تأثير التطبيع على الطرف الآخر.. طوفان الأقصى والمنعرج الخطير

Cover Image for تأثير التطبيع على الطرف الآخر.. طوفان الأقصى والمنعرج الخطير
نشر بتاريخ

يحاول هذا المقال تسليط الضوء على زاوية قلما اهتمت بها أقلام المحللين بمختلف مشاربهم، ذلك أن مختلف الكتاب تناولوا تأثير التطبيع وخطره على القضية الفلسطينية وعلى الأمة العربية والإسلامية وعددوها، ولكن الدراسات التحليلية تبدو نادرة في تسليط الضوء على تأثير التطبيع مع الكيان الصهيوني وخطره على الصهاينة وعلى الولايات المتحدة الأمريكية، وفي هذا المقال المقتضب سأحاول التطرق لهذا الجانب الذي له وجاهته وتأثيره على مجريات الأحداث في المنطقة وفي العالم.

يعيش العالم العربي على هامش التاريخ، وتعيش دوله على إيقاع أنظمة تسلطية تميل فيها كفة الدولة على كفة المجتمع، في غياب وجود مؤسسات ديمقراطية أو في إطار وجودها بصورة شكلية عبر تبنيها دساتير ممنوحة تنص على وجود مؤسسات مهمة كالبرلمان والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية وتكريس مبدأ فصل السلط ومبادئ المحاسبة والمراقبة والحوكمة واللامركزية الإدارية وعدم التمركز الإداري وغيرها، ولكن الممارسة اليومية تؤكد أن هذا الوجود صوري وتكون معه ممارسة الحكم أبعد ما تكون عن الأسس الديمقراطية، أنظمة حكم يتحكم فيها الفرد الواحد أو العشيرة الواحدة أو الحزب الواحد أو الجيش مهما تعددت أسماء تلك الأنظمة من جمهوريات أو ملكيات أو سلطنات أو غيرها… وحينها يكون الحديث عن الحقوق أو الحريات والديمقراطية نسبيا، ففي بعض تلك الدول تسود أنظمة مغلقة كليا تنعدم فيها أدنى شروط الحياة السياسية الحقيقية، وفي بعضها الآخر تكون المؤسسات صورية تتوفر على هامش ضئيل لبعض الممارسات المتشبهة بالديمقراطية؛ حيث تكون الصحافة موجودة ومنصوص على حريتها ولكن تتماهى مع مؤسسات الحكم وتروج لطروحاته، والبرلمان مزورة انتخاباته يمارس عملية تشريعية شكلية، والقضاء فاسد ويخضع في مجمله للتعليمات… وقد حاولت جلها ترسيخ أفكار القائد الملهم والعادل، صاحبِ الرأي السديد، العبقري الذي يملك الحكمةَ والنباهة ويمثل صوت الحق والعدالة، وهو الضمير الحي والأب الرحيم للجميع والمؤسسات، وضامن أمن البلاد والعباد، والرائد في تجديد الفكر والبرامج، لدى شعوبها، وهو بالتالي يعمل خارج السلطة الزمنية وخارج إطار المراقبة والمحاسبة وفوق الدستور.

في قلب هذه المنطقة العربية تم غرس نبتة الكيان الصهيوني رسميا سنة 1948 من طرف بريطانيا التي كانت تحتل فلسطين ومباشرة بعد خروجها تم الإعلان عن إنشاء دولة “إسرائيل” لتندلع الحرب بين العرب والكيان الجديد، ورغم أن أغلب الدول العربية كانت تحت الاحتلال الأجنبي فقد خاضت الدول المستقلة منها الصراع مع الكيان الطارئ، وبغض النظر عن طريقة تدبيره للصراع معها فقد اعتمد الكيان الصهيوني “نظاما ديمقراطيا” برلمانيا للتداول على السلطة داخله ولخلق الانسجام بين الفسيفساء الطائفية والفكرية والدينية المختلفة المكونة له، والتي انحدرت من بيئات مختلفة المشارب الفكرية والإثنية يجمع بينها الجذر اليهودي أو الحلم الصهيوني فقط وتختلف في كل شيء، ويكاد يجزم المحلل السياسي والدستوري اعتبار هذا النظام “نظام حكم ديمقراطي” داخلي فقط يستفيد منه “المواطن الإسرائيلي” وحده دون غيره، لأن نظام الحكم في الكيان الصهيوني نظام فصل عنصري، وبتعبير المؤرخ اليهودي ألان بابي فهو نظام إرهابي وفق ما أشار إليه في كتابه (عشر خرافات عن “إسرائيل”) و الذي أفرد منه فصلا فند من خلاله كون دولة الاحتلال دولة ديمقراطية وحيدة في الشرق الأوسط، وأورد مجموعة من الأمثلة تؤكد أنها دائمة الاعتداء على حقوق الفلسطينيين، بالإضافة إلى التعامل غير الديمقراطي مع فلسطينيي 1948، عكس مناشدة بن غوريون وهو أحد مؤسسي الكيان الصهيوني والذي تعامل بعداء شديد مع المحيط الإقليمي العربي، إلا أنه بعد اثني عشر عاما من تأسيس الكيان أكد أنه لا يمكن لهذا الكيان أن يجد له قدما في المنطقة إلا عبر تكوين دولة تحتفظ بعلاقات طبيعية مع محيطها العربي وفق ما أورده المحلل عماد أبو إياد، لكن المناشدة شيء، والصهيونية شيء آخر، ويكفي لمعرفة بعض حقيقتها معرفة النهاية المؤلمة لابن غوريون وغيره من رؤساء الوزراء… والذين حوكم بعضهم وأودع بعضهم في مستشفى الأمراض العقلية رغم خدماتهم الكثيرة للكيان، وهو ما يؤكد أن الصهيونية أكبر من كل رئيس للكيان الصهيوني وأكبر مما نتصوره.

