تجارب في التحول السياسي

Cover Image for تجارب في التحول السياسي
نشر بتاريخ

استأثر مفهوم التحول السياسي باعتباره أحد المفاهيم الحديثة بمحاولات معمقة للتأصيل المفاهيمي، ويتسم هذا المفهوم بنوع من الشمولية والاتساع.

وكل محاولة لهذا التأصيل لمفهوم التحول السياسي تستدعي الرجوع إلى الأصول اللغوية للمصطلح، فكلمة التحول لغة تعبر عن تغير نوعي في الشيء أو انتقاله من حالة إلى أخرى، ويشير لفظ التحول إلى التغير أو النقل، فيقال حول الشيء أي غيره أو نقله من مكانه إلى آخر أو غيره من حال إلى حال، وعن الشيء يقال تحول عنه إلى غيره.

وكلمة التحول تقابلها باللغة الفرنسية كلمة “Transition” وتعني المرور أو الانتقال من حالة معينة أو من مكان معين إلى حالة أو مرحلة أو مكان آخر. ويقصد به أيضاً مجمل التحولات التي تتعرض لها البني السياسية في مجتمع ما بحيث يعاد توزيع السلطة والنفوذ داخل الدولة نفسها أو عدة دول، كما يقصد به أيضاً الانتقال من وضع لاديموقراطي استبدادي إلى وضع ديموقراطي 1. وتعتبر عملية التحول بمعنى “Transition” المرحلة الأولى للتغيير نحو النظام الديمقراطي، وهي فترة انتقالية تمتد بين مرحلة تقويض دعائم نظام سياسي سابق وتأسيس نظام سياسي لاحق.

وتتحدد هذه التحولات من ناحية ببدء عملية تحلل النظام السلطوي، ومن ناحية أخرى بإرساء شكل من أشكال الديمقراطية أو عودة شكل من أشكال النظام السلطوي أو ظهور بديل ثوري، ومن الجائز أيضا أن تنتج هذه التحولات نظاما هجينا أو تنحدر بالكامل نحو الفوضوية.

وقبل عرض بعض تجارب التحول السياسي والتي هي موضوع هذه المداخلة، نشير إلى مجموعة من الملاحظات:

* هناك تراكم معرفي وتجارب ميدانية متعددة للتحول السياسي، قد تختلف مدخلاتها ومخرجاتها، والتجارب محور هذه المداخلة لا تعني النموذج المثالي للتحول السياسي.

* تمتد المرحلة الانتقالية عادة سنوات بين مد وجزر، وتُتوج بانتخاب هيئات دستورية منبثقة عن إرادة شعبية حقيقية، وتمتلك سلطات سيادية محددة بنص الدستور، وتبقى المؤهلات السياسية والاجتماعية والإعداد الجيد عاملا حاسما في تحقيق التغيير.

* التبرير المنهجي لاختيار تجارب تونس وإسبانيا: فتونس تملك نفس المقومات اللغوية والبشرية والدينية إضافة للقرب الجغرافي من المغرب؛ وتم اختيار إسبانيا بحكم كونها ملائمة لطبيعة شعوب المنطقة الراغبة في الخروج من نفق الاستبداد إلى نور الحريات، بالإضافة إلى أن إسبانيا كانت إلى الأمس القريب مرآة أمجاد العرب، فلماذا لا تكون إسبانيا الحاضر، بتطورها السياسي، الاجتماعي والاقتصادي، نموذجاً ومرآة المستقبل 2.

I – التجربة التونسية

أ – تميزت المرحلة السابقة لاحتجاجات الربيع العربي في تونس سنة 2010 بـ:  

* تجميد نشاط الأحزاب، ومحاربة الإسلاميين؛

* إقرار نظام الحزب الواحد؛

* الإجهاز على الحريات، وإحكام القبضة على الصحافة والنقابات؛

* تميزت هذه الفترة بفساد مالي وإداري؛

* انفتاح النظام التونسي – وخاصة زمن بن علي – على الغرب وإبرام اتفاقات معهم جعلهم يغضون الطرف عن سياسته الاستبدادية، وخنقه لمعارضيه وللأحزاب والتعددية السياسية وحرية الصحافة وأنشطة المجتمع المدني، وتبنيه سياسة الحزب الوحيد؛

* انتهاكات حقوق الإنسان وخاصة أحداث ثورة الخبز – يناير 1984 – التي قامت بسبب ارتفاع الأسعار؛

* تناوب على الحكم رئيسان وهما: الحبيب بورقيبة؛ من الاستقلال 1957 حتى انقلب عليه وزيره الأول بن علي سنة 1987، وهذا الأخير حتى أوائل شهر يناير 2011.

