تشقّق فوقها الجبل واستحالت فيها الحياة.. “إخفيس” قرية دمّرها الزلزال فانفجرت منها اثنتا عشرة عينا

Cover Image for تشقّق فوقها الجبل واستحالت فيها الحياة.. “إخفيس” قرية دمّرها الزلزال فانفجرت منها اثنتا عشرة عينا
نشر بتاريخ

“هذه المياه كان الناس سيفرحون بها كثيرا بعد سنوات من انتظارها لو لم تكن مأساتنا كبيرة”، بهذه العبارة علق “الحاج علي واحمان” على ينابيع الماء التي تفجرت من الجبال المحيطة بـ”قرية إيخفيس” بجماعة “تيزي نتاست” إقليم تارودانت، التي دمرها الزلزال وأودى بحياة 48 شهيدا من أفرادها.

“قرية إخفيس” تنتمي إلى إقليم تارودانت، وتبعد بحوالي 77 كيلومترا عن المدينة، وهي واحدة من القرى التي نال منها الزلزال ودمرها عن آخرها فأصبحت أثرا بعد عين. لكن عجائب القدر، أن فجر فيها وحولها 12 ينبوع ماء، ليصدق فيها قول الله تعالى: “يخرج الحي من الميت”.

كنا في مقر جماعة “تيزي نتاست”، التي تبعد عن مدينة تارودانت قرابة 60 كيلومترا في اتجاه مدينة مراكش، حينما رمقنا أثر خراب حل بقرية جبلية لا يبدو فيها صامدا غير صومعة مسجد. وهي تبعد عن مقر الجماعة بقرابة 17 كيلومترا، لكن الوصول إليها عبر الجبل مرورا بالوادي خطر للغاية مع التساقط الكثيف للأحجار بعد هزة ارتدادية سجلت في ذاك الصباح (الخميس 14 شتنبر 2023) بقوة 4.6 درجات بمقياس ريختر، رغم مرور ستة أيام على الزلزال.

خمسة من أبناء القرية… فريق إنقاذ وإسعاف وإغاثة

التقينا هناك بمحمد، الذي أخذ يوضح لنا بإشارات يده أي خراب ذاك الذي يبدو من بعيد، إنه ما تبقى من قريته، وهو أحد خمسة نفر الذين تصدوا لمهمة الإنقاذ والإغاثة والإسعاف في الساعات الأولى وطيلة اليوم الموالي حينما حلت الكارثة وتعالت الأصوات المنادية بالإغاثة.

استرسل محمد حديثه فقال: “كنا خمسة فقط عندما أنقذنا كثيرا من الأرواح، لكننا لم نستطع إسعاف الجميع، فمنهم من بقي ساعة بعد إخراجه من تحت الأنقاض ومنهم من بقي ثلاث ساعات… لكن لأننا لا نملك وسائل الإسعاف، فقد مات الكثير منهم بعد ذلك”.

تأسف الشاب لما حل بالقرية، وأشار ببنانه إلى جبل فوقها قد تشقق، وتحدث عن الرائحة الكريهة التي ما تزال تحوم بها جراء البهائم التي يعلوها الركام…

قررنا المغامرة لندخل الدوار ونقف على معاناة الساكنة هناك. ركب معنا “الحاج علي” على متن سيارة ليقربنا من آثار الدمار في مكان كبر فيه وترعرع. تحدث قليلا عن تلك البهائم التي ما تزال تحت الأرض وقد كانت السند والرفيق لأهاليها، ثم تحدث عن أعداد الشهداء، وخص بالحديث الإثني عشر شهيدا من أسرته. اغرورقت عيناه بالدموع وتلعثم ثم سكت. قربتنا دمعته من حقيقة حاله ومن حقيقة الأوضاع في قريته قبل الدخول إليها.

