1- هل تستحق الرد فعلا؟
تصريحات ترامب الأخيرة بخصوص ترحيل الشعب الفلسطيني من أرضه وشراء غزة والاستثمار فيها، بلغت من العبثية والإسفاف وعدم المنطقية درجة تجعلنا نسأل هل تستحق الجواب فعلا؟ فهل هي حقا تصريحات مسؤولة تمثل دولة كبرى في العالم؟ وهل تعبر عن رأي صانع القرار الأمريكي من مؤسسات وأجهزة؟ وهل ينفصل حديثه حول غزة وفلسطين عن تصريحاته بضم كندا وغريلاند؟ وهل تعكس هذه التصريحات توجها أمريكيا جديدا برؤية مغايرة للقانون الدولي وللعلاقات الدولية؟ أم إننا بصدد نوبة من نوبات الصرع الترامبي وجنون العظمة؟ أم هي حلقة من الاستعراض “الشو السياسي” بطعمه الأمريكي، خاصة وأن الرئيس لم يخرج بعد من غمرة الأجواء الاستعراضية لحملته الانتخابية بوعودها وانفعالاتها؟ أم إننا أمام بداية تدشين مرحلة جديدة في تاريخ الإنسانية من البلطجة الأمريكية المكشوفة والاستكبار الصارخ؟
2- ماذا حققت هذه التصريحات؟
أولا ينبغي الاعتراف أن هذه التصريحات أحدثت ضجة عالمية وردود أفعال متباينة في العالم ككل، وينبئ حجم هذه الردود الكبير والسريع عن الخوف من أن يفسر أي صمت أو تلكؤ في الرد بالقبول، وأنها ثانيا حولت الأنظار عن مشاهد الإذلال التي فرضتها المقاومة على إسرائيل في مهرجانات تسليم الأسرى بغزة، والتي أظهرت للعالم وللرأي العام الصهيوني أن إسرائيل فشلت فشلا ذريعا في تحقيق أهدافها المعلنة في بداية الحرب، وأظهرت أن المقاومة مازالت تتمتع بجاهزية وحضور وقوة وجماهيرية واسعة، وتتحكم في أدق التفاصيل، وثالثا أنها خففت الضغط عن نتنياهو وحكومته المتطرفة بعد حالة الغليان التي عرفها الشارع السياسي، والهزيمة النفسية وانعدام الثقة في أوساط الكيان بمختلف فئاته، الذي اكتشف حجم كذب الكابينيت في الحديث عن الإنجازات العسكرية والاستخبارية، كما أرضت هذه التصريحات العنترية غرور نتنياهو، وكانت جرعة أكسجين مؤقتة لإنقاذ تحالفه الحكومي من الاختناق النهائي، كما أنها وهذا رابعا، كانت بالون اختبار للمحيط العربي الرسمي لقياس حجم التنازلات، التي يمكن الحصول عليها بعد هذه التصريحات/الابتزازات، لأن هذه “المقاربة ثورية وخلاقة” 1، كما سماها نتنياهو كانت فوق التوقعات، وصفعة غير منتظرة من الصديق ترامب.
3- التصريحات تعبر عن حلم تاريخي مؤرق
تهجير الشعب الفلسطيني وإبعاده عن مدنه وقراه هو حلم قديم يراود الصهاينة دائما 2، وحاولوا تنفيذه مبكرا من خلال القتل والإبادة والمجازر على يد عصابات وميليشيات الهاجاناه والأراجون 3، وبدعم غربي من البريطانيين، وهي محاولات كانت تتكرر علنيا وسريا، بعد النكبة والنكسة، من خلال التضييق على الفلسطينيين والعدوان عليهم ومحاصرتهم وحرمانهم من أدنى شروط الحياة، وآخرها حصار غزة لمدة قاربت عقدين، وظلت غزة دائما الكابوس المؤرق عصية على السقوط، لكن واقعيا يراهن الصهاينة وحلفاؤهم على استمرار وضع انعدام شروط الحياة تدريجيا في تهجير هادئ للفلسطينيين، وهذا ما يفسر التدمير العشوائي والمتكرر لكل مقومات الحياة من قصف وتجريف وتدمير واستهداف كل المؤسسات الإنسانية والإغاثية، وإنهاء وجود هيئات الأمم المتحدة، لإجبار الفلسطينيين على المغادرة الطوعية 4 والقسرية، لأن الحرب الديمغرافية هي جزء من الحرب الشاملة، فحسب إحصاء عام 2023، بلغ عدد سكان “دولة فلسطين”، أي الضفة الغربية وغزة؛ 5.48 ملايين شخص 5، أي قرابة 38% من 14.5 مليون نسمة حول العالم، ما يعني أن 62% من الفلسطينيين مهجرين ونازحين في الشتات، بالأردن 6 ولبنان وسوريا ومصر والعراق.
4- تصريحات تفتقد المنطق
تصريحات ترامب لا تستند إلى منطق تاريخي أو قانوني أو سياسي أو واقعي أو اجتماعي أو أخلاقي، مما جعل الكثير من الإعلاميين والمفكرين والسياسيين حتى من الصهاينة يسخرون منها، ويعتبرونها اقتراحا غير جدي، فرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت قال بوضوح “أمريكا لن تمتلك غزة، أعتقد أن هذا غير عملي وغير ممكن، ولست متأكداً من أنه أمر قد نوقش بطريقة جادة قبل أن يتم تقديمه للمجتمع الدولي”، معتبرا أن “الخطة غير قابلة للتطبيق لأن الأراضي الفلسطينية ليست ملكاً لإسرائيل حتى نمنحها لأحد”، وحتى تصريحات الناطقة باسم البيت الأبيض أو الخارجية الأمريكية كانت نوعا من التراجع والتفسير والتبرير ولملمة الموضوع.