انعكست هذه الأجواء على الطبقة السياسية والاجتماعية، ففاقمت ظاهرة الانقسام:

– انقسام هوياتي شق الطبقة السياسية يختزل في ثنائية تراثي/حداثي، نجحت المعارضة في تجاوزه عن طريق حركة 18 أكتوبر 2005، التي عبرت عن تحول من فرز على قاعدة الإيديولوجيا إلى فرز على قاعدة الحرية، حيث وحد رفض الاستبداد كل القوى السياسية.

– انقسام اجتماعي عمودي ساحل/داخل أو مركز/هامش، والهامش هنا ليس حيزا مكانيا بل هو مستوى معيشي. وانعكس الانقسام الاجتماعي على الوضع الاقتصادي والمشهد السياسي: اقتصاد رسمي واقتصاد مواز، طبقة سياسية رسمية ومجال سياسي هامشي ذو وجه احتجاجي.  

اندلعت الثورة من الداخل المفقر وقادتها حشود الهامش المفقر 7 دجنبر 2010.

ب – التحول السياسي في تونس: من الانتقال الديمقراطي إلى استهداف المنظومة الديمقراطية

عدد مستشار الرئيس التونسي السابق زهير إسماعيل مراحل التحول السياسي في تونس في أربع مراحل كبرى 3. وتشمل المرحلة الأولى بداية الإرهاصات والتي تعود إلى 2008 وما تبعها من احتجاجات ذات بعد عمالي/نقابي ثم اندلاع “الثورة”. بعد هروب الرئيس التونسي، تولى تسيير أمور الحكم رموز الدولة بذريعة إنقاذ الدولة، وتمكّنت المنظومة القديمة من إعادة ترتيب الأمور في الإدارة والوزارات وأرشيفها وملفّاتها الكبرى ولا سيما وزارات السيادة، فكانت المنظومة هي المتهَم والمحقّق في الآن نفسه ومن نتائج هذه المرحلة:

– طمس كل ما يدين رموز الدولة؛

– قطع الطريق أمام الثوار لتنصيب الهيئة المكلفة برعاية الانتقال الديمقراطي، وتشكيل الهيئة المستقلة للانتخابات؛

– بداية التصدع داخل الموقف الثوري وبداية الاستقطاب الايديولوجي وغياب تصور جامع للمرحلة الانتقالية.

أما أهم مرحلة عرفتها التجربة التونسية فهي مرحلة التأسيس الدستوري، عرفت فيها تونس إجراء أول انتخابات ديمقراطية نزيهة رغم أنها تمت في شروط المنظومة القديمة، أفرزت نتائج هذه الانتخابات فوز ثلاثة أحزاب (الترويكا: النهضة، المؤتمر وحزب التكتل من أجل العمل والحريات)، قادت سنتين من مرحلة التأسيس الدستوري. غير أن النزاع الإيديولوجي الذي بدأ يطفو على السطح أدى إلى الانزياح الأول في مسلسل التحول نحو الديمقراطية من تسيير/تأسيس إلى حكم/معارضة قبل أن تبنى شروط الحكم والمعارضة الديمقراطية.

عرفت هذه المرحلة مجموعة من الإنجازات يمكن إجمالها في:

– إعداد دستور ديمقراطي والذي استغرقت صياغته مدة سنتين بسبب الاختلاف بين المرجعيات حول هوية الدولة، ونظام الحكم (رئاسي أو برلماني)، وحقوق المرأة (مساواة تماثلية أم مساواة تكاملية).

– إنجاز انتخابات برلمانية ورئاسية، وإرساء قانون للعدالة الانتقالية 4.

– إفشال مساعي الثورة المضادة على الشاكلة المصرية، وتنازل حزب النهضة وعدم تدخل الجيش في التجربة لإعاقة التحول.

ورغم ما يبدو من نجاح التجربة التونسية اليافعة في إنجاز مراحل الانتقال الديمقراطي العسيرة، إلا أن واقع الحال لا يمكن أن يُخفي عن أنظارنا براعة وتقنيات هذا «الانقلاب الهادئ» الذي حققته مكونات الثورة المضادة، بصفة تكاد تكون ساحقة، وغير قابلة للتشكيك، باعتبار أن ما أُنجز، هو ما أراده الشعب من خلال آلية الاقتراع الديمقراطية.   