وقد استمرت علاقة العداء بين الكيان الصهيوني مع محيطه الإقليمي، عبرت عنها مجموعة حروب خاضها مع العرب ومجموعة مجازر في حق الشعب الفلسطيني واللبناني، لكن ومنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979 مع مصر، التي قسمت ظهر العرب ودشنت أول اعتراف عربي بدويلة الكيان الصهيوني، بدأ يظهر نوع من الانفتاح بين العرب والدولة المحتلة، ورغم البطء الذي تم تسجيله في هذا الاتجاه لشدة الحذر من الأطراف كلها رغم وجود تعاملات سرية على أكثر من مستوى مع بعض الدول، إلا أن الحادثة التي ستغير مجرى الأحداث نحو الانفتاح/الانحدار العربي هو توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني سنة 1993، والتي جعلت أغلب العرب ينتقلون من التعامل تحت الطاولة مع الكيان إلى الجهر بالعلاقات الثنائية رغم صفرية نتائج أوسلو والتفاف الكيان على مجمل بنود الاتفاقية وخصوصا المرحلة الانتقالية المقررة لمدة خمس سنوات، وصعود تيار اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو واستخدام سياسة “تدبير الصراع” عوض “حل الصراع” مع الفلسطينيين، وتدبير علاقاته مع العرب كل دولة على حدة حسب “حساباتها” توجت بتدشين علاقات مع أغلب الدول العربية ارتقت بعضها إلى درجة إبرام اتفاقيات التطبيع معه.

ويظهر أن اتفاقية أوسلو نقلت الصراع من مرحلة صعبة إلى مرحلة أصعب، فصار الفلسطيني لا يستطيع لوم العربي الذي يتعامل مع الإسرائيلي عبر التمثيل الدبلوماسي أو التمثيل التطبيعي، بحجة أنه لن يكون العرب فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وهنا وقعت الخديعة الكبرى، وهو ما سماه السياسي المصري عمرو موسى بـ”الخداع الاستراتيجي الكبير الذي تعرض له العرب”، فعوض أن يكون التطبيع ثمرة الحرب والسلام، والسلام الناتج عنه تكوين دولة فلسطينية، برز العكس تماما؛ فأصبح العرب يطبعون على أمل تكوين دولة فلسطينية، وعاش الجميع على هذا السراب، وفي المقابل فهمت “إسرائيل” التطبيع على أنه قبول لها بصهيونيتها وعنصريتها وسياساتها الاستيطانية وتجنبت الحديث عن الدولة الفلسطينية وتمادت في محاولة تصفية القضية الفلسطينية جهارا نهارا أمام أعين العرب الجاحظة.

ومع تمدد الطوفان منذ 19 شهرا ببشاعة مناظره وحجم جرائمه وعدد ضحاياه وخرق قوانين الأرض والسماء فيه، طرح السؤال الكبير والعريض من طرف الشعوب العربية مع من طبعت أو تريد الأنظمة العربية أن تطبع بعد هذا الهولوكست الذي توثقه كاميرات الكيان قبل غيره وتتبجح به قنواته؟ ووصل الجميع للخلاصة المؤلمة وفق أحد المحللين “أن العرب وهم يوقعون اتفاقيات التمثيل والتطبيع مع الكيان الصهيوني كانوا يذبحون أنفسهم على أبواب التاريخ”، حيث إنهم إن لم يكونوا عونا للكيان الصهيوني في حرب الإبادة الجماعية فقد كانوا صامتين خانعين خاذلين ذلك الفلسطيني المقاوم المنفرد والأعزل الذي انتصر على الكيان الصهيوني وداعميه المعلنين والسريين، وعوض أن يجد ذلك الدعم القليل من العرب والذي كان بإمكانه حسم الحرب زاد غيهم وانحدارهم ليس بلوم المقاومة فقط بل طالب بعضهم بنزع سلاحها.

صحيح أن التطبيع اخترق النظام العربي الرسمي في مجمله، وصحيح أن الطوفان كان لحظة للتأمل سواء من طرف الشعوب التي بادرت بعضها لشجب العدوان الصهيوني وأخرى كتم صوتها خنقا، وكان لحظة تأمل من طرف حكومات الدول المطبعة أو التي في طريق التطبيع، واقتنعت بصورة أو بأخرى أن التطبيع يفقدها الشرعية السياسية والتاريخية التي تستند إليها في الحكم، ويفقدها بشكل أخطر الشرعية الدينية في ظل استمرار العدوان الهمجي الذي أوقع الأنظمة العربية في الحرج لوجود روابط التاريخ والدم والدين والقداسة بين الشعوب العربية وفلسطين، والإيمان والمشاركة التاريخية لجل العرب في الصراع مع الكيان الصهيوني منذ بداية القضية وتبني القضية الفلسطينية من طرف الدول والشعوب والنخب في العالم العربي.

