم تسلك منها، وما توفره الانقلابات العسكرية من “قوة”، وربما من عنف، ولم تلج منه.

هنا، بالضبط، نقف على مدخل الطريق الأخير إلى نظرية سياسية كبيرة تبني نظاما سياسيا كبيرا على قواعد الحرية والعدل والكرامة، ويحقق واقع الوحدة والقوة والاستقلال.

وبهذا، فالكنز الاحتياطي لدى الأمة، ليس هو البترول والمال، وليس هو القوة العسكرية والمادية، وهو أمر ضروري ومصيري، لكن هو هذا العمق القيمي الجامع، هم أولئك الرجال الذي يحملون في قلوبهم معنى الرسالة، التي هي مسيرة أجيال عبر التاريخ، هم قادة السفينة في هذا البحر الموار والأحداث المحيرة، وعلى الأمة ورجال المروءة من أهل البحث والفكر والثقافة أن يبحثوا عنهم ويجتهدوا في استنباط وظائفهم ومواقعهم في حركة الأمة والتاريخ.