تحرير المسجد الأقصى في ظلال سورة الإسراء

Cover Image for تحرير المسجد الأقصى في ظلال سورة الإسراء
نشر بتاريخ
مداخلة في ندوة “تحرير المسجد الأقصى في ظلال سورة الإسراء” يوم 4 مارس 2022


القرآن والمعجزات، ودلالات الرحلة

القرآن والمعجزات

إذا كانت المعجزة أمرا خارقا للعادة، مقرونا بالتحدي وسالما عن المعارضة، فإنها وسيلةٌ لتصديق الرسل عليهم السلام في دعوى الرسالة. وإذا كانت المعجزات قد عُضّد بها الرسل عليهم السلام بما يتوافق مع ظروفهم وبيئاتهم ومقتضيات الحال، فإن معجزة خاتم النبيئين صلى الله عليه وسلم الأولى جاءت عقلية بالدرجة الأولى لتوافق سن الرشد الذي بلغته البشرية.

قال صلى الله عليه وسلم: “ما مِنَ الأنْبيِاَءِ نبِيٌ إِلٌاّ أْعطِيَ مِنَ الآياَتِ ما مِثلْهٌ آمَنَ عليه البشَرُ، وإنمّا كانَ الذي أوُتيِتٌ وَحْيا أوْحَاهٌ الٌلَّه إلِيَّ، فأرْجُو أنِيّ أكْثرُهُمْ تاَبعِا يوَمَ القِياَمَةِ” (أخرجه البخاري، 7274).

فالقرآن الكريم إذن في حد ذاته معجزة، “كل رسول كانت له معجزة وله كتاب منهج، كما ذكر الشعراوي رحمه الله تعالى في كتابه معجزة القرآن، معجزة موسى العصا ومنهجه التوراة، ومعجزة عيسى الطب ومنهجه الإنجيل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزته هي عين منهجه، ليظل المنهج محروسا بالمعجزة… وتظل المعجزة في المنهج”.

فالقرآن الكريم إذن معجزة تعدد فيه ذكر المعجزات، منها ما ورد حكاية عن باقي المرسلين عليهم السلام، ومنها ما هو متعلق بمعجزاته المخصوصة المتعلقة بمبانيه ومعانيه أو الأحداث الغيبية أو الظواهر الأنفسية والآفاقية وغيرها، لخدمة غايتي الهداية والتشريع. 

ومن ثمة فقد عدد العلماء ما يربو عن عشرة أوجه من أوجه الإعجاز في القرآن الكريم التي تثبت أنه معجزة. إشارات تُكتشف عصرا بعد عصر، لتقف شاهدة على صدقه، وضامنة لخلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان، ودالة على الله الواحد المتفرد بكل صفات الجمال والجلال والكمال، وليقيم الخلق حياتهم وفقا لمراده بالخضوع لأحكامه.

ومن ذلك تمثيلا لا حصرا؛ الآيات التي جاءت بأحداث كان في نقض حدوثها هدم للدين مثل سورة المسد ومصير أبي لهب، والبشارة بغلبة الروم على الفرس في بضع سنين، وحكم الله تعالى في الوليد بن المغيرة الذي وجد يوم بدر مقتولا بضربة على أنفه فصدق فيه قول الله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ.

وقس عليها الإخبارات عن دقة الخلق، وأطوار تكون الإنسان، وكشف أسرار الآيات الأنفسية والآفاقية التي وقف إزاءها علماء العصر مشدوهين لعدم توفر إمكانيات الاطلاع عليها في ذلك العصر.

دلالات الرحلة

ومما خلد له القرآن الكريم من المعجزات رحلة الإسراء والمعراج العجيبة، التي تحمل الكثير من الدلالات فيها وفي السورة التي تضمنت الحديث عنها:

– على مستوى الحدث ذاته: ينبغي أن تبقى معاني الرحلة ومراميها حيةٌ في القلوب والوجدان لا تنُسينا إياها صروفُ الدهر وتغير الأحوال، لا نغفل عن توحيد الله تعالى والتحقق من العبودية له، ونرتبط بالتربية الإيمانية التي تُبقي جذوة الإيمان متقدة في الصدور، ونبتعد عن الإفساد الجالب لمقت الله، ونعض بالنواجذ على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين كما نحب ونحفظ ونعتز ونحمي بيت الله الحرام.

