سنة مرت على حراك الريف، حراك نفض الغبار عن التهميش والإقصاء الممنهج الذي يتعرض له جزء أصيل من هذا البلد الحبيب، على غرار كل أجزائه الأخرى. حراك جاء ليكشف مدى فداحة الفاتورة التي دفعها ويدفعها المغرب والمغاربة جراء استبداد يستحوذ على مقدرات الشعب وفساد ينخر جسم الوطن. سنة وحراكٌ لم تثنه كل مقاربات السلطة السياسية المخزنية عن التشبث بعدالة مطالبه وسلمية فعالياته وحضارية أشكاله. مقاربات حاولت استئصال جذوة الحراك لتخمد، ومحاصرة رقعته لتضيق، ووأد حيويته لتجهض، واحتواء مطالبه لكي لا يرتفع سقفها، وقمع كل تظاهراته لتخويف المشاركين فيها، وتخوين وسجن نشطائه ليكونوا درسا لمن قرر أن يطالب بحقوقه بحرية!
سنة من الصمود في وجه مقاربات السلطة
فمباشرة بعد استشهاد الشاب محسن فكري، بائع السمك، طحنا في شاحنة النفايات يوم 28 أكتوبر 2016م، انطلقت احتجاجات عارمة لتعم الريف وبخاصة أيقونة حراكه، مدينة الحسيمة، مطالبة برفع التهميش عن الريف والاستجابة لمطالبه الاجتماعية والاقتصادية العادلة التي “طحنها” الاستبداد والفساد قبل طحن محسن رحمه الله. احتجاجات جعلت السلطة تلجأ إلى أقدم مقارباتها وهي مقاربة قبر الملفات بفتح التحقيقات وإيفاد اللجان والمسؤولين معتبرة أن الأمر ما هو إلا خطأ غير متعمد! لكن استمرار الاحتجاجات في كل أنحاء الريف والتضامن الشعبي الواسع معه من مختلف المدن والمناطق المغربية، دفعت بمقاربات أخرى للظهور، فكانت مقاربة تقديم أكباش للفداء، حيث قدم 11 شخصا للمتابعة بدعوى المسؤولية المباشرة عن الحادث في نونبر 2016م، وتمت إقالة عامل إقليم الحسيمة في مارس 2017م، ليتم مؤخرا إعفاء عدد من الوزراء والمسؤولين على خلفية تعثر مشاريع بالحسيمة بعد تقرير المجلس الأعلى للحسابات.
ومع فشل هاتين المقاربتين المسكنتين في إخماد الاحتجاجات، وإصرار المتظاهرين على المضي في حراكهم السلمي حتى الاستجابة لمطالبهم العادلة والمشروعة التي حاولت السلطة تقزيمها في طحن الشهيد فكري، طفت إلى السطح المقاربات الأصيلة في النظم الاستبدادية فكانت المقاربة الأمنية القمعية، حيث حوصرت مدن الاحتجاج بالريف وقمعت كل الفعاليات والمسيرات وأسفرت عن إصابات بليغة أدت إحداها إلى استشهاد الشاب عماد العتيبي بعد إصابته في رأسه، إضافة إلى أضرار كبيرة في الممتلكات الخاصة للمواطنين، في الوقت الذي حرص فيه المتظاهرون على حماية الأملاك الخاصة والعامة أثناء فعالياتهم. ولم يقتصر سوط القمع على أبناء الريف بل وصل إلى المتضامنين مع الحراك في مختلف المدن الأخرى.
وإمعانا في تغول الخيار الأمني والقمعي ستتفتق عبقرية المخزن عن مقاربة أخرى وهي مقاربة تخوين الحراك لتأليب الشعب عليه، وهكذا وبناء على تقرير عجيب غريب للداخلية، ستعلن أحزاب الحكومة أنها “اكتشفت” أن حراك الريف يخدم أجندة أجنبية وانفصالية وأنه تجاوز كل الخطوط الحمراء ويمس السلامة الداخلية للدولة!! تمهيدا لاعتقال زعماء الحراك والزج بهم وبعائلاتهم في متاهات المحاكمات التي تنعقد لكي لا تنعقد، كما حاولت الدولة حجب الرؤية الحقيقية عن المواطنين بمتابعة الصحفيين وإغلاق المواقع الإلكترونية.
مقاربات ما كانت لتثني الحراك عن استمراره، ولا أن تخرجه عن سلميته، فاستمرت الاحتجاجات بعموم الريف، واستمر التضامن الشعبي مع حراكه، حيث تداعى المغاربة يوم 11 يونيو 2017م المشهود إلى العاصمة الرباط ليعلنوا رفضهم واستهجانهم لكل هذه المقاربات ويؤكدوا عدالة مطالب الريف التي هي مطالب كل المغاربة.
حراك الريف.. درس للخلاص
لقد كشف حراك الريف عن معضلة المغرب مرة أخرى، وهي معضلة الفساد والاستبداد. فالاستبداد احتكر السلطة والثروة وانفرد بخيرات البلد، ميّع السياسة وأفسد المؤسسات التمثيلية، وأطلق العنان لخدامه ليعيثوا في الأرض فسادا وإفسادا، فاكتوى الشعب بذلك فقرا وبطالة وأمية وحرمانا. فلا حرية تصان، ولا كرامة تحترم، ولا شغلا محترما يوجد، ولا صحة محفوظة، ولا تعليما جيدا يدرس…
حراك بيّن أيضا أن الدولة ليس أمامها إلا مقاربة الإنصات إلى الشعب وتحقيق مطالبه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وأن الإصرار على نفس المقاربات الخاطئة رهن لمصير البلاد إلى المجهول، فزمن الاستبداد قد ولى وزمن التغيير قد أتى، وإن سنن التاريخ ماضية إلى مستقبل الحرية والكرامة، والتاريخ سيسجل لكل واحد موقعه في صناعة أو خيانة هذا المستقبل.