ج – تحديات ومعيقات التحول السياسي في تونس

* الحركات والقوى المضادة للثورة: تتحول الديكتاتوريات في لحظة السقوط إلى حركة مقاومة تستخدم كل السبل المشروعة وغير المشروعة لاسترجاع مواقعها، إن الأهم في كل حركة تغييرية هو الإطاحة بالنظام ككل بدل إسقاط رأس النظام فقط، وبالتالي أهمية بلورة ميثاق وطني جامع بمشاركة كل الأطراف السياسية؛

* المحيط الإقليمي: التخوف من امتداد حكم الإسلام السياسي في المنطقة العربية، المحور السعودي الأمريكي في مواجهة المحور الإيراني (اتهام بعض الأطراف، دول الخليج، ببدل مساعي لإفشال تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس على شاكلة مصر)؛

* تدهور الوضع الاقتصادي: إذا كانت التجربة التونسية قد نجحت إلى حد ما في إرساء مؤسسات ديمقراطية انتقالية، فإنها تواجه صعوبات اقتصادية واجتماعية لثقل التركة الاقتصادية الموروثة عن النظام القديم من ضعف مؤشرات الاقتصاد والدين الخارجي 5؛

* مشاركة مسؤولين في النظام القديم في تأمين عملية الانتقال الديمقراطي؛

* التحدي السياسي: ناتج عن توتر العلاقة بين الحاكم والمواطن، وهذا التوتر أساسه الإرث الكبير من الاستبداد الذي تراكم لعقود بالإضافة إلى مؤشرات العودة إلى التحكم.

* ظاهرة الإرهاب: أحدثت بعض الاغتيالات لرموز سياسية إرباكا للمشهد السياسي، وشكلت هذه الظاهرة فرصة لبعض المناوئين للتغيير لاتهام بعض مكونات الطبقة الحاكمة بالتساهل مع الإرهاب.

* ضعف المجتمع المدني والنخب السياسية في التجربة التونسية رغم أن هذه المكونات قوة مركزية في إحداث كل تغيير سياسي، وبالتالي فعلى هذه المكونات تفعيل دورها وتصويب نظرتها نحو المجتمع أكثر من مصالحها الفئوية.

II – التجربة الإسبانية

اعتمدت التجربة الإسبانية على أرضية جمعت في البداية بين العوامل الممهدة للتحول المتمثلة في إفرازات التطور المجتمعي ثم توافق الأطراف حول القضايا المختلف عليها مع إرادة حقيقية من النخبة الحاكمة لدمقرطة البلاد.

أ – عملية التحول في إسبانيا

بدأت عملية التحول السياسي في إسبانيا بعد تزايد الضغوط والمطالب الداخلية للتغيير في نهاية عهد ملكها الراحل فرانكو، الذي حكم البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية التي استمرت 36 سنة منذ 1939 وحتى عام 1975، عندما قام بتعيين الملك خوان كارلوس خليفة له ليقود عملية إصلاح داخلية.

اتخذ النظام الحاكم في إسبانيا مجموعة من الخطوات لتسريع عملية التحول السياسي نحو الديمقراطية تتمثل في:

* تشكيل حكومة توافقية وضع الملك على رأسها (اودولفو سواريز) الذي كلف بتشكليها في ذلك الوقت، من وزراء من قوى النظام القديم والإصلاحيين من داخل النظام من ناحية وقوى المعارضة من ناحية أخرى.

* الإفراج عن المعتقلين السياسيين، والتصالح مع أحزاب المعارضة، وتخفيف القبضة الأمنية على المجتمع.

* وضع قانون انتخابي جديد، والاستفتاء على برنامج للإصلاح السياسي في عام 1976، وإجراء انتخابات نزيهة في ظل تعددية حزبية حقيقية.

* تنازل الملك عن الكثير من صلاحياته لصالح البرلمان المنتخب، والحكومة المنتخبة، والقضاء، من أجل تكريس ملكية دستورية ديمقراطية، وهو ما ظهر في الدستور الجديد الذي وضع عام 1978 الذي شارك في كتابته ممثلين عن سبعة أحزاب، وأقر دولة القانون، ثم تفعيل دور المجتمع المدني، وتقديس الحريات العامة والخاصة، والفصل التام بين مختلف السلطات.