– على مستوى القصد: الغاية في رحلة الإسراء والمعراج دائرة بين اليقين وتحكيم العقل، فاليقين يتُعلم بالتدبر في آيات الله المسطورة والتفكر في آياته جل وعلا المنظورة لترسيخ الإيمان إلى درجة اليقين، وبإعمال العقل يهتدى إلى سبل التحرر من ربقة الطاغوت والقهر في كل زمان ومكان. فقد أساء أهل الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغوا في التكذيب، فاستقبله أهل السماء بحفاوة الترحيب وبالغ التهذيب، وإن لم يسعه المسجد الحرام فتَحْت إمامته سيصلي المرسلون عليهم السلام في المسجد الأقصى، ولما أعيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه سبل الدلالة على الله تعالى ودينه الحق، خرق الله تعالى له العوائد من خلال الرحلة العجيبة الغريبة ليعلمنا أن إتيان الأسباب ضروري، لكن الله تعالى مسبب الأسباب قادر على خرقها ليعز أحبابه وينصر دينه ويحرر مقدساته.

– على مستوى المعتقد: الربط في السورة الشريفة بين الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ربط في الواقع بين عقائد التوحيد ودلالة على وراثة النبي الخاتم عليه السلام لميراث كل النبيئين عليهم السلام ومقدساتهم وهيمنة شريعته على سائر الشرائع، وتنبيه إلى قدسية المسجدين، ورابطة القبلتين ووحدة الإسلام، وكل حرمات الله موطن تعظيم وتبجيل وحماية.

– على مستوى الأثر: في الرحلة إقامة الحجة على أهل الانحراف والضلالة، واختبار لليقين وتأكيد لصدق الصادقين، وتوجيه لهم للاقتداء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

– على مستوى الواقع: الربط في السورة الشريفة بين الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تنبيه إلى قدسية المسجدين ورابطة القبلتين ووحدة القضيتين، فهما معا في منزلة تعظيم في قلوب المؤمنين واعتقادهم، وكما نحرص على حماية أحدهما ينبغي أن تبذل كذلك المهج والغالي والنفيس في صيانة الآخر والدفاع عنه، وأي تفريط فيهما إنما هو تفريط في دين الله تعالى.

– على مستوى مستقبل الأمة: الرحلة إعادة للحق إلى أهله، فكما لم يمر سوى عقدين من الزمن حتى صار المسجد الأقصى في حوزة المسلمين في عهد الخلافة الأولى، سيعود ومعه سائر البقاع المقدسة مهما اشتدت الغمّة وعظم تواطؤ العدا، ومهما دُلٍّلت ابنة الغرب ودُعمت، فزوالها بحول الله قادم. لِلِّه الأمر مِن قبْلٌ وَمِن بعَدُ وَيوْمَئِذٌ يفَرَحُ المؤمنون كما بشرت سورة الروم.

سورة الإسراء وفساد اليهود

عن سورة الإسراء قال الشيخ سعيد حوى من خلال كتابه الأساس في التفسير: “هذه السورة تربي أمة، وتعطي العبرة من أمة، وتتحدث عن قبلتين للأمة التي ورثت القبلتين ببركة بعثة محمد صلىّ الله عليه وسلمّ».

فسورة الإسراء تعبير واضح عن صراع المسلمين وبني إسرائيل حول المسجد الأقصى، بل هي إشارة واضحة للصراع التاريخي بينهم الذي بدأ منذ بعثة النور المباركة، حيث ناصبوا النبي صلى الله عليه وسلم العداء وأرادوا منع الدعوة بسبل المكر والكيد والخديعة والإساءة وغيرها من الوسائل المعهودة عندهم.

