تعرَّضْتُ للإغلاق يوم الخامس من فبراير سنة 2019، ومُنع أهلي منذ ذلك الوقت من معانقتي، فبقيت وحيدا أعزل لا يراني ولا يزورني، أو بالتعبير الأنسب؛ لا يفعل فعلته إلا من تغاضت عنه “السلطة” بما لا يراه غيرها تحت نظر الله المطلع على خائنة الأعين.
منع أهلي من دخولي أول الأمر، بعد ذلك سعت السلطة للحصول على قرار لا يهم فيه التوصيف بقدر ما يهم التبرير، ولم تبلغه لأهلي إلا بعد مرور يوم كامل. فمتى رأيتم في دولة الحق والقانون أن إجراء مثل “إغلاق بيت في وجه أصحابه” يحصل دون إذن قضائي سابق وبمبررات قانونية وواقعية معقولة؟!
يحكي بيتٌ كائنٌ بحي الحداوية بمدينة الدار البيضاء قصة يوم جُرِّدَ فيه من ساكنته، ونُغصِت سكينته، واستباحت حرمتَه وجوهٌ وأرجل لم يألف غلظتَها، لم يسبق أن رآها منذ سنة 2002، حين اقتناه صاحباه الدكتوران عبد الكبير حسيني وصهره إبراهيم دازين، اللذان يستحضران معه بكثير من الأسف قصتهما الحزينة من الجانب الآخر عن هذه الواقعة التي طالتهما، كون بيتهما الذي يدخل في ملكيتهما الخاصة، تعرض للإغلاق بدون حضورهما وبدون إذن صريح من القضاء، وإنما فقط بقرار إداري وقّعه العامل، الذي ناب عن القضاء في مخالفة صريحة للقانون.
قرار إداري متطاول على صلاحيات القضاء.. والأخير أغمض عينيه؟
يسترجع صاحبا البيت حدث الاقتحام والإغلاق “بشكل هستيري هتشكوكي بكثير من القوات الأمنية والبوليس والتدخل السريع، كأنه وكر إجرامي لأخطر المجرمين لتشميعه دون سند قانوني ودون حضورنا، وكأنهم يبحثون عن المتفجرات”. كما يستحضران، وهما يحكيان لبوابة العدل والإحسان، الوقائع آثار هذا الإغلاق الجسيمة على العائلة التي “تملك بيتا بالدار البيضاء في موقع مهم، وبين عشية وضحاها لم تعد تستفيد منه، ولم يعد لديها الحق لتستغله أو لتبيعه. تنظر إليه من بعيد فتتذكر سنواتها التي خلت وكأنها لم تكن، ولم تجد سبيلا حتى لتأخذ أغراضها التي احتجزت هناك”.
قرار الإغلاق اتخذه العامل على أنه “إغلاق تحفظي” ريثما يقول القضاء الزجري كلمته بعد اطلاعه على وقائع الملف، لكنه هو الآخر للأسف لم يقل تلك الكلمة و“أغمض عينيه” عما ينبغي أن يراه، ويقول في ضوئه كلمة واضحة، ويُفَعِّل صلاحياته التي يخولها له القانون، كما ذكر ذلك الأستاذ حسن السني عضو دفاع صاحبي البيت.
فالذي أغمض عنه القضاء الزجري عينيه في رواية الأستاذ المحامي، هو أن العامل الذي أصدر قرار الإغلاق، استند إلى محضر المعاينة الذي أنجزته قائدة السلطة في منطقة عين الشق، ويفيد هذا المحضر في النهاية وجود ثلاثة أنواع من المخالفات لا علاقة لها أصلا بالموضوع الأساس الذي هو الإغلاق، “وإذا رجعنا إلى هذه القوانين الثلاثة بالتفصيل لن نجد فيها أي مستند أو فصل أو بند يخول العامل أو أي سلطة كانت، الحق في اتخاذ تدبير الإغلاق” وهذه القوانين الثلاثة كما جاءت في المذكرة الجوابية، مرتبطة بقانون التعمير، والتجمعات العمومية، وإقامة الشعائر الدينية.
