قال الله تعالى في سورة آل عمران: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين 1.
آيتان كريمتان من سورة آل عمران؛ ثالث سور القرآن الكريم التي نزلت بسبب النقاش الذي حدث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين النصارى حول المسيح عليه السلام، حيث جاء وفد من نجران إلى رسول الله وقد ظنوا أنه يهين نبي الله عيسى عليه السلام لما قال أنه عبد الله ورسوله، وأنه مولود بدون أب وهذه معجزة من المعجزات، فغضبوا من هذا الحديث، فأنزل الله تعالى صدر هذه السورة العظيمة التي تبين صدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء عن المسيح عليه السلام، وعن وحدانية الله تعالى، ردا على ما ابتدعه النصارى من الكفر وما جعلوا لله تعالى من أنداد.
ولعل المتأمل في الآيتين الكريمتين أعلاه، يستوجب منه الوقوف مليا عند السيرة العطرة للسيدة مريم عليها السلام في شق الاصطفاء للاعتبار والاقتداء؛ فمن سنن الله تعالى في الخلق أنه يبتلي الإنسان ليزكي نفسه وليمحصه حتى يكون أقوى إيمانا وأصلب عودا، ثم يعده لمهام جسام قد تختلف وتتباين من شخص لآخر، قال تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين 2.
كان اليتم وفقد الأب أول ابتلاء لمريم عليها السلام، وأمها الصالحة التقية الورعة وفاء لنذرها أخذت تبحث لها عمن يكفلها ويسهر على تربيتها لتهييئها لخدمة بيت المقدس.
وكان حملها بدون زوج الابتلاء الثاني الذي لقيت لأجله بالغ الأذى من قومها، حيث شككوا في شرفها وطعنوا في كرامتها، وهو ما جاء تبيانه في قوله تعالى: يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا 3.
لكن وراء هذا الابتلاء اصطفاءات على مستويات عدة، يقول السعدي: “ينوه الله تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها وأن الملائكة خاطبتها بذلك فقالت: يا مريم إن الله اصطفاك أي اختارك و طهرك من الآفات المنقصة، واصطفاك على نساء العالمين، الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين إما على عالمي زمانها، كما قال أو مطلقا وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كأمهات المؤمنين رضي الله عنهن خديجة وعائشة ثم فاطمة الزهراء لم يناف الاصطفاء المذكور، فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها” 4.
وفي السياق ذاته يقول سيد قطب رحمه الله: “وأي اصطفاء؟ وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة كما تلقاها أول هذه الخليقة ” آدم” عليه السلام وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها، إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية وهو بلا جدال أمر عظيم، وذكر الطهر في الآية الكريمة إجابة إلى ما لابس مولد عيسى عليه السلام من شبهات لم يتورع اليهود نعت مريم بها والمس بكرامتها وطهرها، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين ويحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وعلو منزلتها واجتبائها” 5.
هو اصطفاء متعدد أكرم به الله تعالى سيدتنا مريم:
1- اصطفاء في النسب:
ولدت مريم عليها السلام في أسرة صالحة عابدة، بيت آل عمران الذين اصطفاهم الله تعالى، يقول في محكم تنزيله: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين 6، وفي ذلك قال ابن كثير رحمه الله: “يخبر الله تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض فاصطفى آدم عليه السلام، خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة وعلمه الأسماء كلها وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها لحكمة أرادها، واصطفى نوحا عليه السلام وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض لما عبد الناس الأوثان وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا… واصطفى آل إبراهيم ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ثم آل عمران والمراد به والد مريم أم عيسى عليه السلام 7.
2- اصطفاء في الكفالة:
تنافس الأحبار على كفالة مريم لمنبتها الكريم، لكن الله تعالى قيض لها زكرياء عليه السلام فكانت كفالته لها نعمة من الله تعالى ورحمة، اقتبست منه العلم والمعرفة فنشأت نشأة إيمانية صادقة، وأنبتها نباتا حسنا حيث أراد أن يعدها لأمر عظيم. جعل نبي الله زكريا عليه السلام مقامها بيت المقدس ” أشرف مكان” فأقبلت على الله تعالى عابدة متبتلة حتى سميت بسيدة المحراب.