وهي بمثابة التحذير من خطر بني إسرائيل الداهم، وهي خارطة الطريق أو البوصلة التي ينبغي أن توجه تفكير المسلمين في سعيهم لحل هذا الصراع. ومن هذا المنطلق فقد جاءت حبلى بما يدل على فساد بني إسرائيل.

فمن المعلوم الذي لا يحتاج إلى دليل، أن من سمات بني إسرائيل القديمة الحديثة إفسادهم في الأرض وتكذيبهم للرسل عليهم السلام وقتلهم لهم وإشعال فتيل الفتن والمكر والخديعة والفساد والعلو في الأرض: وَقضَيْنَا إِليَ بنِي إسرائيل في اِلْكتاب لتَفُسِدُن فِي الِأرْضِ مَرتيْنِ وَلتَعْلنُ عُلوُّا كَبيِرا (سورة الإسراء، الآية 4).

فالآية مضرب المثل في قمة الاستكبار الذي يعيشه بنو إسرائيل وهم يدعون لأنفسهم مقامات الخيرية والأفضلية عن سائر الأقوام، مما يدفعهم على مر التاريخ للبحث عن منافذ حكم العالم، وقد بدأ ذلك في تاريخ الإسلام منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم الذي به كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج في يثرب، فلما سبقوهم إلى التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم تحولوا إلى مبارزته صلى الله عليه وسلم العداء، وكذبوا رسالته وحاربوا الإسلام والمسلمين إما بالمباشرة أو التسبب، فتحقق فسادهم الأول فسلط الله تعالى عليهم عبادا له أولي بأس شديد، قاتلوهم وانتصروا عليهم في شبه الجزيرة العربية، ولعل هذا ما أشارت إليه السورة الشريفة في قوله جل وعلا: وَقضَيْنَا إِليَ بنِي إسرائيل في اِلْكتاب لتَفُسِدُن فِي الِأرْضِ مَرتيْنِ وَلتَعْلنُ عُلوُّا كَبيِرا (4) فإِذاَ جَاءَ وَعْدُ أوُليهُمَا بعَثَنْاَ عَليْكُمْ عِباَدا لناَ أوْلي بأَسْ  شَدِيد فجَاسُواْ خِلالَ الديار وَكَانَ وَعْدا  مفْعوُلا (5) (سورة الإسراء، الآيتان 4، 5).

ومهما اختلفت آراء العلماء بخصوص المقصودين بعباد الله، فلعل اطلاعنا على ساحة الواقع بمنظار القرآن الكريم، وتصفحنا لأحداث التاريخ، يدفعنا دفعا للميل إلى الرأي القائل بأن عباد الله هم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، قاتلوا اليهود لما فسدوا ونكثوا المواثيق ونقضوا العهود. حارب صلى الله عليه وسلم بمن معه بني النظير وطرد بني قينقاع وحاصر يهود خيبر حتى استسلموا.

ويكون الفساد الثاني والأخير إذن هو الذي نعيش اليوم أطواره باستقواء بني إسرائيل على شعوب العالم من خلال بسط قوتها المالية وسيطرتها على دواليب الحكم في العالم وامتلاكها لتفاصيل الإعلام العالمي بنسبة تتجاوز التسعين بالمائة، وبسط نفوذها عمليا على دولة فلسطين والمسجد الأقصى المبارك بعد اجتماع آل صهيون من أرض الشتات وتوطينهم في بيت المقدس فإِذاَ جَاء َوَعْدُ الُاخِرَةِ جِيئناَ بكِمْ لفِيفا (سورة الإسراء، الآية 104) وامتدادها السرطاني في قلب الوطن الإسلامي من خلال دسائس التطبيع، ورغبتها المبيتة المعلنة في الاستيلاء على الشرق الأوسط الكبير من النيل إلى الفرات، والقائمة طويلة تصدِّق قول الله تعالى: ثم رَدَدْناَ لكُمُ الُكَرةَ عَليْهِمْ وَأمْدَدْنكُم بأموال وَبنِينَ وجعلنكم أكْثرَ نفِيرا (سورة الإسراء، الآية 6).