“قانون التعمير” الشاهد البريء الذي زُج به في “قرار مبيت”
فوجئ صاحبا البيت بحكم للقضاء الزجري، يقضي بغرامة 100 ألف درهم لكل واحد منهما في مخالفات البناء مع إزالة البناء المخالف طبقا لفصول قانون التعمير، بناء على محضر المعاينة الذي يشير إلى نوافذ غير موجودة في التصميم الأصلي، وحائط آخر تمت تعليته إلى آخره من هذه التفاصيل… “ولم يكن في علمه أن البيت تعرض للإغلاق”. معنى هذا أنه توصل بمحضر فيه مخالفات في البناء فأصدر حكمه في هذه المخالفات فقط بمنأى عن موضوع الإغلاق الذي لم يضمن في محضر المعاينة. ولنذهب أبعد من ذلك، يضيف المتحدث “إذا أردنا تنفيذ الحكم وإزالة البناء المخالف للتصميم، كيف السبيل إلى ذلك والبيت مشمع ومغلق؟!”.
أما رواية صاحبي البيت فهي كاشفة بصورة أبلغ، ذلك أن هذا البيت “اشتريته أنا وصهري الدكتور إبراهيم دازين سنة 2002 وهو مكتمل البناء أصلا ولم نكن نحن من بنيناه، لماذا لم تظهر هذه المخالفات في البناء إلا اليوم بعد مرور 17 سنة، أمر غريب ولا يصح؟” يقول الدكتور حسيني. وفضلا عن هذا فإن التساؤل الذي يطرح نفسه، هل مخالفة قانون التعمير تكفي مسوغا للإغلاق في وقت يقر فيه هذا القانون نفسه بأن أقصى ما يمكن الحكم به في هذا النوع من المخالفات هو الغرامات المالية فقط، وليس هناك أي تدبير مرتبط بالإغلاق سواء تحفظيا أو جزاء يمكن أن يوقعه ضابط الشرطة القضائية الذي أجرى المعاينة. هذا إذا سلمنا بوجود مخالفات في البناء أساسا.
قانون “التجمعات العمومية” شاهد على “الملكية الخاصة” للبيت المغلق
من مرتكزات قرار السيد العامل لإغلاق البيت بناء على محضر المعاينة، وكما تضمنته أيضا المذكرة الجوابية؛ قانون التجمعات العمومية، بما يفهم منه أن هذا المكان مفتوح في وجه العموم، فهل يا ترى استطاعت القائدة أن تدلي في محضرها للمعاينة بوثيقة إثبات واحد تفيد وجود تجمعات عمومية في البيت؟ أو وجود حالة تلبس لأشخاص عوام لا صلة لهم بأصحاب البيت مثلا؟
هذا الافتراض ينفيه واقع الحال مطلقا، لأنهم لما حضروا لتشميع البيت “وجدوه مغلقا أساسا، فطرقوا الباب وفتح لهم الحارس ثم لم يسمحوا له ثانية بالدخول” كما يحكي حسيني صاحب البيت، ولم يعرف بعد ذلك ما فعلوه في الداخل. وهذا دليل على أن هذا المكان ليس مكانا للعموم بل هو “بيت خاص في ملكية خاصة لمواطنين مغربيين”.
وما يتعلق بهذا القانون هو نفسه يتعلق بالقانون الذي قبله ليس فيه ما يخول صلاحية الإغلاق لهذه السلطات، وما يعاقب به هو الغرامات، لكن ما يهم في هذه المسطرة بصرف النظر عن تلك المخالفات، هو موقف القضاء من الإغلاق أولا وهل هو موافق للقانون أم لا؟ قبل الحديث عن إثبات مخالفات البناء أو غيرها من هذه الافتراضات “لأن الموضوع المهم والأساسي هو حق هؤلاء المواطنين المغاربة وحرمانهم من استغلال البيت” وفق المحامي الذي مثل لذلك بشخص يحال على المحكمة في القضاء الزجري من أجل أفعال يفترض أنها مخالفة للقانون، ولكنه يتابع في حالة اعتقال احتياطي، فيتساءل الأستاذ المحامي: “هل يمكن لهذا القاضي أن يغمض عينيه عن الاعتقال الاحتياطي لينظر في الأفعال هل ثبتت أم لا ليعاقبه بغرامة أم عقوبة أخرى؟! فهو أصلا معتقل وعلى القاضي أن يعطي موقفه أولا من واقعة اعتقاله هل هو قانوني أم لا، ثم بعد ذلك ينظر في الأفعال المنسوبة إليه هل ثابتة أم لا؟”.
إذن فأبسط الحقوق التي يرى المحامي ضرورة تقديمها لهؤلاء المواطنين لو كنا في دولة الحق والقانون هي أن يوضح لهم القضاء هل هذه الإجراءات التي اتخذت موافقة للقانون أم لا. لكن ولأن ذلك لم يحصل “فإن القضاء الزجري في هذا الشق قاصر جدا، ولم يستعمل جميع صلاحياته القانونية”.
