بيئة وتلوث

Cover Image for بيئة وتلوث
نشر بتاريخ

والحديث عن البيئتين والمنغصين حديث واحد. لا نزال في البحث عن سبيل لرتق ما انفتق من عرى الإسلام.

يريد المثالي البعيد عن الميدان أو المتحمس المنغمس في كتب السلف الصالح وأدبيات الرفض الإسلامي أن تسود شريعة الله. لكنه غير مستعد أن يلوث يده بطين البناء ولا أن يصيب ثوبهُ قطرة من رشاش الغسيل القذر. غير مستعد أن تلفحه شرارة أو يخدِش سمعته كلمة جارحة. فيبقى في عالم الكلام، والكلمة نظيفة. الكلمة سماوية، وأبراج الرفض والاستعلاء والتطهر سامية نبيلة. أما الفعل والجهاد ومزاولة الواقع ومكابدة النقائص فمزاحمة وعرَق ومكافحة أوساخ.

الفعل والجهاد ومزاولة النقائص تقتضي أن توطد العزم على التشمير عن ساعديك حتى المرفقين لتدخل الميدان، وتتعرض للتلوث بإفرازات البيئة السياسية، ولتنصبَّ عليك ملامات المستعجلين، واعتراضات المثاليين، ولتَجْبَهك صفاقة أهل السوق، ولِتساوِمَ وتُساوم لعقد صفقات السوق.

تصبح رب عائلة، قفة ربة البيت في يدك، والعيال منهم من يتضور جوعا، ومنهم من يشكو عريا، ومنهم من أضحى بلا مأوى. وأنت المسؤول لا غيْرك. تذهب أيام الراحة والمعارضة والرفض. فإما تضطلع بمسؤولياتك مقدرا المسافة الشاسعة بين المثال والواقع، والضرورة، والأولويات، ومراتب التكليف، وطاقة الوُسع.

أو تبقى منزَّها في طهر معارضتك، وتنديدك بالباطل، وشتمك لمنكر الواقع، ورفع قبضتك في وجه الشياطين الغادية براياتها.

إنه تعرض لغبار المعارك، وعجاج السياسة، وأوحال الاقتصاد. أو هو الركود في دعوة حالمة، ووعود مُسَوَّفَة. أو التوتر الدائم، واستهلاك الأنفس والدّين والمستقبل في عنف يائس، وغضب عاجز.

إنه اقتحام السوق السياسة الاقتصادية علما بأنها سوق لا مسجد، وأن قانون العرض والطلب جار فيها، وقانون تبادل المصالح مع القوى العالمية حاكم عليها، يفرض عليك أن تتعامل مع عدو لا مناص من التعامل معه.

ومن نكَد الدنيا على الحر أن يَرى عـدوا له ما من صـداقتـه بُـدُّ

نكَدٌ تقبله، وسَوْمة سوق ترجع من الطريق إن لم تعرفها ولم تتقن المساومة عليها.

بعض الإسلاميين لا يشعرون إلا وقد دقت الأقدار على أبوابهم أنْ قد جاءت الساعة. يفْجأُهم القدَر ولُجوء الأمة إلى حِماهم وهم في استِعارِ خطاب المعارضة والغضب على الباطل. ذلك الخطاب المحلق في سماء المبادئ يشق عليه أن يتنزل إلى أرض البدء من واقع مريج، ومساومة ضرورية، وخطإٍ وصواب. كان هم المحلق مركوزا على التنديد بالباطل، لم يدرس واقع الباطل وجذوره التاريخية وملابساته العالمية، فلم يَقْدُر العقبة قدْرَها. فيجد نفسه وقد وصل إلى الحكم مقيدا مصفدا بتصريحات الرفض بالأمس.

إيران الرائدة تعبت ولا تزال في تعب، تلتمس طريقا للتخلص من خطاب الرفض وسياسة الرفض لما شعرت بالعزلة، واكتوت بنار العزلة، بعد أن أدركت أن التعامل مع الشياطين الكبار والصغار من طبيعة السوق وإن كانت الشياطين الكبار والصغار لن تذعن يوما للحق فتدخل المسجد. أدركت إيران أن مثالية المعارضة شيء، وأن مزاولة الحكم دخول في المخَاضة حتى الركبتين.

استرخى أو يكاد ذلك الذي أرسل القومة الإسلامية إلى أجل غير مسمّىً ريثما تتربى أجيال على الإيمان وتتألف القاعدة الواسعة. وعرض نفسه للخيبة العاجلة من تعجل فحسِب أنه بديل للعُقاب آكلِ الجِيَف بينما هو لا يزال فرخاً لم يُزْغِبْ. ربما يكون فرخ نسر قناص غلاب، لكنه فرخ في العش لا يزال.

أحد الدعاة يلخص الموقف الجافل من بيئة التلوث إذ يقول: “لو عرضوا علي الحكم في طبق من فضة ما قبلت”.

تستريح إن عَلَوْتَ برج المراقبة، وضربت موعدا مع الزمن في أجل غير مسمى، وفوضت للأجيال اللاحقة النيابة عنك. لن يرميَك أحد بأنك تسترضي الغرب، وتلَيّنُ القول للشياطين، وتقبل أنصاف الحلول، وتصافح الكافرين، وتستمع إلى الكافرات. تحتفظ بيدك نظيفة، وبخطابك غاضبا رافضا مزمجرا على هامش الأحداث. وتحتفظ بأنفَة الذين لا تنحني جباههم إلا لله في سجود الصلاة.

تحفظ شريعته سبحانه في خُوَيصة نفسك فأنت على خير في صومعتك. لكن فاتك العلم بناموس الله في التدرج، وفاتك الدرس النبوي ومثال النبي الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سجد لله ثلاث عشرة سنة عند الكعبة يعلوها ويحيط بها ويسكن جوفها أكثر من ثلاثمائة صنم.