وليس الموضوع هنا للتحدث عن آثار الحرب والتطبيع على العرب حكومات أو شعوبا بل آثاره على الكيان الصهيوني، فبعد انطلاق العدوان الصهيوني تحركت العواصم العربية بالزيارات المكوكية بين العرب أو بين العرب وأمريكا، وفي هذا الصدد انعقد مؤتمر عربي إسلامي بالرياض، وقد توجه نتنياهو لهذا المؤتمر بخطاب بضرورة لزوم المؤتمرين الصمت، والغريب أن هذا المؤتمر لم يخرج بأي صيغة تدين الكيان قولا أو عملا، بعدها سيجد الكيان الصهيوني نفسه مرتاحا من الضغط العربي والإسلامي في محاولته سحق غزة تحت شعار اجتثاث الإرهاب والمقاومة واسترجاع الأسرى… وتوالت الأيام ثقيلة على الجميع ولكن تفاجأ الكيان الصهيوني من وجود تسهيلات كثيرة من العرب ماديا ومعنويا، مما جعله يتمادى في محاولة تدمير وإبادة غزة والمقاومة، وهنا ولأول مرة ستظهر بعض الوقائع لم تكن مسجلة في التاريخ أو سجلت كحالة ضيقة التطبيق بعد أن أقنع نتنياهو بعض العرب أن انتصار المقاومة الفلسطينيّة من شأنه تهديد أمن المنطقة كلها، وبرز ذلك في كثير من خطاباته وهو ما يعني وجود نوع من التماهي حول محاربة المقاومة أو “الإرهاب” على حد تعبيره، وكانت أولى نتائج هذه الوقائع المفجعة هو استعمال الكيان الصهيوني سلاح الجوع والعطش وقطع الماء والكهرباء والدواء تحت الحصار الشديد رغبة في تركيع غزة وحسم تصفية القضية الفلسطينية، وهذه سابقة في تاريخ العدوان لم تكن لتحدث لولا الضوء الأخضر من بعض العرب، وهو الأمر الذي كان له أثر سلبي وساهم في إقبار وتدمير السردية الصهيونية التي اعتمدت على ترديد سردية معينة وتسويق مظلوميتها وعلى ترويج حكاية الجيش الأخلاقي.

لقد أصاب التنسيق العربي الصهيوني الصهاينة في مقتل ولم يفكر فيه أي أحد من الطرفين، ذلك أن الرواية الصهيونية عرفت هزيمة غير مسبوقة طيلة 75 سنة بفعل هذا الهولوكست الموثق كشفت همجية الكيان الصهيوني، وهذا من بركات التطبيع مع العرب، وكلما زادت ضربات المقاومة كلما زادت حدة ممارسة هذا الحقد الأسود وازداد غرق الكيان سياسيا وعسكريا واستراتيجيا واقتصاديا واجتماعيا.

وقد وصف بعض صور مأساة التجويع الصحفي والمحلل سعد الوحيدي في مقال له منشور على الجزيرة نت في شهر فبراير 2024 تحت عنوان: “المجاعة في غزة.. هكذا يمارس الاحتلال إبادة صامتة ضد الفلسطينيين”. والذي جاء فيه: “بعد 48 ساعة من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، قراره بمنع دخول “الغذاء والماء والوقود إلى القطاع”، ليشكل هذا القرار اللحظة الفعلية التي بدأ فيها الاحتلال فرض حصاره التجويعي على قطاع غزة.
أغلقت إسرائيل جميع المعابر مع قطاع غزة الذي كان يدخله يوميا 600 شاحنة عبر معبر كرم أبو سالم، وظلت المساعدات الإنسانية التي تدفقت إلى مطار العريش المصري محتجزة لـ15 يوما كاملة، قبل التوصل إلى اتفاق أميركي مصري إسرائيلي لإدخالها بكميات لا تلبي 1٪ من احتياجات القطاع في الوضع الطبيعي… وسارعت المنظمات الدولية للانسحاب من شمال قطاع غزة، وتركت أكثر من مليون مواطن تحت سطوة آلة الحرب الإسرائيلية. بدأت المواد الغذائية بالنفاد التدريجي مع محاصرة الشمال من أركانه الأربعة، واستمرار منع دخول أي نوع من المساعدات إليه، والتدمير الممنهج للأحياء السكنية والأسواق والمتاجر والمخابز، وواجه المواطنون صعوبات جمّة في تعويض ما ينقص من إمدادات.

في الأسابيع الأولى، استنفد شمال القطاع مخزون بيوته ومحاله التجارية من المواد الغذائية، ولجأ المواطنون إلى البحث في البيوت المدمرة أو الخالية من السكان عن المعلبات أو المجمدات، ويروي بعض السكان كيف أنهم اضطروا إلى خلع أبواب المحال التجارية التي هجرها أصحابها بحثا عما يسدّ جوعهم وأفراد أسرهم، بعد نفاد مخزون الطعام لديهم. بدأت ملامح المجاعة تظهر على من تبقى من سكان شمال القطاع مع الإصرار الإسرائيلي على منع دخول أي مساعدات غذائية، في ظل موجات من القصف الجوي العنيف، ومواجهات برية شرسة مع المقاومة.” 

التأثير الثاني للتطبيع مع العرب والتعامل معهم هو جنوح نتنياهو نحو الاستبداد السياسي؛ فقد بادر لعزل كل من يعارضه بدءا بوزير الدفاع ورئيس الأركان وعدد من المسؤولين الآخرين ليختتمها بقرار إقالة رئيس الشاباك رونين بار، والذي عارضته المحكمة العليا الإسرائيلية وأصدرت قرارا بتجميد تنفيذ قرار إقالته، فقد عمد نتنياهو إلى تعيين شخص آخر رئيسا جديدا للشاباك، وهو إيلي شارفيت قائد البحرية السابق، والذي خدم في جيش الاحتلال الإسرائيلي لمدة 36 عاما، منها 5 سنوات كقائد لسلاح البحرية الإسرائيلية، بناء على حسابات شخصية وليس بناء على الأعراف المتوارثة باختيار رئيس الشاباك من الجهاز نفسه. ونقل عن المحلل والمتتبع للشأن الفلسطيني ياسر الزعاترة بوجود إجماع للمحللين على أن تعيين رئيس الشاباك بناء على الولاء قد يعرض النظام الديمقراطي والحريات العامة والحياة المدنية للخطر، وعزوا ذلك إلى الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها جهاز الاستخبارات في المراقبة وانتهاك الخصوصية وإجراء التحقيقات، وتأثيره على منظومة الأمن، وهي الصلاحيات التي من شأنها أن تخدم رئيس الوزراء وتوسع من سلطاته في مواجهة خصومه كلهم السياسيين والقضائيين وغيرهم، وهي كلها مؤشرات تدل على محاولة نتنياهو تغيير بنية الدولة العميقة في الكيان الصهيوني للتحكم في مفاصل السياسة في الدولة كما يفعل أصدقاؤه من حكام العرب.

