اقشعر جلدي ودمعت مقلتاي وأنا أتصفح الكلمات التي ترنمت بها مسلمة من النيجر، فتراءت لي صور الألم والبؤس التي تعيشها تلك الأشباح الآدمية، والتي عودتنا القنوات الفضائية على استعراضها، حتى صارت من المناظر المألوفة لدى المشاهد.
ذكرتني تلك الكلمات المؤثرة بأزيد من خمسين ألف طفل يموتون كل يون من الجوع أو المرض، في حين أن آلاف الأطنان من المواد الغذائية تتلف حتى يحافظ السوق على توازنه الاقتصادي.
آلاف البشر يموتون بسبب الحروب الأهلية المفتعلة، والمئات تموت في طريقها إلى الضفة الأخرى…
وآخرون تلفظهم أمواج البحر الأبيض المتوسط مجهولة الهوية إلا من انتسابها إلى قارة البؤس والإيدز..
ومن لا يزال منهم على قيد الحياة، قتلت البعثات التبشيرية ما بقي من عقيدتهم الإسلامية، على مرأى ومسمع من مليار مسلم..
مقابل ذلك فأينما وليت وجهك في هذا الشهر العظيم إلا وأخذتك الدهشة من الإقبال الجشع على المواد الغذائية لتهيئ الموائد الرمضانية، والاستجابة للحملات الإشهارية الاستهلاكية.
فلا عجب أن تعرف معظم الدول الإسلامية عجزا في ميزانيتها هذا الشهر، تضطر معه لاستيراد المواد التي يكثر عليها الطلب، مما يرهق الخزينة وجيوب المواطنين، ويزيد من حجم المديونية ومن تبعيتنا للصناديق والأبناك الدولية.
ناهيك عن ميزانية الأدوية والمستشفيات بسبب المضاعفات الصحية الناتجة عن الإفراط في الأكل، وانعدام التوازن الغذائي.
سبحان الله…هناك.. بشر يموتون من الجوع ونقص الأدوية.. وهنا.. أناس يمرضون من التخمة!..
هناك الناس في أمس الحاجة للدواء نتيجة سوء التغذية ..وهنا الناس يستهلكون الأدوية لإفراطهم في التغذية!
يالها من مفارقة عجيبة بين من ينتمون لدين واحد !
ما العمل إذن لنستجيب لنداء أختنا من النيجر ونرد على صوتها المبحوح الذي هو واحد فقط من الأصوات التي تستنجد المسلمين، تطلب العون وتشكو الحاجة؟
قد يقودنا حماس التأثر لنفتح لائحة لجمع التبرعات كما يفعل المغاربة في كل مرة بمناسبة رمضان أو يدون مناسبة.
وقد يصيح أحدهم قائلا: وهل قضينا على الفقر والجوع في بلدنا حتى تذهب صدقاتنا إلى ما وراء الصحراء.. و الصدقة في المقربين أولى؟
نحن أمة مسلمة تعلم أن المال مال الله، ونحن مستخلفون فيه لننفق منه في أوجه البر، و الشرع الحكيم لم يكل مسألة التضامن لعواطف التراحم فقط، بل فرض الزكاة حق للفقراء في مال الأغنياء.
لكن من يقوم على أموال الزكاة ويعمل على ترشيدها وتوظيفها في مشاريع، تعود على الأمة بالنفع المستمر، لا صدقات متناثرة يتناحر عليها المستفيدون ثم لا تلبث أن تنقضي…وتفتح الأفواه من جديد منتظرة رغيف خبز .
جهودنا مبعثرة وتصوراتنا متباينة ، ولا نستطيع في الوقت الراهن أن ننافس ما تقدمه البعثات التنصيرية والتهويدية والمنظمات ” غير الحكوميةَ” من ركام الأغذية والأدوية والملابس التي لم تفلح في حل المشكلة.
فكم من الأموال تجمع لفائدة مجاعة إفريقيا لكنها تصرف على الخبز اليومي، في حين أن السودان وحدها يمكنها إطعام إفريقيا كاملة بفضل خيراتها الزراعية حتى لقبت بسلة الخبز الإفريقية.
يعلمنا رسولنا الكريم أن اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى وللأسف اعتادت الأمة مد الأيادي، بل لعل هناك من يعمل جاهدا لتبقى الشعوب تابعة لمن يطعمها، عملا بالمثل المغربي القائل: جوع كلبك يتبعك!
السؤال الملح، المقيم المقعد، هو ما السبيل لبناء الشخصية المسلمة المساهمة في التنمية؟ كيف نستثمر أموال الصدقات والزكوات في مشاريع منتجة؟
كيف نغرس في الأجيال حرقة الكد والسعي والكسب؟ وإلا فلا أقل من أم تكوني أيتها المومنة مدبرة، كيسة، لا أداة استهلاك تستجيب لقوانين السوق، فذلك يؤثر سلبا على مال الأمة.
كيف نصير أمة منتجة..؟
في انتظار من الله وكرمه، وعلى أمل أن تستيقظ الأمة من سباتها،سيظل صوت المسلمة يطارد مسامعنا،وسنظل ترنيماتها تتردد،عساها تجد الأذن الصاغية، والقلب الرحيم، واليد السخية..وقبل هذا وبعده الإرادة المجددة..