تساؤلات في صلب تعديل المدونة

Cover Image for تساؤلات في صلب تعديل المدونة
نشر بتاريخ

تحضرني خلال تأملي للتعديل الذي تبتغيه الدولة المغربية لمدونة الأسرة مجموعة من الأسئلة، تتمحور جلها حول المقاربة التي تتبناها الدولة لأجل هذا الورش الإصلاحي الذي يهم تعديل مدونة الأسرة.

نجد أن الدولة المغربية منذ دستور 2011 وهي تشنف سمعنا بأن أي ورش إصلاحي كيف ما كان نوعه وتخصصه؛ سواء سياسي، أو اقتصادي، أو اجتماعي، أو إداري.. يجب أن يرتكز على مفهوم الحكامة الجيدة، الذي يهدف إلى تحسين عيش المواطنين بما يضمن كرامتهم وحقوقهم. فهل حقا تم فتح هذا الورش بناء على مفهوم الحكامة الجيدة؟

الحكامة يمكن إجمالها في الحكم القائم على المشاركة والمساءلة ودعم سيادة القانون، والحكامة ليست هدفا في حد ذاتها وإنما وسيلة لتحقيق أهداف سلمية وهي: الرقي بالمجتمع وتقدم أفراده، وتطور الدولة، من خلال الحكم القادر على وضع الأولويات السياسية والاجتماعية، وتحديد تلك الأولويات عبر وسائل علمية تلبية لحاجيات الغالبية العظمى من المواطنين. وهنا أسطر بالبند العريض على الغالبية العظمى وأركز بشدة، بما أن هذا الإصلاح موجه إلى المغاربة، ودين الغالبية الساحقة من المغاربة هو الدين الإسلامي، والدستور المغربي ينص بشكل صريح وواضح على سمو المرجعية الإسلامية على غيرها من المصادر بما في ذلك الاتفاقيات الدولية، وذلك في عدد من المواضع: “الإسلام دين الدولة”، “الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة”.. إذن، فلماذا المزايدة على المغاربة وعلى مرجعيتهم في هذا الإصلاح وتبني مبادئ لا تتوافق مع خصوصيتنا كمغاربة وقيمنا وهويتنا؟ لماذا إسناد الإشراف على هذا “الإصلاح” الحالي لفئة معروفة بعدم حيادها وبتعصب مواقفها الإيديولوجية، وذلك على حساب علماء هذا الوطن الذين ينبغي أن تكون لهم الكلمة العليا والحاسمة في الموضوع؟ بما أننا في دولة مسلمة والإسلام دين هذا الشعب،

فمن الواجب أن يتأسس هذا الإصلاح وفق الإرادة الشعبية المغربية المسلمة، وأن يراعي الخصوصية التاريخية والثقافية والهوية والمرجعية الإسلامية للمغاربة.

لماذا هذا الخوف والتشكيك من الفقه الإسلامي؟! وهذا الأخير معروف بالوسع والمرونة، يتصف باليسر والتكيف مع مستجدات الواقع وأولوياته وقضاياه المستحدثة، بطبيعة الحال حسب قواعد الفقه الإسلامي، ويفتح الاجتهاد مادام ليس هناك نصوص قطعية وثابتة، بينما القضايا التي فيها نصوص قطعية وثابتة فلا مجال للاجتهاد فيها. وما دمنا قادرين على صياغة إصلاحات تخدم خصوصية الأسر المغربية، فلماذا الانصياع وراء الاتفاقيات والمواثيق الدولية؟ هنا لا بد من الحذر من الانصياع الكلي وراء بعضها، فبعض ما نصت عليه  ساع إلى عولمة القيم الغربية، التي لا تتماشى لا قلبا ولا قالبا مع خصوصيتنا وهويتنا، مخالف لأحكام  الفطرة الصحيحة للأسرة المغربية المسلمة. ولسنا ضد ما توصلت إليه التجربة الإنسانية ومع كل مشترك إنساني حكيم لا يضرب ولا يتنافى مع هويتنا ومرجعيتنا.

وتتأسس الحكامة، هذا المفهوم الذي حاولنا بداية مقاربة أسئلتنا حوله، على مجموعة من الركائز: “سيادة القانون، الشفافية، الاستجابة، المساءلة، الفعالية، الرؤية والتخطيط الاستراتيجيين، التوافق والالتقائية”.

سأقتصر من وجهة نظري على مقاربة أسئلة الإصلاح وفق ركيزتين: الأولى سيادة القانون والثانية الشفافية.

1- سيادة القانون: حسب نص الدستور “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة ويجب على الجميع الامتثال له، وليس للقانون أثر رجعي…” ما يعنيه أن القواعد القانونية تطبق بدون أي تمييز وبشكل عادل. هل نحن أمام منظومة قانونية واضحة شفافة لا تشوبها شائبة ولا تعتريها علة ولا مفسدة بهذا الوطن الحبيب؟!