“ظهير إقامة الشعائر الدينية” شاهدٌ عدلٌ للأماكن التي لا يحكمها
يؤكد الأستاذ السني أن ظهير إقامة شعائر الدين الإسلامي، لا ينطبق تماما على هذه النازلة، لأن هذا البيت بيت سكني بملكية خاصة، لكن إذا كانت بعض مرافقه مهيأة لإقامة الصلاة مثلا، فأليس للمغاربة الحق في تهييء بيوتهم حسب أذواقهم؟ يتساءل المتحدث ثم يضيف “هناك من له ميول ديني يريد لبيته أن يتوفر على فضاءات للصلاة، كما أن هناك من له ميولات رياضية يريد لبيته أن يتوفر على فضاءات رياضية ومسبح مثلا وغير ذلك كثير ولا يعقل أن تعاين الجميع لتطلع على ما يفعلونه في بيوتهم لأن هذه الحياة خاصة بأصحابها”.
وقد جاء في محضر المعاينة وفق حديث المحامي، أن “الباب مغلق” أي طُرِق الباب وأُغلِق، وهذا دليل على أنها ليست أماكن للعموم، وليست أماكن تقام فيها شعائر دينية من طرف العموم. فليس في القانون ما يمنع صاحب البيت إذا أراد أن يصلي مع عائلته ومدعويه، لأن القانون يمنع فتح هذه الأماكن التي تقام فيها الشعائر الدينية للعموم.
لم ينكر صاحبا البيت وجود ركن للصلاة، بل يدافعان عن حقهما وكامل حريتهما في عبادة الله فيه وإقامة الصلاة فيه اتباعا لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وروايتهما متطابقة في هذا الشأن “نعم بيتي فيه ركن للصلاة وهو مسجد، ولكن ليس بمنطق دور العبادة التي تكون مفتوحة للعموم ويتاح للجميع الدخول إليها، شيخنا جزاه الله خيرا قال لنا اتخذوا بيوتكم مساجد، نعم اتخذناه مسجدا لنا ولأسرتنا وأبنائنا وليس للعموم”، يقول دازين، ويضيف حسيني في هذا الصدد “ليس هناك لا صومعة ولا يرفع آذان هناك، والبيت مسدود وقد وجدوه أصلا كذلك، لكن إذا زارنا أصدقاؤنا وأدركتنا الصلاة في البيت فنحن نصلي في البيت لكننا لا نرفع الآذان ولا ننادي العموم للصلاة معنا، وكل ذلك مبررات واهية ليس لها سند قانوني”.
“محضر المعاينة” منطلق القصة الذي تسبقه “دوافع”
يبدو أن القصة كلها انطلقت من محضر المعاينة التي أجريت بواسطة لجنة مختلطة شارك فيها القسم التقني للعمالة ثم القائدة ثم المجلس العلمي لعمالة عين الشق. وبعدها بدأت فصول معاناة هذا البيت. لكن ما الدافع إلى إجراء هذه المعاينة بالأساس؟ سؤال نجيب عنه في نهاية القصة.
في ملاحظاته على هذه المعاينة، أكد الأستاذ السنّي أن الإجراءات المرتبطة بها تبين أنها جرت بدون تنسيق مع الهيئات القضائية، أي أن القائدة مباشرة توجهت إلى البيت واقتحمته وأخذت تعاين محتوياته، “وهذا الأمر مخالف لقانون التعمير وقانون المسطرة الجنائية لأن المعاينة لا تجرى بهذا الشكل”، خاصة وأن المسكن يوفر له الدستور المغربي حماية خاصة لا من خلال الفصل 21 ولا من خلال الفصل 24 اللذين يتطرقان للحق المقدس في الملكية وحرمة المسكن، “وبالتالي فالمعاينة بهذا الشكل هي خارج إطار القانون”.
وبالرغم من ذلك فإن المسطرة الزجرية الجنحية التي أدت إلى الحكم بالغرامة بادر بها وكيل الملك من خلال الشكاية التي أحيلت عليه من قبل القائدة بناء على هذه المعاينة، وتتعلق بمخالفة البناء وفق روايتها، وهذه المسطرة اعتيادية.