ب – العوامل المساهمة في التحول 6:

* الدولة باعتبارها الفاعل في التحول: حيث كان التحول برغبة القيادة السياسية من داخل بيروقراطية الدولة، رغم أن العلاقة بين النخب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولة أثبتت صعوبة في التغيير. كما أن مشكلة الحكم الذاتي الممنوحة لبعض الأقاليم لم تكن تشكل تهديدا على عملية التحول في ذلك الوقت.

* التحول الديمقراطي والمجتمع المدني: ساهم التطور الاقتصادي في الخمسينات والستينات من تقوية المجتمع المدني، وتقوى المجتمع المدني بانخراط المنظمات العمالية والطلابية في الاحتجاجات، وكانت هذه المنظمات الشعبية تعتمد على العادات والتقاليد وتمتلك نضجا سياسيا وتتبنى برنامجا واقعيا.

* لعب المحيط الدولي والإقليمي الذي أحاط بالتجربة الإسبانية دورا أساسيا في التحول، فوجود إسبانيا في جنوب أوروبا المتقدمة اقتصاديا وسياسيا شكل ضغطا مستمرا للحاق بدولها، وإلا بقيت معزولة غريبة في محيطها المباشر.

III – استنتاجات

1-  عمليات الإصلاح الديمقراطي التي تتسم بالظرفية والتنفيس على الشعب وتخفيف الضغط على النظام ما تلبث أن تعري عن قتامة الأوضاع وتشبث الحاكمين بكراسيهم.

2-  تأثير الاختلافات الإيديولوجية بين المكونات المجتمعية المختلفة على عملية التحول، وبالتالي فإن الحوار هو الآلية الوحيدة لإنهاء الاختلافات السياسية على أساس تغليب المصلحة العامة وتغليب الشرعية التوافقية على الشرعية الانتخابية وتعزيزه كمفهوم مجتمعي “لأن تخليص العقل من الكولونيالية يتطلب ابتعادا قاطعا عن إغراء الهويات والأولويات المنفردة” 7.  

3-  كل تغيير يجب أن يلامس جوهر البنية السياسية لتحقيق الانفراج والإصلاحات الحقيقية عن طريق القطع الجازم مع الاستبداد الذي يكبّل بناء الدولة، ورسم مسار جديد بمقومات دولة الحرية والمواطنة، والسعي لتأسيس ميثاق جامع ينبثق عنه دستور تضعه هيئة تأسيسية منتخبة، وتقره إرادة شعبية باستفتاء حر ونزيه يقعد للفصل التام بين السلطة والثروة، ويحقق القطع مع إرادة الفرد، ويؤسس للإرادة الجماعية الشعبية.

4-  الديمقراطية مدخل أساسي لكل تحول سياسي على أساس التأسيس والمشاركة والمواطنة. 

وختاما يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله 8: “إن الأمة لا يمكن أن تواجه تحديات الحاضر والمستقبل إن لم تجمع ما فرقته عصور الخلاف. وإنما يمكن ذلك بنصب الجسور، والتعاون الفعلي في جهود البناء، لتكون نتائج البناء المشترك حافزا على توحيد النظرة بعد حين. لا ينبغي أن نؤجل الحوار، ولا أن نستعجل الوفاق…”.


[1] إسماعيل صبري ومحمد محمود ربيع – موسوعة العلوم السياسية – الكويت: جامعة الكويت – 1994 – ص 47.
[2] هالة مصطفى: “تجربة إسبانيا في التحول الديمقراطي.. نموذج آخر” مقال منشور في جريدة الأهرام الإلكترونية بتاريخ 15 يونيو 2010.
[3] زهير إسماعيل: المراحل الكبرى للثورة حقيقة الانقسام المضاعف، مقال تحليلي في موقع الجزيرة المعرفة بتاريخ 27 /1/2017.
[4] ابراهيم فريحات: “الانتخابات التونسية تختم المرحلة الانتقالية وتثير المخاوف من عودة النظام القديم” مقال منشور من طرف مركز بروكنجز  8/1/2015.
[5] عز الدين عبد المولى: “أضواء على التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي” مقال منشور على الجزيرة نت 14/2/2013.
[6] عقل صلاح: “التحول الديمقراطي في جنوب أوربا” مقال منشور في موقع مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط 9 مارس 2017.
[7] سعيد عبيدي: “الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي…”، مقال منشور في مركز مؤمنون بلا حدود والأبحاث، بتاريخ 26 نونبر 2016.
[8] عبد السلام ياسين: الخلافة والملك. الصفحة 52. موسوعة سراج.