وكخلاصة فإن إسقاط أي نظام حكم كيفما كانت طبيعته – دون الحديث عن الأسباب الخارجية – تبدأ بإسقاط الأسس التي قام عليها أو بعضها المهم، فقد يتعجب البعض من سقوط أنظمة كانت شديدة البنيان قوية الأركان مهابة الجانب، ولعل أقرب تجربة تاريخية تصدق هذه الرؤية هو سقوط دولة الاتحاد السوفييتي المدوي وحلفائها التاريخيين من دول أوربا الشرقية، ويرجع ذلك بالأساس إلى محاولة كورباتشوف اعتماد خطة إصلاحات سياسية سميت “البرويسترويكا” أو “إعادة البناء” تستهدف إدخال بعض المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في بنية نظام حكم استبدادي مغلق قائم على الشمولية وإلغاء الحريات العامة، فتم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإطلاق حرية الصحافة وغيرها… ولكن بعد مدة قصيرة تم سقوط تلك الدولة الحديدية التي كانت تمتد على مساحة تشكل سدس مساحة الأرض، ومعه سقوط نظام عالمي بكامله. وباستحضار هذه التجربة فإن توجه نتنياهو نحو الاستبداد السياسي ومحاولة فرض وجهة نظره وتقويض سلطة القضاء أو جعله تحت جناحه وضرب جهاز الشاباك الذي يمثل ركيزة الأمن والذي تم تأسيسه قبل قيام الكيان نفسه، وما يمثله هذا الجهاز في مخيلة “المواطن الإسرائيلي” من كونه جهاز يعمل على توفير الأمن القومي ويمثل الدولة العميقة في الكيان الصهيوني، الشيء الذي يفرض أن لا يخضع لمزاج السياسيين، ولذلك تحرص مختلف أنظمة الحكم في العالم على فصل القسم الأمني والعسكري عن السياسي وتسطر لذلك قوانين تمنع منتسبيه من الانخراط في الجمعيات والأحزاب السياسية أو الترشح للانتخابات نظرا لانعكاساته السلبية على الأمن القومي.

إن هذه الممارسات المستهدفة للقضاء والأمن والاستخبارات، والتي يحاول نتنياهو إدخالها قسرا على بنية “النظام الديمقراطي” إذا أضيفت إلى انهيار نظرية الردع أو نظرية الجدار الحديدي الذي أحدثه الطوفان، قد تعجل كلها بتفكيك الكيان الصهيوني.

ثالث التأثيرات هو أن نتنياهو كان لا يسمي الأسماء بمسمياتها، ففي مذكرات موشي ياتوم، العالم النفسي الإسرائيلي، الذي عالج أعقد حالات الأمراض العقلية، ولكنه انتحر بسبب احتكاكه مع نتنياهو في محاولة علاجه تاركا خلفه ملاحظة يقول فيها إن نتنياهو قد امتص الحياة منه، فالسرقة عند نتنياهو هي إنقاذ، والتمييز العنصري هو حرية، ونشطاء السلام إرهابيون، والقتل دفاع عن النفس، والفلسطينيون هم أردنيون، وضم الأرض تحرير لها… لكن مع العرب وبعد اطمئنانه “للشراكة” معهم وانفتاح العواصم أمامه سيتحدث عن رغبته في تغيير الشرق الأوسط وسيبسط أحلامه التوسعية بأسمائها ودون لف أو دوران، وسيتحدث نتنياهو وفريقه من زعماء الكيان الصهيوني عن رغبته في تغيير الشرق الأوسط وتلويحه بخرائط للمنطقة، وسيلاحظ المتتبع أن سقوط نظام بشار وكمون حزب الله لصالح الدولة بعد اتفاق الهدنة لا يبرر اندفاع الجيش الصهيوني في أراضي لبنان وسوريا، وهذه ثانية الخدع الاستراتيجية الكبرى التي مررها الكيان الصهيوني على العرب – قبل ابتلاعهم – بحجة وجود خطر كبير وهو محور الممانعة، وهذا التمدد في البلدين ومحاولة تهجير فلسطينيي غزة لمصر أفصح عن المستقبل التوسعي الاستعماري للكيان والكفيل بتهديد أمن واستقرار الدول المجاورة “الصديقة” وتهديد نفوذ الدول الكبرى التقليدية داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الأمر الذي استشعرته تلك الدول الكبرى وترجمته على أرض الواقع بتحجيم دعمها الكيان الصهيوني ومنها على سبيل المثال لا الحصر دولة فرنسا، بينما جل العرب في تطبيعهم ساهون وله داعمون..

