تحل الذكرى الخامسة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله من دار الفناء إلى دار البقاء.
خمس سنوات مضت كلمح البصر، لكن وقع الرحيل على القلوب كان شديدا. مرت السنوات والشهور في زمن الرحيل، وسنة الله في خلقه تقلبت بين ناس ومتذكر. النسيان سمة عقل مظروف بالزمان وبالمكان، بينما التذكر سمة قلب سائح يطوي الزمان والمكان.
ذكرى الإمام تسكن الأرواح وتتجاوز الأجساد؛ فالجسد قفص والروح طائر. يقول الإمام رحمه الله: “صحبتنا صحبة أرواح وليس صحبة أشباح”. فالأجساد تفنى والأرواح تبقى. وحتى لا ننسى، سن لنا المصطفى الدعاء، لأنه سبب يربط أهل السماء بأهل الأرض، ومؤمني الدنيا بمؤمني الآخرة، ويربط اللاحقين بالسابقين مهما تباعدت الجسوم والأماكن.
العقل ينسى، لأن باحة التذكر محدودة، ومادته الرمادية ترتبط بالحواس الأرضية، بينما القلب يتذكر السلسلة النورانية التي تربطه بمنبع الوحي وأصل الهداية الربانية. يستحيل معها نسيان زمن اللقاء وفضائه الذي ملأه الإمام نورا وضياء، وعلم فيه شبابه علما وحلما.
واهم من ظن أن بمرور الزمن سوف تتلاشى ذكرى الإمام؛ لا يستطيع إنسان أو قوة في الوجود أن تمحو ذكراه، فهو حي في القلوب الذاكرة والنفوس المطمئنة والعقول المسترشدة بعلم المنهاج النبوي.
تتجدد الذكرى كل سنة، ويتجدد معها تذكر سيرة الرجال الذين زرعوا في قلوبنا بذور الإيمان ومحبة الرسول العدنان ووضعوا في عقولنا علم المنهاج النبوي ينير البصر والبصيرة، ويقوِّم السلوك ويهذب الأخلاق. صحبة صادقة لم ينسها زمن صور الأجساد حقيقة صحبة الأرواح.
القصد من هذا التذكير كما ذكر الإمام المرشد في وصيته الخالدة: “ليتذكر متذكر ويدعوَ داع فتلتئم أواصر الصِّلة ويتحقق التزاور في الله والتحاب في الله عبر الأزمان. لا تحبس الصِّلة برازخ الموت.”
عندما تبحث عن الكلمات لتتحدث عن الإمام عبد السلام ياسين، لا تجد في قواميس اللغة ما يفصح عن مكنونات القلب للحديث عن هذا الرجل الذي سعى بين الناس داعيا إلى الله ومبشرا بغد الإسلام، ليسمعها قلب مؤمن سعيد، يلقي السمع وهو شهيد.
هذا الرجل الذي عاش في زمن لم يدرك كثير من أهله أبعاد دعوته، وعاش في أرض حاصره حاكمها الذي لم يسترشد بنصيحته، بل سجنه وحاصره أعواما وأعواما، وعمل جاهدا على منع وصول رسالته البالغة إلى الناس. إلا أنه رحمه الله استطاع بإذن الله أن يتربع على قلوب الشباب، الذين اهتم بهم الإمام أيما اهتمام. وجعل تهذيب القلوب جوهر تغيير الإنسان وأساس بناء المجتمع.
بصحبة الإمام ملئت القلوب محبة وذكرا، فأصبحت تنبض ب” لا إله إلا الله” تجدد الإيمان وتذهب الأحزان وتصلح الجوارح وتنور العقول. فأصبح للحياة معنى وللحركة مغزى. العين ترى بنور الله والأذن تسمع كلام الله واللسان يلهج بذكر الله، واليد تبني جسور التواصل والسلوك إلى الله.
كل من جالس الإمام، يدرك أن حاله يغني عن مقاله. رجل ميزه الله سبحانه وتعالى بخصال الرحمة القلبية والحكمة العقلية، فكان لين القلب، أحب الصغير والكبير، وأحبَّه الجميع بدون تكلف ولا تصنع. كان سلوكه محمديا، مدرسة تمشي بين الناس، يعلّم بساطة الإسلام وعمق الإيمان وضرورة التشوف إلى مقام الإحسان حتى تصبح من الرجال. أما مقاله فكان قاصدا، يعرض أفكارا تسبح بحمد ربها في كل صفحة من صفحات مصنفاته الأربعين، مستبشرة ببشرى ربها أن بعثها رائدة للإسلام، مؤذنة لميقاته.
يقول الله تعالى في سورة آلِ عمران: فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ. (آل عمران 159).
لكَ منا عهد يا إمام مهما طال الزمن أو قصر، مهما وفى الوافي أو أنكر، مهما قل الحزن أو كثر، مهما زاد الألم أو القهر، ستظلّ في دنيانا النبراس الأنور، وتبقى معنا وفي قلوبنا مدى الدهر.
سيظل منهاجك النبوي سراجا منيرا لكل سائر في مدرسة السلوك.
قد نغيب كالغروب وقد يلهينا الزمن، ولكن نبض القلب لا ينسى الحبيب.