طريق خطرة متشققة تتساقط عليها الأحجار

الممر المؤدي إلى القرية تفرع من الطريق الوطنية رقم 7، مدخلُه المتشقق وسط الجبل، وحجمُ الأحجار التي ارتمت في أحضانه؛ ينبئ بصعوبة المغامرة وبحجم الكارثة.

بدا على الرجل السبعيني حجم التأثر وهو يتحدث عما أصاب قريته من مصائب، لكن تأثره هذا، قاطعته التفاتة قاصدة من نافذة السيارة صوب كهف بجانب الطريق، أشار بيده إلى المكان مجيبا عن سؤال حول قصة الكهف وقال “هذا ليس كهفا كما يبدو، لكنه عين ماء أعادها الزلزال إلى الحياة، وهذا الصهريج من الناحية المقابلة هو مصبها، وفيه تتجمع المياه لتستفيد منها الأراضي الفلاحية”.

عاينّا عين المياه عن كثب كما عاينّا معها صهريجها الذي قاوم الزلزال كما قاوم سنوات الجفاف، بدا صامدا وقد توسد بعضا من الركام لكنه التحف خرير مياهه التي يعكسها ثانية ليتردد صداها في كل تلك الجبال العالية.

ماء عذب زلال وآخر كأنه فيض مطر جار

لم تكن عيون المياه التي تفجر بعضها وعاد بعضها الآخر إلى الحياة، أول ما يثير انتباه الناظر إلى قرية إيخفيس وجنباتها، مثلها مثل كل المناطق المنكوبة. فحجم الدمار والخراب، فضلا عن أعداد الشهداء، لا يترك مجالا في الأساس لملاحظة ما سواه. لكن لون بعض تلك المياه التي رأيناها ونحن في مدخل القرية، وهو يميل إلى لون الأرض كأنه فيض مطر جار بدون وجود أثر لقطرة من السماء، ترك في الذهن أكثر من سؤال.

هو ماء يجري في الوادي وكأنه خرج من تحت الأرض لتوه حاملا سلام من دُفنوا تحتها من شهداء الزلزال، خرج يضمد جراح من بقوا فوقها. ماء حديث عهد يجري لم يصفُ بعد، لم يُزِل ثياب سفره ويستقر عذبا زلالا ليروي عطش أرض عاشت الجفاف سنينا ذواتي عدد، ويخفف ألمها الناتجة عن زلزالٍ قاسٍ مدمر.

قبل الصعود إلى قرية إخفيس التي تقع في سفح جبل، عند ملتقى واديين، أحدهما عن اليسار يجري به ماء عذب زلال، والآخر عن اليمين كأنه فائض سيل، استرسل “الحاج علي” حديثه فوضح أن الماء الصافي هو من عين خرجت بعد الزلزال مباشرة، ورغم ازدياد منسوبه فقد استقر ماؤها وبلغ من الصفاء مبلغا، أما الآخر فخرج لاحقا لكن منسوبه ما يزال في ازدياد يوما بعد يوم، لذلك لم يستقر ولم يَصْفُ بعد.

تحدث لنا “الحاج علي” عن 12 اثنتي عشرة عينا وينبوعا محيطا بقرية إخفيس فقط عاد إلى الحياة بعد الزلزال، منها “عين أمدرس” و”عين إخفيس” و”عين تيسوكا”، و”عين تدجين”، و”عين تابلوزت”، و”عين ايمينورتان”، و”عين تامسولت”… معظمها يصب في نهر “أسيف أونزال” بالقرية.

أهل القرية يهجُرونها ويهجِّرون ما تبقى من متاع 

لم نستطع الوصول إلى كل تلك المنابع، فصعدنا بالسيارة وبدأنا ندخل إلى القرية الواقعة في منتصف الجبل، كانت الطريق حديثة عهد بترميم أبناء القرية، وبين الفينة والأخرى تتزاحم بنا الطريق الضيقة الملتوية التواء ثعبان صاعد، يشتد زحمها مع أي التقاء براحلة نزلت وعليها ما تبقى من أمتعة أهلها.