فيكون وعد الآخرة قريبا بعدما استشرى فسادهم مرة أخرى وامتد طغيانهم وتنوع مكرهم بعد أن ملكوا التأثير على العالم بما امتلكوه من قوة مادية وتقدم علمي وتحالفات كيدية وتأثير إعلامي. والموعد مع عباد الحضرة الإلهية راهنا لتحرير الأقصى الشريف وكل بلاد المسلمين من كيدهم.

ومن فسادهم الوارد في السورة الكريمة تحريف الكلم عن مواضعه، لما هم عليه من قسوة القلب وخبث الطوية والاستهانة بالمرسلين عليهم السلام، قسوة القلب ثم التحريف فالنسيان، يصُدّق عموم الإفساد الوارد في سورة الإسراء التخصيص من سورة المائدة: وَلَقَدَ اَخَذَ اَللَّهُ مِيثَٰقَ بَني إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اُثْني عَشَرَ نَقِيبا وَقَالَ اَللَّهُ إِنِّے مَعَكُمْ لَئِنَ اَقَمْتُمُ اُلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ اُلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اُللَّهَ قَرْضاً حَسَنا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّـاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّٰت تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اَلَانْهَٰرُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَد ضَّلَّ سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ (13) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَة يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۖ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَيٰ خَائِنَة مِّنْهُمُۥٓ إِلَّا قَلِيلا (سورة المائدة، الآيتان 13، 14).

إن حديثنا عن فساد اليهود ومكرهم ليس مجرد تذكير بدرس تاريخي خلد له كتاب الله تعالى وقمين بنا ألا ننساه، بل هو درس ينبغي أن يكون جوهر حركتنا في التعامل معهم وفي صد مكرهم واتقاء خبثهم، وتوجيه إلى سنن الله تعالى في الكون التي لا تقبل بمتابعة المفسدين أو التذلل لهم والانبطاح بين أيديهم، كما إنه تذكير بحكم الله تعالى فيهم وغضبه عليهم الذي قابل نكالهم ومكرهم: “ليبَعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب» كما مر معنا في الآية الشريفة.

شروط النصر ومقومات الانتصار للتعرض لوعد الآخرة

سنن الله تعالى لا تتخلف واستشراء الباطل يكون إيذانا بزواله ما أُتيت أسبابه، واليقين في ربنا الكريم أننا نعيش أطوار الجولة الأخيرة لتحقيق وعد الآخرة، فهل من علامات لها؟ 

أوجه بالمناسبة أنظار متابعينا الكرام إلى كتاب مميز في بابه للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى موسوم بـ«سنة الله»، يستحضر من خلاله السنن الإلهية لا لمجرد الاعتبار، بل لرصد خطة عملية بشروطها وتجلياتها وعراقيلها الممكنة، في سبيل نصر الأمة الموصول بإرادة وجه الله، وابتغاء الزلفى لديه. يصف من خلاله اليهود بالغدة المرضية في جسم الأمة؛ لسوء أدبهم مع الله تعالى وكذبهم عليه وتحقيرهم لخلقه، وهم اليوم يستمرون في وظيفتهم الإفسادية بتخطيط، وشهادة الله فيهم ماضية إلى قيام الساعة، فهم روح جاهلية عصرنا. أما حلم صهيون ومجد «مملكة الإله»، فهدف متجذر في معتقداتهم، وسنة الله الماضيةٌ نقلتهم من شتات الجيتوهات إلى مركز الفاعلية والتأثير، يقول رحمه الله فيه مجيبا عن سؤال علامات وعد الآخرة: “أخبرنا الكتاب المبين في آخر نفس السورة (الاسراء) وأولها أن من علامات الجولة الآخرة أن يجمع الله بني إسرائيل من شتاتهم في الأرض وأن يجيء بهم لفيفا لميقات يوم معلوم. وأن تكون ثمرات كرّتهِم علينا ومقوماتها قدرتَهم المالية حيث أمدهم الله بالأموال التي اكتسبوها بالربا وبمساعدة حلفائهم، وقدرتهم البشرية حيث أمدهم الله بالبنين من الطراز الأول تعوض نوعيتهُم الممتازة ضآلة العدد النسبية، وقدرتهم السياسية والدعائية على حشد العالم ليكون معهم ضدنا. فهم أكثر نفيرا وصديقا وحليفا منا» (1).