تاريخيا كانت فرنسا أكبر الداعمين لقيام دولة الاحتلال عبر الدعم السياسي والعسكري والتسليحي وكانت وراء اكتسابها السلاح النووي وإنشاء مركب ديمونة النووي… وفي طوفان الأقصى كانت فرنسا أول الدول التي عبرت عن مساندتها للكيان الصهيوني عبر مؤسساتها وعبر لقاء الرئيس ماكرون مع نتنياهو وعبر خرجاته الإعلامية الكثيرة، بعد ذلك ستظهر بوادر موقف مختلف عن التوجهات السابقة، وسيبرر بعض المحللين السياسيين الأمر بكونه مراعاة للمسلمين الفرنسيين البالغ عددهم ستة ملايين مسلم مقارنة بعدد اليهود الأقل والذي لا يتجاوز نصف مليون يهودي في فرنسا، وتنامي الغضب والكراهية تجاه فرنسا في شعوب الدول الإسلامية، أو محاولة جر الحبل مع الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص الحرب الأوكرانية الروسية، ولكن رغم وجاهة بعض هذه الملاحظات فإن الدول الكبرى لا تلتفت لمثلها ما لم يكن الضرر والخطر حالا ومؤكدا، وهو ما استدعى النظر في الأضرار التي تلقتها فرنسا أو التي ستتلقاها حتما جراء تداعيات الطوفان الذي كشف مخططات التطبيع/التوسع الصهيوني، ومنها تضرر مصالحها الكثيرة في لبنان منها السياسية والتجارية والصناعية وامتيازاتها التي تحظى بها من الغاز اللبناني وغيره، زيادة على تضرر مصالحها في دول ومناطق أخرى بفعل التمدد الصهيوني عبر سياسة التطبيع مع الدول العربية والتي يمكن أن تهدد مصالحها الاستراتيجية الكبرى في شمال إفريقيا بل وفي إفريقيا كلها، وهو الأمر الذي جعل فرنسا وغيرها تتحرك ضد الكيان الصهيوني عبر التنديد باستمرار العدوان الصهيوني وآخرها زيارة ماكرون لمصر حيث خص مدينة العريش بزيارة خاصة، وهي التي تقع بجوار قطاع غزة، فوقف من خلالها على معاناة الجرحى الوافدين من غزة، وتلقى شرحا مطولا من طرف أحد الجنود الفرنسيين عن حجم الدمار وحجم القنابل الملقاة على القطاع ليصرح بضرورة إيقاف الحرب… وأن غزة ليست عقارا خاضعا للتجارة بل هي أرض بها سكان من حقهم العيش.

استمرارا في هذا النسق تتناول الفقرة الثانية لهذا المقال ظاهرة سياسية أخرى وهي “الظاهرة الترامبية” ومدى تأثير المزاج والتطبيع العربي على شخصية الرئيس الأمريكي الحالي، فمنذ مجيء دولاند ترامب على رأس إدارة الولايات المتحدة الأمريكية وهو يأتي بأفعال وتصرفات غريبة، وصلت إلى حد التناقض، جعلت المتتبع يسأل عن الحالة النفسية والعقلية لهذا الشخص، وفي نفس الوقت ساءلت النظام الديمقراطي في أمريكا، وقد اعتبرها البعض عادية في إطار تجريب مجموعة نظريات في إطار الممارسة السياسية كنظرية الفوضى الخلاقة التي سبق تطبيقها أو تطبيق جزء منها، أو في إطار نظريات جديدة تتمثل في نهج التفاوض المبني على الضغط بتطبيقه أسلوب إدارة الأعمال في مجال السياسة، أو في إطار نظرية جديدة أخرى لم تتضح بعد، لأن الأمر يتعلق برئيس دولة كبرى تتعامل وفق ما يقتضيه عمل المؤسسات والدراسات الدقيقة من أجل الوصول إلى هدف معين، ومهما يكن من تحليل يبرر تصرفاته أو ينكرها فالكل يتفق على بعض البديهيات، وفي هذا الخضم تمت دراسة تصرفات وأفعال دونالد ترامب والتعليق عليها من أطراف مختلفة، منها تصريحاته حول قناة بنما وكندا وكرينلاند والمكسيك، ناهيك عن تصريحاته حول غزة وريفيرا الشرق الأوسط والتهجير، وكلها تضرب في القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وسيادة الدول.

وأخيرا – وهو موضوع هذه الفقرة – تصريحه الملفت والذي سبق أن تفوه به مرارا حول نيته الترشح لولاية رئاسية جديدة وهي المرة الثالثة في مسيرته السياسية رغم أن دستور أمريكا حسم الأمر ومنعه منذ سنة 1951 وفق التعديل الثاني والعشرون لدستور الولايات المتحدة الأمريكية، الذي تم اعتماده، ويحدد بوضوح عدد الفترات الرئاسية المسموح بها وينص هذا التعديل على ما يلي: “بناءً على هذا التعديل، لا يمكن لأي شخص أن يشغل منصب الرئيس لأكثر من فترتين رئاسيتين، سواء كانت هذه الفترات متتالية أم لا. حتى وإن تم تعديل الدستور في المستقبل، فإن أي تغيير لن يكون ساري المفعول بأثر رجعي، وبالتالي لن يؤثر على الفترات التي شغلها الرئيس السابق”.

ولمحاولة فهم كل هذه التصريحات يظهر أمران مؤثران يهددان منظومة القيم ومبادئ الثورة الأمريكية في هذه المرحلة؛ هما تأثير الصهيونية كمشروع شوفيني عنصري على صناعة القرار الأمريكي، ثم تأثير الاستبداد السياسي العربي على شخصية ترامب.

