تقديم “نظرية الدعوة والدولة” من خلال مأزق النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية المعاصرة (1)

Cover Image for تقديم “نظرية الدعوة والدولة”
من خلال مأزق النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية المعاصرة (1)
نشر بتاريخ

1. تقديم

يروم هذا البحث المركز الوقوف على العامل الرئيس في إخفاق الحركة الإسلامية لحد الآن، مع استثناء التجربة الإيرانية، في بناء نظام سياسي مكتمل الأركان، أو على الأقل أن تكون لها مساهمة دافعة في اتجاه ترسيخ قواعد هذا النظام الذي يضمن واقع الحرية والقوة والاستقلال، على الرغم من زخمها الشعبي الهائل، ومع استنادها إلى مرجعية هي مرجعية غالبية الشعوب التي تتحرك ضمنها، ومع توفرها على كوادر متخصصة ومتنوعة وهائلة العدد.

يستمد هذا السؤال راهنيته ووجاهته من حجم التضحيات التي قدمتها هذه الحركة، ومن حجم الفرص التي صنعتها بفضل هذه التضحيات أو التقت معها في حركة التاريخ، ومن حجم المسؤولية التي تصدت لها.

2. سياق العجز عن بناء النظرية السياسة لدى الحركة الإسلامية

ففي سجل التاريخ الإسلامي، ومنذ الانقلاب الأموي على الخلافة، يقف الباحث أو غيره على حجم مهول من التضحيات، ويكفي ما عاشته هذه الحركة خلال القرن العشرين وما مر عليها من الواحد والعشرين بالتقويم الميلادي.

وقد اجتهد جل مؤسسي هذه الحركة ومنظروها في صناعة الفرص أو التقاط أخرى منذ الحسن البنا، والمودودي، إلى الترابي وراشد الغنوشي، وغيرهم، رحم الله من مات ورحم سبحانه من لا يزال واقفا على ثغر من الثغور، لكن المؤكد أن الحركة الإسلامية لحد الآن لم تجد نفسها لا مؤسسة لنظام سياسي ولا مساهمة فيه ويمكن اعتباره نظاما سياسيا مستقلا وقويا ويضمن الحرية للجميع بديلا عن أنظمة الجمهوريات الوراثية والملكيات الوراثية والإمارات الوراثية والجمهوريات الانقلابية (نسبة إلى الانقلابات العسكرية).

ليس من مقصود هذا البحث المركز أن يقف مع ما كتبه الباحثون حول الفكر السياسي لدى الحركة الإسلامية، وذلك كثير لا تضاهيه إلا الحواشي على حواشي المتون، والتفريع على الفروع وتفريع التفريع عبر تاريخنا العلومي الطويل والغني جدا، دون أن نتجاهل المضمون العلمي المعتبر الذي تصدى له كثير من رجال هذه الأمة، لكن المؤكد هو سعي هذه الحركة إلى إعادة بناء وحدة الأمة وضمان حريات أفرادها وكرامتهم، مع اختلاف في مفاهيم هذه الحرية، والمساهمة في بناء واقع إنساني عادل. ولاشك أنها مقاصد سياسية نبيلة، لكن بأي معنى وبأية وسائل؟

كانت خاتمة تلك الفرص مع ما سمي بالربيع العربي الذي انطلق بدايات 2011م، والذي التحقت به الحركة الإسلامية بعد انطلاقته مباشرة، واستطاعت تنظيمه وتجنيبه في كثير من الدول مزالق العنف والضعف، لكن لم تذهب به إلى مرحلة الاستقرار العادل حيث حصلت الثورة المضادة في مصر وفرضت على الحركة الإسلامية، عموما، تغيير استراتيجية الثورة مع الحفاظ على سلميتها، وهو ما سيتطلب وقتا طويلا قد يفتح الباب على مصراعيه أمام توجه العمل المسلح أو التحاق الشباب بالتنظيمات المسلحة وتعاطف الشعوب معها، وأربكت، أي الثورة المضادة، الوضع تماما في اليمن وليبيا وسوريا (مع خصوصية تتعلق بعلاقة إيران المصيرية مع النظام السوري، وهذا بحث آخر ليس هذا مقامه)، وتراجعت حركة النهضة في تونس من موقع الحكم إلى المركز الثاني بفارق 16 مقعدا مع حزب يحتوي على شخصيات وجمهور من النظام السابق الذي قامت الثورة في تونس على فساده واستبداه حتى أصبح التخوف سائدا من عودة النظام السابق عبر رموز سابقة منه.

ففرصة الربيع العربي خاتمة حيث لن تتكرر فرصة شعبية مثلها في الزمن المنظور، لأن الأمر سيحتاج إلى تضحيات جسام وزمن غير يسير؛ ذلك أن حجم الانشطار، الذي أحدثته الثورة المضادة داخل المجتمعات باعتماد منطق الحرب الضارية والسلاح الفتاك، اخترق المجتمعات عموديا وأفقيا بشكل حاد جدا وخلف جراحا نفسية ومجتمعية وسياسية ليس من السهل تضميضها وعلاجها، فضلا عن انتشار “ثقافة السلاح” التي صارت على الصورة التي لطالما شغلت الطفولة العربية والمسلمة منذ أكثر من نصف قرن من الزمن على شاشات التلفاز حتى صرنا اليوم نرى كل واحد، تقريبا، ببندقيته وربما يعتقد أنها الوسيلة الوحيدة للدفاع عن مصالحه ووجوده (نستثني هنا سلاح المقاومة في فلسطين ولبنان).