بيت بريء زجت به السلطات في تصفية “حساب سياسي”
البيت كما يقول أصحابه ومن يتضامن معهم تعرض لأكبر خرق لحق من حقوق الإنسان من قبل السلطات المغربية، وهو حق امتلاك بيت يأوي أسرة. أسرة حرمت في لحظة من بيتها لأسباب أوضحنا جزءا منها في هذه القصة، فهل يا ترى هذه هي الأسباب الحقيقية أم أن هناك أمورا أخرى تختزل حقيقة ما جرى؟
من شأن التقصي، أن يجعلنا نلتمس الطريق نحو حقيقة هذا الإغلاق وأهدافه وسياقه أيضا، وهي أن صاحبي البيت ينتميان إلى جماعة “العدل والإحسان” وهي من القوى الحية المناهضة للفساد والاستبداد في هذا البلد، ومن القوى المعارضة التي تمتلك مشروعا مجتمعيا يعتبر ملاذا أخلاقيا وسياسيا لشباب هذا الوطن، وقد رفعت شعارات منذ تأسيسها؛ لا للسرية لا للعنف لا للتبعية للخارج، بهدف طمأنة هذا المواطن الذي يصبو إلى العيش الكريم والكرامة والعدالة الاجتماعية، كما يقول عبد الحق الشردادي القيادي في الجماعة في الدار البيضاء، وعضو اللجنة المحلية للتضامن مع صاحبي البيت المشمع بالمدينة نفسها.
الدكتور دازين يتحدث ضمن هذه القصة عن “توظيف القضاء والقانون لتصفية الحسابات مع خصوم مسالمين”، وعلى رأسهم جماعة العدل والإحسان التي لم تقدم إلا الخير لهذا البلد ولهذه الأمة، ويحاربونها لأنها رفضت أن تدخل إلى بيت الطاعة، وتدعو إلى محاربة الفساد، وإلى التوزيع العدل للثروة، وإلى عدم الجمع بين الثروة والسلطة، وتدعو إلى دولة الحق والقانون التي يخضع لها الجميع… هذه هي الأسباب من وجهة نظر المتحدث.
البيت شمع إلى جانب 6 بيوت تلته تشميعات أخرى في سياق سياسي واضح
هذا الإغلاق الذي تم بدعوى مخالفة البناء مجرد ذريعة، والذي وصفه دازين بـ“الفضيحة الكبرى” للمخزن المغربي في القرن 21، اعتبر الشردادي أنه مرتبط بسياق سياسي شمعت فيه ستة بيوت في ذلك اليوم ثم بعد ذلك تلتها تشميعات لبيوت أعضاء ينتمون إلى الجماعة في مختلف أنحاء المغرب.
وتساءل دازين “ماذا خسر المغرب بحصار جماعة العدل والإحسان؟” بأطرها التي أعفيت وهي لا تخدم إلا الصالح العام بجدية وبإتقان وبنزاهة، منهم من أعفي ومنهم من جرى إيقافه، ثم يضيف “ووالله إن المغرب ليخسر الشيء الكثير بحصار هذه الجماعة”.
وإذا عرفنا حقيقة تشميع بيوت أخرى يصل عددها إلى 14 بيتا في مختلف أنحاء المغرب 6 منها شُمّع في نفس يوم إغلاق بيت البيضاء، وكلها يجمعها رابط انتماء أصحابها إلى الجماعة نفسها، عرفنا الحقيقة كلها مختصرة، وعلمنا معها أن الأسباب السالفة المتعلقة بالتعمير وغيرها هي مجرد ذر للرماد في العيون، ومحاولة لتضليل الرأي العام عن السبب الحقيقي، الذي لا يمكن فصله -كما يقول الشردادي في نسج خيوط هذه القصة- عما عاشته الجماعة من حصار منذ البداية، حيت إن الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين اعتقل ثلاث سنوات في سجن لعلو ثم بعده سنتين أخريين، فضلا عن الحصار والإقامة الإجبارية، ثم جاء سجن الإخوة في مجلس الإرشاد، ثم جاءت كذلك الحملة المسعورة في حق الطلبة ونال من حظها طلبة وجدة النصيب الأوفر بالحكم عليهم بمدة 18 سنة، وكل ذلك بهدف إنهاء هذه الجماعة وإنهاء تأثيرها في المجتمع بأساليب “ماكرة” ومتعددة منها التضييق على أعضائها وإغلاق بيوتهم بغير وجه حق.
وبعد أن قدم شكره للمحامين وجميع الهيئات الحقوقية والمجتمعية والفعاليات التي ساندت هذا الملف، أكد المتحدث ذاته، أن ما يعيشه المغرب منذ جائحة كورونا وما تلاها من حملات على جميع الأصوات الحرة والمناهضة للاستبداد والفساد وقبله كذلك الاعتقالات في صفوف مناضلي الريف ثم مجموعة من الصحافيين، “ما هو إلا صورة من صور هذا الظلم وهذا العسف الذي نعيشه في الجماعة وكل القوى الحية، ونسعى جميعا إلى مقاومته لأننا نصبو إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية”.