في حقيقة الأمر لا تستند هذه التصريحات إلا إلى منطق البلطجة المستمد من ثقافة “الكوباوي”، ثقافة راعي البقر الذي أباد “الهنود الحمر”، وثقافة الاستعراض “الشو” الهوليودي الأمريكية، ومنطق الحملات الإعلانية للمنتجات الاستهلاكية، وهو منطق عبثي استعلائي مجنون غير واقعي، يذكرنا بتصريحه بشأن ضم كندا وغرينلاند 7، أو فتح باب الجحيم في “الشرق الأوسط”، أو فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، واتهامها بـ”القيام بأعمال غير مشروعة ضد الولايات المتحدة وحليفنا المقرّب إسرائيل”، ومنطق “التاجر المرابي” بصورته في المخيال اليهودي، الحريص على الكسب والربح، والذي يقيم كل الأشياء بالمال، وكل شيء عنده قابل للبيع والشراء والمساومة والابتزاز، وتصريح ترامب الموجه لمصر والأردن “سيفعلون ذلك، نحن نفعل الكثير من أجلهم، وسيفعلون ذلك” مشيرا إلى المساعدات الأمريكية للنظامين يكشف هذه العقلية وهذا المنطق.
من المؤكد أن الأنظمة العربية -في تقديري- تعرضت لخديعة كبرى من الأمريكان والصهاينة، فقد تم توظيفها لمحاصرة المقاومة الفكرة والنموذج والحالة في لبنان وفلسطين، بعد أن التقت مصلحيا مع أمريكا والكيان الصهيوني في هذه الجزئية، لكن تصريحات ترامب كشفت على صدمة عميقة لأن المخطط كان أخطبوطيا، تجلت في البيانات الرسمية، فترامب يورطها في صفقة على حساب مصالحها الوطنية وأمنها واستقرارها، ويعرضها لابتزاز مالي وسياسي، فهي لن تفرض مبادراتها لحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين كما هو متفق عليه دوليا وأمميا وعربيا، بل ستكون شريكا في استقبال وتمويل مشروع تهجير الفلسطينيين وإعمار غزة كمشروع استثماري لترامب وقد جرب ترامب هذا سابقا.
لكن ما غاب عن ترامب والعرب أن إسرائيل وأمريكا والغرب فشلوا بعد قرابة نصف وعام من العدوان على فلسطين وأهلها ومحاصرتهم، فشلا ذريعا في فرض شروطهم على المقاومة، رغم خرق القانون الدولي، وانتهاك سيادة الدول، وإطلاق يد الصهاينة بشكل غير مسبوق، وهذا واقع لا يرتفع ويدركه الصهاينة والأمريكان لكنهم يناورون، فالميدان من يحدد سقف الصفقات وشروطها ونتائجها وليس تصريحات المقابلات الصحفية واللقاءات في الغرف المكيفة، فارتباط الإنسان الفلسطيني بأرضه هو ارتباط عقيدة ووجود ووجدان وتاريخ، وليس ارتباطا بأرض “السمن والعسل” 8 التي جمعت شداد الآفاق من العالم، والمقارنة بين موقف النازحين من العودة إلى مستوطنات شمال فلسطين رغم الضمانات والإغراءات، ومسيرات العودة الفلسطينية التاريخية في غزة رغم المخاطر والتهديدات توضح حقيقة وطبيعة الارتباطين 9.
[2] تمنى إسحاق رابين شخصياً أن يصحو من نومه ذات صباح ليجده قد غرق في البحر.
[3] “الهاغاناه” منظمة عسكرية إسرائيلية؛ ارتكبت أعمالا إرهابية وجرائم حرب في حق الفلسطينيين في دير ياسين، وكانت النواة الأولى للجيش الصهيوني الرسمي. والأراغون منظمة عسكرية سرية صهيونية، نشأت في الأراضي الفلسطينية إبان الانتداب البريطاني، واستمرت حتى نكبة 1948 وقد صنفتها بريطانيا آنذاك منظمة إرهابية، إذ لم تقتصر جرائمها على الفلسطينيين فحسب، بل تعدتهم إلى الجنود البريطانيين واليهود.
[4] نقلت صحيفة “إسرائيل اليوم” العبرية، في شتنبر 2023، عن نتنياهو قوله إنّه يعمل على تحقيق “الهجرة الطوعية” لسكان غزة إلى دول أخرى.
[5] وفقا لجهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني (PEBS).
[6] يضم الأردن اليوم أكثر من أربعة ملايين فلسطيني مُجنَّس ولاجئ.
[7] عرض ترامب شراءها خلال ولايته الأولى في عام 2019 لكن غرينلاند والدانمارك رفضتا العرض.
[8] الأسطورة اليهودية القديمة، واردة في التوراة تقول إن أرض الميعاد هي أرض السمن والعسل.
[9] نشر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي استطلاع رأي يؤكد أن أكثر من 82% يعتبرون أن الوضع الأمني لا يسمح بعودة السكان إلى مستوطنات الشمال.