3-اصطفاء في الأمومة:
نستحضر هنا معجزة ولادة عيسى عليه السلام من دون أب وما رافق ذلك من ابتلاء عظيم، عانت منه سيدتنا مريم كثيرا بالرغم من إيمانها بقضاء الله تعالى وتسليمها بقدره، وقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت فقالت: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسي 8، فجعله الله آية للناس، دلالة لهم على قدرته وعظمته وإرادته النافذة سبحانه إذا أراد أن يقول لشيء كن فيكون.
4- اصطفاء في الرزق:
كان رزق سيدتنا مريم يأتيها رغدا، إذ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب 9.
وهو دليل واضح وبين على إمكانية حدوث كرامات قد لا يستوعبها العقل، كنها حقيقة تؤكد عظمة الخالق جل جلاله.
5- الاصطفاء لخدمة بيت المقدس:
نذرت أم مريم ما في بطنها لله تعالى؛ إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، إلا أن المفاجأة كانت أكبر من انتظاراتها، إذ قدر الله تعالى أن يكون المولود أنثى، ولم يكن من عادة قومها تقديم الإناث لخدمة بيت المقدس، لكن إيمانها ويقينها في الله تعالى كان أكبر، وهو ما أكده الله تعالى في قوله: فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم 10.
فتقبلها المولى عز وجل قبولا حسنا وسخرها لتلك المهمة العظيمة وكانت خير خادمة لبيت المقدس، امرأة بلغت الكمال مصداقا لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام حيث قال: “كمل من الرجال كثير وما كمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام” 11
لا ريب نستشف العبر العديدة من هذه الاصطفاءات تكون لنا منارات في طريقنا وسلوكنا إلى الله تعالى، كما لا يفوتنا في الصدد ذاته أن نستدعي قولة بليغة للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله يحفز فيها المؤمنات لرفع هممهن في الاقتداء بالكاملات: “إلى مريم ابنة عمران وصويحباتها في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وإلى الأكملين المرسلين ترنو أعين المومنات والمومنين، تتعلم الأجيال أن تقتحم سباقا مع أبناء الدنيا، عقبات كسب القوة في الدنيا وعين القلب على من جعلهم الله لنا أسوة، تلك التعبئة الجهادية وحدها تعز بها الأمة ويشرف بها مثوى المومنات والمومنين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر” 12
وفي تفسير للقرطبي يقول، عند مليك مقتدر: “عند هاهنا القربة والزلفة والمكانة والرتبة والمنزلة” 13
ونستشف من قولة الإمام؛ ضرورة التطلع إلى أمرين اثنين:
الخلاص الفردي بالتوبة والأوبة والإنابة إلى الله تعالى، ثم الخلاص الجماعي أو التعبئة الجهادية التي تقتضي إيقاظ القلب إلى معاني الإيمان ورفع الهمم إلى نشدان الكرامة الآدمية ثم إيقاظ الفكر من سبات الزمان، يقول رحمه الله: “إن حديدنا بارد يحتاج من يحميه على نار الحماس.. ويطرقه بمطارق التربية لتستوي زبره من استقامة لله وصمود للجهاد” 14.
[2] سورة العنكبوت، الآية: 123.
[3] سورة مريم، الآية: 28.
[4] عبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1434هـ-2013م، المجلد 1، ص964.
[5] سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، ط32، 1423هـ، 2003م، مج 1، ص 295.
[6] سورة آل عمران، الآية: 33
[7] ابو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري، تفسير ابن كثير، تحقيق محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، الطبعة: الأولى، 1419 هـ، ج2، ص، بتصرف.
[8] سورة مريم، الآية: 23.
[9] سورة مريم، الآية 37.
[10] سورة ال عمران، الآية: 36.
[11] حديث ابي موسى الأشعري.
[12] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، دار لبنان للطباعة والنشر، ط4، 2018، ج2، بيروت، ص 256.
[13] تفسير القرطبي ج17، ص 115، بتصرف.
[14] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، دار لبنان للطباعة والنشر. الطبعة الأولى، 1430، ص 47.