إن الديمقراطية الأمريكية تعد من النظم الديمقراطية العالمية العتيدة في تسيير شؤونها الداخلية، وقد تأسست بفضل كفاح الشخصيات المؤسسة وتضحيات الشعب الأمريكي عبر الثورة الأمريكية؛ التي أرست مبادئ كبرى وأسست لنظام ديمقراطي رئاسي يعتبر من أعرق النظم الديمقراطية العالمية، لكن رغم قوة هذا النظام فهو يحمل في طياته أسباب هلاكه ومنها سريان الروح الصهيونية على الجسم الأمريكي، والتي تعتنق المذهب البروتستانتي الذي يجعل من أبجدياته الإيمانية أن يسيطر اليهود على فلسطين والقدس لمدة ألف عام، الشيء الذي من شأنه أن يعجل بنزول المسيح في القدس؛ وهو ما يجعل فئة كبيرة تسعى لخدمة هذا المشروع بدوافع دينية ودوافع أخرى. وقد سيطرت الصهيونية على مزاج السياسيين هناك، ذلك أنها تنطلق من منطلق بسيط وهو أن يكون لليهود وطن يجمعهم، ولكنها وهي تتكرس على أرض الواقع كانت بداية لاستعمار أرض شعب آخر، وكلما تعمقت في ممارستها تجردت من مكياجها وقشرتها الإنسانية، وقد اتضح ذلك جليا عند بروز بوادر هزيمتها؛ فانفضحت منها قيم الكراهية والقتل والتدمير ومخالفة كل القوانين والشرائع تجاه من تحتلهم ومن يعارضها، وهو ما يجعل منها وسيلة للضغط على الديمقراطيات التي تساندها من أجل مساندتها في العدوان، وهكذا لن يجد المتتبع أدنى صعوبة في تصنيف أفعال وتصريحات الرئيس الأمريكي بترحيل سكان غزة أو الاستيلاء عليها، إجراء يدخل ضمن أجندة التطهير العرقي ويشكل في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية، ويتناقض كليا مع القيم الإنسانية والكونية، ويضرب في عمق التصور الديمقراطي الأمريكي.

إن حديث ترامب عن رغبته في ولاية ثالثة أو تأبيد حكمه ناتج في جزء كبير منه عن الاحتكاك والتعامل مع الأنظمة العربية والتي في مجملها استبدادية، وهذا ناتج عن التطبيع معها، والغريب وعوض أن تؤثر الديمقراطية الأمريكية على بنية التفكير السياسي العربي حدث العكس وهو ما حدا بترامب إلى جنوحه نحو الاستبداد السياسي، وسيلاحظ القارئ الكريم أنه سبق لترامب أن لمح أنه يغبط الملوك العرب وأبدى رغبته أن يصبح ملكا.

وقد جاء في صحيفة الإيكونوميست البريطانية، بتاريخ 22 فبراير 2025 مقال بعنوان “دونالد ترامب: الملك المحتمل”، يستعرض الأسلوب الذي يتبعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إدارة البلاد خلال أول شهر له في المنصب، ويتّهم المقال ترامب بأنه يعمل على تقليص دور الكونغرس وهيئة القضاء في اتخاذ القرارات، ويقول إن “ترامب يتجاهل السلطة التشريعية، ويحكم بموجب مراسيم.. ولأن بعض أوامر ترامب التنفيذية تبدو غير دستورية، فيبدو أنه يسعى إلى اختبار قوته مع القضاء”. وترى الصحيفة في مقالها أن ترامب يسعى لتوسيع سلطاته بشكل كبير، ويبيّن أن “كل تصرف يقوم به يثبت اعتقاده بأن السلطة منوطة به شخصياً. والإدارات الحكومية أصبحت في حالة من الارتباك، لإظهار السلطة الشخصية لترامب عليها”. ويحذر المقال من أن تركيز ترامب على سلطته الشخصية قد يؤدي إلى أزمة دستورية أو حتى التحول إلى نظام حكم استبدادي “استبداد ترامبي”، و”قد يدمر الحكومة الفيدرالية، أو يحطم التحالفات التي تحافظ على قوة الغرب”. وبحسب المقال ذاته فإن الطرق التي يعتمدها ترامب قد تعرض النظام السياسي للخطر، حيث جاء فيه: “إن العلاج بالصدمة البيروقراطية من شأنه أن يجلب الكثير من الضرر قبل أن يجلب أي فائدة”.

وكانت قد قامت القيامة في ولاية نيويورك بعد نشر صورة لترامب يحمل على رأسه تاجا وسمى نفسه الملك، وفق ما جاء في مقال تحت عنوان “ترامب الملك” نشر بسكاي نيوز العربية بتاريخ 20 فبراير 2025، وذلك بعد قرار إدارته بإلغاء خطة فرض رسوم الازدحام في مدينة نيويورك. وأعاد البيت الأبيض نشر المنشور مرفقا بصورة تم إنشاؤها باستخدام الذكاء الاصطناعي تظهر ترامب مبتسما على غلاف مزيف لمجلة “تايم”، وهو يرتدي تاجا ذهبيا، وخلفه صورة لمدينة نيويورك. وردا على تصريحات ترامب، أصدرت حاكمة نيويورك كاثي هوشول بيانا قالت فيه: “نحن أمة تحكمها القوانين، وليس بحكم ملك”، كما أدلت بتصريحات لوسائل الإعلام، قالت من خلالها هوشول: “لم تعمل نيويورك تحت حكم ملك منذ أكثر من 250 عاما، ولن نبدأ الآن، إذا كنت لا تعرف النيويوركيين، فنحن سنقاتل. لن نتراجع أبدا”.