فالفكر السياسي، لدى الحركة الإسلامية يجعل من قضية الحكم، غالبا، صلب موضوعه منذ سيادة مفاهيم الحاكمية، مع سيد قطب، رحمه الله، وغيره، ومنذ انتشار فكرة الولاء والبراء عند كثير من فروع الفكر الوهابي سواء جهادية او تكفيرية، إلى مفهوم الخلافة كما تصوره حزب التحرير أو فروع تنظيم القاعدة، وهي فروع من فروع الفكر الوهابي.

لكن المؤكد أن قضية الحكم في أغلب هذه التجارب، إن لم نقل كلها، كانت مسألة موقف وليست مسألة نظرية سياسية متجهة إلى نقد النظريات السياسية القائمة بكل صورها ومدارسها وعرض بديل مستلهم للتجربة النبوية الخلافية (نسبة إلى الخلافة الراشدة) لأجل قيام نظام سياسي يخرج المجتمعات من قبضة الاستبداد والفساد والانقلابات والصراعات الفردانية على الحكم.

إن بناء الموقف السياسي من الأنظمة السياسية القائمة والعمل على تنفيذه مجردا عن نظرية سياسية متكاملة يشكل باب النفق حينما تقترب الحركة الإسلامية من الحكم، ويشكل منصة المشنقة حينما تصل إليه، وهنا تصبح جماهيريتها غير ذات قيمة مصيرية حتى وإن تمكنت من توفير شروط الدفاع عن الموقف أو تحصيل كراسي أو مناصب في هذه المؤسسة أو تلك، وتصبح كوادرها تضخما مهما كان حجم الحراك الذي تقوده، لأنه، ببساطة، صار النفق ضيقا ولا يتحمل هذا الحجم من الكتلة البشرية مهما كان معها من الحق حيث سيحاصرها الفساد القابض على المؤسسات والمتحالف في كثير من المواقع مع رجال أعمال وإعلام وسياسة، وهو ما أدى إلى واقع ترفي حركي وتصوري أدى إلى الانشقاقات والانقسامات.

هنا يكون دور النظرية السياسية المتكاملة مصيريا حيث تكون كالطريق السيار، ولذلك يبقى السؤال جوهريا: لماذا لم تستطع الحركة الإسلامية بلورة نظرية سياسية متكاملة تقودها إلى تحقيق أهدافها التي هي أهداف تحررية؟

فما كشفت عنه فرصة ما سمي بالربيع العربي أنه ليس مطلوبا، فقط، إنجاز المواقف السياسة أو حتى احتلال أجزاء مهمة من المواقع السياسية عبر انتخابات، قد تكون نزيهة، أو عبر عمل مسلح قد يكون مشروعا بمشروعية الثورة المسلحة كما تصورها البعض صوابا، لكن الامتحان الحقيقي هو ما ستقدمه هذه الحركة عند احتلالها لهذه المواقع من أجوبة عن السؤال الاجتماعي وعن سؤال النهضة الاقتصادية الشاملة والتنمية المتحررة، وقبله وبعده عن سؤال المضمون القيمي لهذا الجواب إن كان هناك جواب.

فقد كشفت العمليات السياسية بعد ما سمي بالربيع العربي أن الحركة الإسلامية فقيرة جدا في الباب، ويكفي أن ننظر إلى ما قدمته حركة النهضة في تونس وكيف أجاب حزب العدالة والتنمية في المغرب عن هذا السؤال الهام والحيوي؛ السؤال الاجتماعي، أما الحركة التي لم يستقر لها قرار في الحكم فقلبها لمنهجية الجواب، حيث أخرت أولويات الوضع الاجتماعي، كان عاملا مهما في إتاحة الفرصة الذهبية للثورة المضادة لتكتسح بعنف معاقل الثورة وتعمل على تجفيف منابعها بكل عنف، لتبقى هذه الحركات اليوم أمام سؤال الوجود وكيفيات إعادة بناء قواعد الثورة علميا وعمليا واستراتيجيا ومصيريا.

إن إخفاق الحركة الإسلامية في الجواب عن السؤال الاجتماعي من خلال نظرية سياسية متكاملة لم يمكنها من استثمار قوتها في الباب، كما جعلها في موقع بالغ الخطورة على مستقبلها في الحالات التي تقدمت بالجواب عن الأسئلة الاجتماعية الملحة عبر ما اقترحته مرحلة “النيولبرالية” من طرف صندوق النقد الدولي وأخواته من صناديق الاقتصاد والمال الدوليين؛ نموذج مقترحات الحكومة في المغرب حول حل معضلة صناديق التقاعد، والرهان على نظام التسول المنظم (دعم الأرامل من النساء وما شابه)، ونموذج الرهان في مصر أيام الرئيس مرسي، ومع حكومة النهضة على الاقتراض الخارجي الذي لن يعمق إلا واقع العجز، في ظروف الثورة، في جميع الموازنات وتكريس التبعية التي قامت الثورة لإنهائها ويؤدي إلى كسر رجل الثورة اليمنى حيث تهتز العلاقة مع الشعب الذي ينتظر الخبز، وكسر الرجل اليسرى لما لا يفتح أفق الاستقلال الاقتصادي.