هي رواحل تحكي قصصا أشد قسوة من الزلزال نفسه، فهو لم يكتف بتدمير القرية، أو بإرداء 48 فردا من أهاليها شهداء، وإنما امتدت قسوته ليجعل الحياة فوق أرضها مستحيلة.

لم يكن أهالي القرية لينتظروا تعليمات من السلطات بضرورة إخلائها، فالحياة فوقها أصلا لم يعد لها طعم ولا معنى، لقد تشقق الجبل بها ومن أعاليها قرابة متر، كما شهد بذلك أبناؤها، وبدؤوا في هجرتها في اتجاه سفح الجبل المقابل. سفح هو الآخر ليس في مأمن من الأحجار المتساقطة من عالٍ جراء أي اضطراب، أو حتى بفعل الجرافات التي تواصل إصلاح الطريق الرابطة بين تارودانت ومراكش من فوق. لكنه أخف ضررا وقد أقامت فيه السلطات بعض الخيام الزرقاء لإيواء المكلومين بفعل هاته الكارثة.

أول ما يصادفنا بعد الدخول إليها، ما يشبه خيمة أقيمت هناك بأفرشة متهالكة، تعلقت أطرافها بأشجار الزيتون، فيها بعض النساء وقد ظهر الحزن عليهن، وبمقربة منهن تكومت أمتعة ظننا أنها مساعدات أرسلت من مناطق متعددة من أبناء المغرب الكرماء مما أصبح حديث وسائل الإعلام الوطنية والدولية، لكنها أمتعة متهالكة وما تزال عليها آثار غبار بعدما أُخرِجت من تحت الأرض.

إنها كذلك، هي الأمتعة المتبقية مما دمرته الكارثة وينتظر ترحاله على ظهر الحمير إلى المستقر الجديد، بعد استحالة مواصلة العيش هنا. أخذنا جولة على أرض القرية، فما نحن إلا والأهالي يسابقون الزمن لانتشال ما يمكن انتشاله من متاع أو وثائق من تحت الركام.

صومعة شامخة تطل من السماء على ما حل بالديار من فواجع

رافقنا الحاج علي الذي يعرف الدور وأصحابها وبدأ يحصي الفواجع؛ هنا مات فلان، هذا المنزل فقد أربعة من أبنائه، وهذا فقد خمسة، وذاك فقد عشرة…

كانت الصومعة دليلنا منذ البداية إلى القرية، كانت واقفة شامخة من بعيد لا تبدو عليها آثار مأساة مرت بجانبها، لكننا لما وصلنا، تبين أن المسجد لم يكن استثناء، فصومعته الواقفة ليست مثل قاعة صلاته وبقية مرافقه التي لم تقاوم بما فيه الكفاية.

استرقنا النظر من انفلاجات الجدران المتشققة وعاينا المنبر والمحراب وقد عادا أعزلين… رأينا جزءا من الركام وقد استعمر أماكن هي شاهدة على رجال عمروها عقودا من الزمن. سقط الجدار الخلفي لخزانة المصاحف الشريفة، لتصبح الخزانة نافذة تطل فيها المصاحف المسبحة بحمد ربها على الداخل والخارج، وتربط بين عالم الغيب وعالم الشهادة.

الحاج “الحسين الفقير” من أكبر معمري القرية وقد تجاوز التسعين عاما، يحكي تاريخ المسجد الذي كان عبارة عن “تمزكيدا” بغرفتين فقط إلى حدود 1980، قبل بنائه ثاني الأمر مسجدا من قبل أبناء القرية بمساعدة أخيه، ثم توسيعه وإصلاحه ثالثة بدءا من سنة 2006 غير الإصلاحات البسيطة المتوالية.