وحتى تتضح الصورة أكثر فقد جاء في صحيفة بي بي سي نيوز بالعربي بتاريخ 26 مارس 2025 ما يلي: “نستهل جولتنا مع صحيفة نيويورك تايمز، ومقال بعنوان “هل يريد ترامب أن تشبه بلاده الدول الخليجية”، للكاتب كوين سلوبوديان. ويسعى الكاتب في مقاله إلى تحليل ورصد تصورات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاقتصادية والسياسية، وتقديم مقارنة بين رؤيته الاقتصادية وإدارته، وبين نماذج اقتصادية أخرى مثل نموذج الدول النفطية في الخليج العربي، ويسلّط الضوء على جوانب من سياسة ترامب التي تشبه تلك التي تتبعها الأنظمة الاستبدادية ذات الثروات النفطية، وفق ما وصفها الكاتب، وكيف أن رؤيته قد تتضمن ملامح من “التكنو-رأسمالية الاستبدادية”، التي تجمع بين التركيز على الطاقة، والاستثمار في العقارات والرياضة الفاخرة، وتعزيز السلطة المركزية.”

وتحقيقا لكل هذا شرع ترامب في تفكيك بنية الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصا قسم الاستخبارات، عبر تقليص مواردها البشرية وصلاحياتها القانونية، فقد جاء في مقال مترجم عن الكاتب محمد السعيد بصحيفة الجزيرة نت تحت عنوان: “لماذا تخيف عودة ترامب وكالة الاستخبارات الأمريكية؟” نشر في بداية الولاية الثانية لترامب مؤرخ في 22 فبراير 2025 وهو منشور بمجلة “فورين أفيرز” يعكس بيتر شرودر، العضو السابق في الهيئة التحليلية العليا في وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وعضو مجلس الاستخبارات الوطني في الفترة من 2018 إلى 2022، هذا الشعور، حيث جاء فيه: “ومع تنصيب ترامب رئيسا للمرة الثانية، من المرجح أن يشعر مجتمع الاستخبارات بالقلق مجددا. وفي ظل وجود فريق إداري أكثر تنظيما واستقرارا، كان الأمل هو أن الرئيس سوف يسخر مجتمع الاستخبارات لتأمين الوطن والمصالح الأميركية في الخارج، لكن ترشيحاته حتى الآن لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية، ومدير الاستخبارات الوطنية، ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي تشير إلى أنه يعطي الأولوية للولاء على الخبرة. وبدافع من الضغائن السياسية، هناك مخاوف من أن يشن ترامب هجوما شاملا على ما يسمّيه “الدولة العميقة” وهي – وفقا لاعتقاد الرئيس – مجموعة سرية من البيروقراطيين الحكوميين الذين يتعاونون لعرقلة أجندته، ومنهم الضباط الذين يتجسسون بشكل غير قانوني على الأميركيين ويسربون المعلومات إلى وسائل الإعلام”.

ولعلّ البعض يقول إنه سبق للولايات المتحدة الأمريكية أن عاشت فترة من حياتها السياسية مثل هذه الأوضاع الشاذة، وكان ذلك إبان الحرب الباردة وإبان التمدد السوفياتي والشيوعي في العالم، فظهرت شخصية مارقة وهو السيناتور جوزيف ماكارثي ووجد سندا له في حملة الشطط في شخص مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي وقتها جيه إدجار هوفر، والذي أنشأ لجنا لمطاردة كل من يعتنق المذهب الشيوعي أو يشتبه فيه، وقد حوكم الكثير من المثقفين وفصلوا من عملهم، وهو نفس منطق ترامب في هذه اللحظة الذي استعان بإلون ماسك؛ يقول الكاتب الفلسطيني نبهان حريشة في مقال له تحت عنوان أمريكا “من المكارثية إلى الترامبية”: “ومن مظاهر الترامبية على النمط “المكارثي” حملات الترهيب ضد كل من تسول له نفسه إدانة الحرب الوحشية على غزة. وكما كان السؤال الأكثر رعبا للمواطنين الأمريكيين في الحقبة المكارثية “هل أنتَ شيوعي، أو كنت شيوعياً يوماً ما؟ فإن السؤال المطروح في الحقبة الترامبية اليوم “هل تدين حماس؟”، بالإضافة لملاحقة الناشطين في الجامعات الأمريكية ضد الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية بتهمة اللاسامية”.

وقد يتفق الكثير مع هذا الطرح للتشابه الحاصل بين الفترتين وليس ذلك من منطلق الصدفة، بل إن ترامب هو تلميذ وصنيعة روي كوهين وكان يستعين به في شبابه، وروي كوهين هذا لن يكون سوى ذلك المحامي الذي عمل مستشارا لماكارثي، ولكن الاستغراب الأشد هو إن كان لمكارثي وفريقه فزع من المد الشيوعي فهو منطقي إلى حد ما نظرا للقوة المادية والعسكرية لموسكو ولحلفاء موسكو حينها، لكن أن يكون هوس ترامب بحماس وبكل ما ينتسب لحماس وهي تلك الحركة الصغيرة بمنطق العدد والعدة فذلك هو المستغرب، إلا إن كان هناك استشعار بقدوم ما هو خطر أكبر أو هو مقدمة لشيء أكبر، لكن ما يجب التأكيد عليه أن ما يحدثه ترامب في بنية الدولة الأمريكية وجنوحه للاستبداد شيء غير مسبوق في الداخل الأمريكي، لأنه يسبق بكثير مجرد حملة مسعورة على أشخاص في مرحلة الإرهاب الماكارثي، وإذا أضيف إلى انسحابه من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وكذا من اتفاق باريس للمناخ وسحب الدعم الأمريكي لوكالة الأونروا وفرض الرسوم الجمركية وابتزازه المالي لرؤساء وملوك واستقباله المخزي لبعض رؤساء الدول ومعاقبة موظفي وقضاة المحكمة الجنائية الدولية واقتراحه تهجير الفلسطينيين من غزة، إضافة إلى انحيازه لأفعال نتنياهو الإجرامية، ستكون لها تأثيرات عميقة وجد قوية على بنية الدولة الأمريكية وفق نفس التحليل الذي قيل عن سقوط الاتحاد السوفياتي سنة1991 أعلاه، وسيكون لها تأثيرات عالمية ستقوض ما تبقى من قيم الإنسانية والسلام، وقد تقود إلى نهاية مرحلة النظام العالمي الحالي.