 وبما أن هذا القانون ينظم علاقات المواطنين فيما بينهم، وينظم علاقتهم بالمؤسسات والدولة…الخ ويسهر على ذلك جهاز قضائي مستقل، فأين نحن في إطار هذا الورش الإصلاحي لمدونة الأسرة من قضاء أسري مختص مستقل ونزيه؟ فواقع المنظومة القانونية والقضائية لا زالت تئن تحت وطأة إشكاليات جمة، من بينها إفلات المفسدين من المحاسبة والعقوبات الزاجرة، عدم سواسية الجميع أمام قضاء عادل ومستقل، وجود ثغرات قانونية وجب الوقوف عليها وتعديلها وجعلها أكثر وضوحا إجلاء للغموض، خاصة فيما يتعلق بالزواج والأسرة، لأن الزواج عقد مقدس والأسرة عامل أساسي لبناء مجتمع سليم مزدهر، وجب أن يتم في ظل نظام محكم وضوابط ثابتة.

2- الشفافية: يعتمد هذا المرتكز على توفير الحرية وتيسير الوصول إلى المعلومات، التساؤل الذي يطرح نفسه بحده هنا، هل نحن أمام نظام سياسي ديموقراطي قائم على الشفافية والحريات والعدالة، يتيح لكافة الفاعليين المجتمعيين والسياسيين بمختلف مشاربهم وألوانهم، الانخراط الشفاف والمسؤول في هذا النقاش العمومي الذي يهم الجميع؟ وفتح الباب أمام جميع مقترحات التعديل، وجلوس الجميع حول طاولة الحوار والنقاش الجاد، للوصول إلى اتفاق يخدم ويصلح لمستقبل وخصوصية الأسرة المغربية.

وأيضا أين نحن من الشفافية في هذا الورش الإصلاحي المهم الذي يتطلب الوضوح والمصداقية وتيسير الوصول للمعلومة؟ على سبيل المثال، فالدولة المغربية لم تقدم أدنى معطيات إحصائية عن تقييمها لعشرين سنة من العمل بمدونة 2003. فغياب معطيات دقيقة وتشخيص واقعي ملموس بأرقام صادقة أمام العموم، وأمام الفاعلين وأمام الباحثين الأكاديميين المتخصصين في الشأن الأسري، يجعلنا نتساءل حول نية فتح هذا الورش الإصلاحي بهذا الغموض، وبهذه الطريقة، وفي هذه الظرفية بالذات؛ الموسومة على المستوى الوطني بإشكاليات اجتماعية واقتصادية حارقة، تعيش على إثرها الأسر المغربية هشاشة اجتماعية مستمرة بفعل ارتفاع الأسعار وكلفة العيش وظهور بوادر الندرة والجوع لدى فئات واسعة من المغاربة. فنحن حسب المراقبين والمتخصصين أمام الانتقال إلى مرحلة جديدة عنوانها الاندحار الاجتماعي لجميع الفئات الاجتماعية (باستثناء الفئة الناجية العليا)، والسبب ليس الأزمات الدولية وجائحة كورونا كما يقال، بل سوء التدبير والتخطيط الداخليين للعديد من الملفات، وفشل العديد من المشاريع التنموية التي أهدرت عليها الملايير من الدراهم، بسبب سوء التقدير  وغياب الرؤية الواضحة والتخطيط الاستراتيجي البناء، وغياب التوافق والالتقائية بين القطاعات، وسيادة السرقة والفساد، ثم غياب المسؤولية والمتابعة والمساءلة والمحاسبة. فهل سيكون لهذا الورش الإصلاحي الضخم الذي يهم الأسرة اللبنة الأساس في المجتمع نفس المصير، في غياب الرؤية الشمولية والمقاربة الجامعة للإصلاح، والنية الصادقة للنهوض بالأسر المغربية مما هي قابعة فيه؟

أليس من الأولى وقبل فتح هذا الورش، إيجاد البيئة السليمة للعيش، والمناخ السياسي الذي يكون قوامه الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروات، والقضاء على كل أشكال الفقر والهشاشة، وتوفير فرص الشغل، وفتح الآفاق للشباب، لتحقيق الاستقرار  والتماسك لهذه البنية المجتمعية “الأسرة”، التي إن استقرت تحقق لنا الاستقرار المجتمعي؟

أليس من الأولى إصلاح منظومة التربية والتعليم والتركيز على بناء الناشئة والفرد على أساس الأخلاق والقيم والتربية الصحيحة، لتخريج رجال ونساء قادرين على فهم حقوقهم وواجباتهم، وبالتالي فهم أدوارهم ووظائفهم التكاملية المبنية على التكامل والمودة لا على الندية والصراع؟

أليس من الأولى إحداث مؤسسات تعليمية تكوينية تربوية تُعنى ببرامج التأهيل الأسري، وتأهيل المقبلين على الزواج وتمكينهم من القيم التي تؤهلهم لعمارة الأرض وحفظ الفطرة ونسج علاقات إنسانية سوية داخل الأسرة والمجتمع قوامها المكارمة والرحمة والمودة والإحسان؟

أليس من الأولى إيجاد إعلام هادف في خدمة الأسرة المغربية، ينقل للمشاهد نماذج لأسر إيجابية تعيش على المحبة والوفاق والاحترام والتعاون، بدل مشاهد الصراع بين الأزواج تارة، وبين الآباء والأبناء تارة أخرى، تلوث أذهاننا بمظاهر العنف والكراهية بين مكونات الأسرة؟

إننا بحاجة إلى وقفة متأنية، ورأي راجح، ورؤية شمولية، وحكمة سديدة، وضمير حي، وأخلاق وقيم عالية، لكي نستطيع تحقيق إصلاح يليق بمقام الأسرة وأهميتها ودورها المركزي في إسعاد الإنسان وتحقيق الأمن والاستقرار والرقي للمجتمع.