عشرات المنابع وملايين الدراهم من المساعدات.. هل تجد ممرا إلى مكانها الصحيح وهل تخفّف جزءا من المعاناة؟

فقد المسجد عمّاره جميعا في هذا الزلزال سوى الحاج علي وثلاثة آخرين كما يحكي هو نفسه، ويحكي معه “الحاج الحسين” الذي عرف القرية جيدا ويعرف أهلها، أن هذه الفاجعة “لم يسبق لها مثيل فيما رأيته لأزيد من تسعة عقود، عايشت رجات كثيرة وأحسسنا بها، لكن هذه مختلفة، لقد أودت بعمار المسجد وخلفت شهداء من عائلات كثيرة، فقدتُ خمسة من عائلتي،  ابنتي وولدِي وثلاثة من أحفادي، أما أنا فنجوت بأعجوبة بفضل الله وبرضى الوالدين”.

الرجل التسعيني الذي اتكل على يقينه في الله واتكأ على عصاه، يحكي إحساسه بالألم، وما يشعر به من غصة وهو مضطر لهجر قريته التي أمضى فيها حياته كلها، وفيها ذكريات أجداده وأفراحه وأحزانه، فما تملك وأنت تسمع إليه إلا أن تشعر بمثل شعوره…

يحكي الرجل ومعه أهل القرية، أن بعض المساعدات وصلت الأهالي، لكنها غير كافية أمام حجم الكارثة التي حلت بهم، لا يرون ضرورة مثل ضرورة توفير السكن المناسب، خاصة وأن موسم البرد قادم، والتساقطات في هذه المناطق الجبلية لها معاناة خاصة وهم في ديارهم، فكيف بهم الآن والحال هاته، “نحتاج المساعدات، لكن حاجتنا إلى السكن أولى وأهم، لقد تبرعت بأرضي التي تركها لي أبي في سبيل الله ليقيم فيها الأهالي خياما، ونحن الآن ننتظر المحسنين والسلطات من أجل حل أنجع” هكذا تحدث عمي الحسين إلينا في نهاية الرحلة وأمله أكبر من سنه في أن العاقبة للبلاد والعباد خير. 

لم تكن قرية إخفيس وحيدة في معاناتها، وإنما هي واحدة من تلك القرى التي مررنا منها أو بالقرب منها بجماعة تيزي نتاست وجماعة تافينكولت بإقليم تارودانت. هي قصة واحدة تتكرر تفاصيلها وفصولها بكل من تانزاد وتاجكالت وألكو وتامسولت وأيت يوسف، مثلها مثل ما وقع بقرى إيفغي وآيت أوبلا وشافرني… شممنا فيها جميعا رائحة الموت وعاينا حجم الدمار، هي واحدة من تلك القرى التي رآنا أهاليها وتحدثوا إلينا وأعينهم ترمق المساعدات القادمة من وراء الجبال علها تخفف عنهم ألمهم. واحد من الدواوير التي انقطعت عنها الطريق ليلة الزلزال وأسعفت نفسها بنفسها وأغاث بعضها بعضا، وفقد سكانها عائلاتهم أمام أعينهم بلا حول ولا قوة، وبلا توفر أدنى وسائل الإسعاف، بعيدا عن أعين تلك الكاميرات التي ظنت أنها أحاطت بتفاصيل الحدث…

لقد فعل الزلزال فعلته، ولا شك أنه تسبب في أضرار مادية واجتماعية ونفسية واقتصادية كثيرة في كل المناطق التي مر منها، بما فيها قرية إخفيس، فهل يا ترى هذه العيون والينابيع الاثنتا عشرة التي أخرجها الزلزال حولها وغيرها كثير جدا مما تفجر في مناطق متعددة وفاجأ كثيرا من سكان هذه المناطق، من شأنها -بإزاء واجبات الدولة والتزاماتها وهبة المجتمع ومساعداته- أن تخفف معاناة أهالي هذه المناطق النائية، التي يئس أهلها من الفلاحة البسيطة التي امتهنها أجدادهم؟