تفقد أحوال المسلمين في زمن “الحجر الصحي”

Cover Image for تفقد أحوال المسلمين في زمن “الحجر الصحي”
نشر بتاريخ

خلق تـفـقـد أحوال الـناس

لقد حرص ديننا الحنيف على تقوية الصلة وتوطيدها بين الأرحام وبين الأخوة الإيمانية وكذا الإنسانية، لما في ذلك من أثر في تقوية المحبة والمودة والإخاء، ومما لا ريب فيه أن هذه الصلة لا تكون إلا بالمعاهدة والتفقد والسؤال عن الأحوال، وستبقى بإذن الله من أهم الأعمال الصالحة التي يتقرب بها العباد لينالوا بها رضا ربهم ورحمته. وهذا ما لا يتأتى في “الحجر الصحي”، هذا الظرف الذي نعيشه حاليا، فقد ابتليت الأمـة – بل البشرية – بـوبـاءٍ لا قبـل لهـا به، نسـأل الله أن يرفعـه عن الإنسانيـة جمعــاء، هذا الابتلاء الذي ألـزم الناس القعــود والــربــاط في المنازل حماية لأنفسهم وغيرهـم.

وعلى المؤمن أن يسعى إلى ذلك بكل الوسائـل المتاحة والمشروعة، وما أكثرها خاصة في عصرنا هذا حيث التكنولوجيا المتطورة، وهي سيف ذو حدين؛ حيث أنها وإن اختصرت المسافة بين البشر وجعلت العالـم يبـدو كقـرية صغيـرة،  إلا أنها ساهمت من جهة أخرى في  التقليل من التواصل الفعلي بين الأفراد وخلق عالم افتراضي؛ حلت فيه المكالمات الهاتفية عن بعد والرسائل النصية مكان التواصل الفعلي والتزاور عن قرب، مما أدى لتغيير جذري في مفهوم الترابط العائلي – خاصة بالنسبة لهذا الجيل – القائم على العـون والمساعدة، لكنه يبقى البديل الأنسب في ظرفنا الحالي.

لكن يجب مراعاة الضوابط الشرعية في الاتصال والسؤال، لئلا يؤدي ذلك إلى مفاسـد، ولتحيا هذه الأمة معاني الحب والود والإخاء والإيثار.

إذن فلنجدد النية، ولنخلق فرصا فريدة للالتقاء بالأحباب صوتا وصورة، والسؤال عنهم وإدخال السرور إلى القلوب والاطمئنان على الأحوال.

تعريف التفقد وصوره

– تفقد الشيء: تطَلَّبَـهُ عند غيبتـه.

– تفقدت المرأة حُلِيَّها الضائع: بحثت عنه.

– تفقّد أحوال النّاس: تعرّف أحوالَهم ليطمئن على حسن سيرها.

“وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ” (النمل، الآية 20). (1)

يقـول المولى عز وجل في كتابه الكريم: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»، إذن أحـد أهـم مبادئ الإسـلام هـو الاهتمام بالناس، ومتابعـة وتفقـد أحوالهـم، ومعـرفة واقعهـم، وتحسـس آلامهـم، ورصد احتياجاتهم، ومعرفة مطالبهم، ثم العمل على مساعدتهـم، كـل بحسب استطاعتــه، مع العناية بتقـديـم الأهـم على المهم. بالإضافة إلى أنه مدعاة لـ:

1 – تأليف القلوب بين النـاس.

2 – غرس روح المحبة بينهـم.

3 – نشر الرحمة فيما بينهم.

ليس فقط على مستــوى المسلمين، بعضهم البعض، بل إنه صلى الله عليه وسلــم ذهب لعيادة جار له يهودي كان مريضا، يسأل عن حاله، ثم قال: يا فلان، اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فنظر الرجل إلى أبيه.. فقال له: اشهد له يا بني. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: الحمد لله الذي أعتق رقبة من النار (2).

وعن أنس رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فقد الرجلَ من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره وإن كان مريضا عــاده (3).

 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الخلق كلهم عيال الله وأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله” (4) و“خير الناس أنفعهم للناس” (5).

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خلق التفقد

كان من شيمه صلى الله عليه وسلم وشمائله أنه كان يسأل عن أصحابه ويسأل عن غائبهم، ويهتم بالفقراء والضعفاء، وهناك قصص كثيرة في سنته سنعرض منها نموذجين فقط، على سبيل المثال لا الحصر:

– قصة ثابت بن قيس بن شماس، كان هذا الصحابي رضي الله عنه عالي الصوت جهيره، لعله بسبب خلل في سمعه، ولما نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (الحجرات، آية 2)، ظن أنه هو المقصود في الآية الكريمة، وأنها نزلت في حقه، فاعتزل بيته وحبس نفسه اختيارا لأنه أساء الأدب مع حبيبه رسول الله.

وكان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وشيمه تفقد أصحابه فمن كان حاضرا في مجلسه زكاه وأثنى عليه ودعا له، ومن كان غائبا سأل عنه وتفقد أخباره. افتقد النبي يوما ثابتا بن قيس فسأل عنه، فقال رجل: أنا أعلم لك خبره يا رسول الله، فذهب الرجل عنده فوجده منكسا رأسه حزينا، فسأله ما لك يا ثابت؟ قال: أنا من أهل النار، أنا الذي حبط عمله لأنني رفعت صوتي، فرجع الرجل وأخبر النبي فقال له: ارجع وبشره بالجنة وأخبره أنه ليس من أهل النار.. ولو لم يفتقده نبي الرحمة لمات كمدا وحزنا.

– قصة “أم محجن” رضي الله عنها، خادمة المسجد النبوي، تلك المرأة السوداء الفقيرة التي كانت تقـم المسجد (تنظفه وتجمع قمامته)، توفيت في المدينة على عهد النبي فدفنوها ولم يخبروه بأمرها، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم وسأل عنها، فأخبروه بموتها فغضب وقال: (أفلا كنتم آذنتموني؟) .. فقال لهم دلوني على قبرها فصلى عليها ودعا لها. ويتبين لنا هنا أن النبي صلوات ربي عليه وسلامه إنما يعظم الناس بحسب أعمالهم وما قاموا به من طاعة الله وعبادته.

فأين نحن من هدي وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم في تفقد إخوانِنا، والسؤالِ عنهم؟

الأخوة الصادقة يلزمها حقائـق عملية وأمور تطبيقية، فهي ليست مجرد شعارات ترفع أو كلماتٍ جوفـاء تردد، وإدراكها يحتاج إلى إرادة صادقة ومجاهـدة فعالـة، لأن تحقيقها ليس سهـلا على النفس، وأكثر شيء يفرح إبليس اللعين هو تفريق الأحبة وزرع الشقاق بينهم.

الأخوة الصادقة تُختبر في المواقف، لا سيما في مواطن الابتلاء والمحن ونـوائب الدهـر وتَغَـيُّـرِ الزمانِ، والنفوس مجبولة على حُبِّ من أحسن إليها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ – يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ – شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَتَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا، أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ، وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ، كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ» (6).

يقول الشاعر:

إن أخاك الحق من كان معك    

   ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك    

   شتت فيك شمله يجمعك

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آلـه وصحبه ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


الهوامش:

(1)  معجم المعاني الجامع / معجم اللغة العربية المعاصرة.

(2) رواه ابن السني في “عمل اليوم والليلة ” (رقم/553)، وإسناده ضعيف.

(3) من الجامع الصغير ، عن أنس.

(4) رواه البزار والطبراني في معجمه.

(5) عن جابر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس” رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب.

(6) السلسلة الصحيحة، ج 2، 906.