يقول الحق سبحانه وتعالى: وقُلْنَا مِن بَعْدِهِۦ لِبَنِيےٓ إِسْرَائِيلَ اَسْكُنُواْ اُلَارْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اُلَاخِرَةِ جِئننَا بِكُمْ لَفِيفا (104) وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَٰهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرا وَنَذِيرا.

 وعد من الله تعالى لا يتخلف، على المؤمنين أن يستشرفوه ويوافقوا إرادة ربهم الأزلية من خلال التماس شروط النصر وسننه، ومنها:

– الحرص على معية الصالحين وصحبتهم: اجتماعا على عظائم الأمور ونصرا للأمة، لأن من السنن الكونية تسخير الله تعالى عباده لنصرة دينه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أوليهما بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادا لَّنَا أُوْلي بَأْس شَدِيد فَجَاسُواْ خلال الديار وَكَانَ وَعْدا مَّفْعُولا.

– ضرورة لزوم مقام العبودية والمناجاة والتزكية: فالتربية أساس النصر وطريق الفتح المبين، وما وصْفُ الله تعالى لسيد الخلق بوصف العبد إلا تعظيم له وتذكير لنا بلزوم باب الله تعالى، من خلال التركيز على لب الأمر وجماعِه: التربية والتحلي بالأخلاق وتمثل المروءات ومواقف الرجولة. سُبْحَٰنَ اَلذي أَسْريٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلا مِّنَ اَلْمَسْجِدِ اِلْحَرَامِ إِلَي اَلْمَسْجِدِ اِلاقْصَا اَلذِے بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنَ اٰيَٰتِنَا إِنَّهُۥ هُوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ (1).

– التحول من الشكوى العاجزة إلى الوعود الناجزة: من خلال الجد في الطلب وإعداد القوة ووحدة الصف، أوْلي بأس شَدِيد.

– صدق التوكل على الله سبحانه: أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُوني وَكِيلا.

– الصدق والتصديق: لأن الله ينصر الفئة الصادقة على قلتها وضعف عدتها ووعده حق لا يتخلف كما في السورة، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه عمليا صدق النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء وإن كانت محل تعجب قومه وتكذيبهم وسببَ ارتداد بعض المسلمين، فقال مقولته الشهيرة: “إن كان قال فقد صدق”، فالحجة عنده إذن قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: “كيف لا أصُدقه في هذا الخبر، وأنا أصدقه في أكثر من هذا، أصدقه في خبر الوحي يأتيه من السماء”.

– العناية بالقرآن الكريم تمثلا واهتداء، ائتمارا وانتهاء: فما أن تحدث السياق القرآني من سورة الإسراء عن إفساد اليهود: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اُلَاخِرَةِ لِيَسُـئواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ اُلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (7) عَسيٰ رَبُّكُمُۥٓ أَنْ يَّرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكِافرِينَ حَصِيراً (8) حتى قال سبحانه: اِنَّ هَٰذَا اَلْقُرْءَانَ يَهْدِے لِلتِے هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ اُلْمُومِنِينَ اَلذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمُۥٓ أَجْرا كَبِيرا (9). وما أن تحدث في آخر السورة الكريمة عن جمع الله تعالى لليهود من الشتات استعدادا لإهلاكهم وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِۦ لِبَنِے إِسْرَائِيلَ اَسْكُنُواْ اُلَارْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الَاخِرَةِ جِئنَا بِكُمْ لَفِيفا (104) حتى قال جل وعلا: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَٰهُ وَبِالْحَقِّ نَزَل وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرا وَنَذِيرا (105) وَقُرْءَانا فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَي اَلنَّاسِ عَلَيٰ مُكْث وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلا (106)، إذا بقصد إرجاع الوضع إلى نصابه الإسلامي، وإخضاع الواقع الثقيل لعمليات التغيير اللازمة حتى تَدور حياة المجتمع حول القرآن.