إن أكبر غلط أو تغليط وقع فيه العرب وهم يتصهينون أكثر من الصهاينة هو اتفاقهم المبدئي مع نتنياهو في تصوير حماس أنها تمثل خطرا إرهابيا على دولة الكيان وعلى “دول الاعتدال”، وعلى تصويره أنه يدافع عن “الحضارة” الغربية ضد “الإرهاب”، وغلب عليهم ظنهم أنه بعد القضاء على حماس أو المقاومة الفلسطينية سينعمون بطمأنينة الحال ويتخلصون ممن ينغص عليهم راحتهم وهو ما يحاولون معه حسم الأمر بسرعة، والواقع أن هذه المقتلة العظيمة التي ارتكبها الكيان الصهيوني في حق شعب فلسطين المحاصر والمحتل بمباركة جل العرب، لها ما بعدها، لأنها ساههت في إنهاء جميع الأكاذيب “الجميلة” حول الصهيونية وحول التطبيع، كما أنها أفقدت جل الأنظمة العربية ما تبقي لها من الشرعية التاريخية أو الدينية التي كانت قد اكتسبتها عبر التصدي للمحتل أو عبر التصدي للكيان الصهيوني أو غيرها من ركائز شرعية حكمها وهي التي جعلتها مقبولة لدى شعوبها رغم فساد حكمها، أما وقد فقدت شرفها – مهما كانت المسوغات – ومدت يدها للمحتل الغاصب الذي انتهك جميع المقدسات وأراق أنهارا من الدماء فإن مستقبل تلك الأنظمة على المحك وعلى “كف عفريت” ما لم تصحح البوصلة قبل فوات الأوان لأنها فقدت مقومات الاستمرار في الحكم، والمطلوب من المقاومين للمد الصهيوني، كل من موقعه، وعلى رأس المطالب كما جاء في مقال للكاتب سيف الدين عبد الفتاح في مقاله تحت عنوان: “التصهين العربي.. حالة على طريق الخيانة”: “التفكير بجدية في مسألة التأسيس الشرعي لهذه الحالة المتصهينة المقترنة بعمليات التطبيع والأحكام الشرعية المتعلقة بها…”، وإن هذا التأسيس الشرعي من طرف الفقهاء والعلماء والأصوليين.. يشكل جوهر المعركة، بالإضافة لجميع أصناف المقاومة الممكنة من طرف الشعوب والنخب.. وإن التصدي لهذه المستجدات واجب على كل شخص، وفي هذا الصدد يقول الإمام عبد السلام ياسين في مرجع سيذكر لاحقا: “فينبغي للمسلمين أن يحسُبوا لكل متجدد في كون الله عز وجل حسابَه”.

إن التحدث عن هرولة العرب وظاهرتي ترامب ونتنياهو واندفاعاتهما تحيل إلى التأمل في التاريخ البشري قديمه وحديثه ليدرك المرء أن ظواهر الحركة البشرية تعطي نتائج متوقعة وأحيانا كثيرة غير متوقعة وتكون عكسية تماما، بمقتضى ذلك الفعل الذي يتسرب خفية ليسري في أعماق الأفراد والشعوب والمجتمعات والدول، ليحدث تلك التحولات الجذرية فتبدل الأرض غير الأرض والبشر غير البشر، وتحدث زلزالا في طرق التفكير والممارسة فتبدل وجه الحياة والمجتمع والبشر، بمنطق فعل الله تعالى في الكون وبنفَس احترام نواميسه وفق سنته تعالى، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الفتح: وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وفي هذا الصدد يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في أحاديث في العدل والإحسان من محاضرات الإمام المجدد عبد السلام ياسين، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول، الطبعة الثانية 2021م، إعداد رشيد حليم، ص: 25 – 26: “ما وعدَ الله سبحانه وتعالى بالاستخلاف والتمكين في الأرض القاعدين الهاربين مما وضعه الله عز وجل من نواميس تضبط هذا الكون الواسع، وما وضع من قوانين تحكم المجتمعات البشرية. يجمع هذه القوانينَ قولُ الله عز وجل: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وفي آية أخرى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا. وليكون فعلنا صالحا ومؤثرا لا بد لنا من معرفة نفوسنا فردا فردا. لا بد لكل فرد منَّا أن يعرف نفسه، هل هو ماضٍ في التقرب إلى الله عز وجل، أم أنه يخبِط على غير هدى؟ لابد لنا من معرفة نفسنا الجماعية من جذورها التاريخية، عبر تطور الأحداث في زمن الفتنة، ثم لا بد لنا أن نعرف تاريخ الشعوب وتاريخ العالم الذي نعيشه وتقلباتِه المفاجئةَ في الوقت الحاضر. ففي آخر القرن العشرين من تاريخ النصارى وفي مستهل القرن الخامس عشر، قرن الخلافة الثانية على منهاج النبوة إن شاء الله تعالى، ظهرت تقلبات مفاجئة مذهلة، انتهت الاشتراكية وانتهت فكرتها واعترف أهلها بخيبتها، وانتهت المنافسات بين كتلتي الغرب والشرق”.