– إحياء شعلة العلم في القلوب شرط النصر ومطلب ضروري للتحرير؛ ومن مستلزمات انعتاق الأمة بمجملها في أفق بناء الخلافة الثانية، مع ما يرتبط بذلك من وحدة الصف الإسلامي، والمحافظة على الرحم الإيمانية، والعناية بالشباب؛ ذخر الأمة وعامل عزها وسواعد بنائها وانعتاقها، مع التحرر من طوق التقليد والتبعية، والدوابية الإعلامية، والاحتواء الثقافي، باستعادة عافية الفطرة الإيمانية والإعلان عن بدء مسيرة التحرر.

– الاجتهاد في فقه التاريخ وتقصي السنن الإلهية ومراعاتها، لأنها اعتبار بالماضي وفهم للحاضر وتخطيط واع ومبصر للمستقبل، مع تجاوز الحماسة الساذجة وعقلية التفاخر بالأمجاد، والاعتبار من الأقوام السالفة الذين يعرضهم القرآن.

– التركيز مع العامل الإيماني على العمل الميداني، لتحقيق التمكين والتعرض لـ”وعدالآخرة”، بما يحتاجه هذا الإعداد من قوة الساعد المصنِعّ وحكمة العقل المتنور الخاضع لجلال الله، وبذل النفس والغالي جهادا واجتهادا، واليقين فيما أخبر به رب العزة سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الفتح والنصر، وكل ذلك من العمل الصالح المنصوص عليه في السورة الكريمة في قوله تعالى: وَيبُشِرُ المؤمنين الذين يعَمَلوُنَ الصالحات أنٌّ لهم أجْرا كَبِيرا، ومن الوعد أن “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود” (صحيح مسلم، 2922).

– مشاركة المرأة الرجل في جهود التحرير باعتبار الولاية المشتركة بينهما، فالسورة وهي تخاطب المؤمنين فهي في الواقع خطاب مشترك للرجال والنساء؛ لاشتراكهما في مهام التكليف والأحكام والمسؤولية والولاية العامة بينهم.

– اليقين في موعود الآخرة لأنه وعد إلهي لا يتخلف: ومن شأن ذلك التصديق بسنن الله تعالى، والاندراج في سلك الرسل عليهم السلام والسير على منوالهم، والترقي في مدارج الإحسان، وطلب الكمال، بعد وضع القدم راسخة على بساط التصديق الواثق بقدر الله مالك الملك ذي الجلال والإكرام، وليس ذاك المطلب النفيس بالمتحقق في الخلوات، إنما بالعناية بأحوال النفس وانعتاقها مع استحضار سير الأمة الجماعي.

ختاما؛ كلما استجمعت الأمة شروط النصر، كلما أسرع تحققه وتم لها التمكين، وتجاوزت الفتن المظلمة الكالحة التي كان لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عنها أثر بالغ في تقويم سلوك أجيال خير القرون، لأن الله تعالى أراد أن يحقق النصر للأمة بعد أن تتعلم كيف تفهم السنن، وتتفاعل معها، وتحقق مقاصد الشرع.

وإن تحرير فلسطين تحرير لكل البلاد الإسلامية؛ تحريرها من التبعية المذلة للغرب، تحرير إرادتها لتتعرف إلى خالقها، تحرير طاقاتها حتى لا تعتمد على صناعة غيرها، تحرير العقول لتطلب العلم النافع، تحرير القلوب من سلطان الهوى…

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من سواعد الحق والخير، وأن يستعملنا في كل ما يرضيه.


(1) عبد السلام ياسين، سنة الله، موسوعة سراج الإلكترونية، ص 66.