لا يكن أعداؤنا أذكى منا! من مبادئ السياسة المهضومة في معارفهم، الجارية في تعاملهم مع القريب والبعيد، أنه لا عدو ولا صديق إلا المصلحة المتحولة. متى أدرك هؤلاء أن مصلحتهم التجارية الاقتصادية الاستراتيجية التي تضمن للعالم -عالمِهم إذ هم الأقوياء- الأمن والاستقرار إنما هي في التعامل مع الحركة الإسلامية التي لا محيد عنها، فستجدهم سراعا إلى إِخفات صوت العداوة الصليبية التي في الأعماق.

ونعبر من كيد شياطين البيئة السياسية إلى رجس النفايات الكيماوية في البيئة الصناعية.

ما علاقة المرأة ربة البيت المومنة مع البيئة السياسية والأخرى الصناعية وهي منصرف همها اليومي إلى صحة الأطفال وراحة البال، وسعر سوق الخضر، ومِلْء القفة اليومية؟ ما علاقة المومنة، وهي مع نساء العالم منصرفة ما وسعها الانصراف إلى بيتها وأسرتها، بالبيئة الصناعية وتلوثها، وبالخروق في الأزُون بالأجواء العليا، وبارتف
اع حرارة المحيط الجوي فيما يسمى بظاهرة قُبة الزجاج، وبالغابات المُحْرَقة، وبالتصحر، وبانجراف التربة، وبعدوان الرأسمالية على رِئة الكرة الأرضية بالأمازون، وبالأنظمة البيئية وقوانينها؟

العلاقة أن مصير العالم وما يهدده من نكبات من فعل التلوث البيئي له وقْع مباشر على الرخاء في القفة وصحة الأطفال وسكَن العائلة. ذلك أن الاقتصاد شأن عالمي كُرَوِي. ما يحدث من كارثة معتبرة في أقصى الأرض تجد صداه في اللحظة في أقصى الأرض. وذلك أن المومنة من حيث هي مومنة لا مجرد ربة بيت وراعية أسرة تعلم أن رخاء ذويها مَنوط برخاء الإنسانية على وجه الأرض، وأن رخاء الإنسان والسلام في العالم يكونان الجو الأنسب لبث دعوة الإسلام. فقد كاد الفقر أن يكون كفرا كما قال الإمام علي كرم الله وجهه. والحديث رواه الحافظ ابن حجر مرفوعا في “المطالب العالية”.

وتعلم المومنة من حيث هي مومنة أن اهتمامها بالبيئتين السياسية والصناعية إنما هو اهتمام بشؤون أمتها، وقوة أمتها، وقدرتها هي آخرَ الأمر على حمل رسالة الإسلام وبشرى السعادتين، الدنيوية والأخروية. وذلك مما يقربها إلى الله مع المجاهدات، إن رضي بعضهن بهمهن الشخصي وعاق أخريات عن حمل الرسالة أميتهُن وفقرهن وبؤسهن.

لا ينحصر تلوث البيئة الصناعية -وكل الأرض بيئة غزتها الصناعة قُلاًّ أو جُلا- في الدخان الكثيف من المعامل، وفي السموم الكيماوية، والمبيدات الحَشَرية، والإفرازات المتسربة إلى جوف الأرض المنتشرة في جو السماء الخانقة لأسماك البحر.

الغرب الغني يعيش في عالم ما بعد التصنيع، فهو يحاول بتقنيات متطورة إلكترونية معلوماتية إقامة صناعة نظيفة في بلاده، ليُحيل على بلاد المستضعفين وليبيعها بالثمن المُجْحِف وبمقدار، وبقانون السوق وسلطان الأقوى، صناعات ملوِّثة مثل الصناعات الكيماوية، والتحويلية وصناعة الحديد والصلب والتعدين والميكانيك.

ولا مفر لنا من توطين هذه الصناعات من الدرجة الثانية، ومن قبول قسمة العمل التي يسخر بمقتضاها أقوياء العالم ضعفاءه لإنجاز المهمات القذرة.

وإعدادنا للقوة كما أُمِرنا يطلب أن يكون لنا أفق ولو بعيد نرسمه أمامنا، ومقترحات نطرحها على الإنسان ونتطارحها بيننا لنؤسس نموذجا حضاريا بديلا عن الحضارة الجاهلية. وعلى الطريق العقبات والزمن والصبر والعمل.

أُفقُنا القرآن الذي فتح الأبواب للتعامل مع البيئة السياسية في قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخـرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين 1 .هل العدوان الصليبي المستمر قتال في الدين أو خارج الدين؟ وما حكم الشرع في الذي قال كلمة الكفر مُكرها وقلبه مطمئن بالإيمان؟

أفقنا فيما يخص البيئة الصناعية هو القرآن الذي قَبَّح الإسراف والتفاخر والتكاثر والشح والأنانية، ولعن المبذرين إخوان الشياطين.

قبح القرآن معاني يجسدها اقتصاد السوق، وتظهر فيها أخلاق السوق. صفات في النفس وأخلاق رديئة هي الأصل في انشقاق العالم إلى عالمين، وفي اكتظاظ الكرة الأرضية بالبؤساء، يتمتع عشرون في المائة من سكان الأرض اليوم بثمانين في المائة من خيرات الأرض، ولبؤساء الأرض الفُتات. ولهم النفايات المسمومة تصدر إلى بلادهم لقاء حفنة من الدولارات.

تتجسد الأخلاق الجاهلية الرديئة التي تحكُم سلوك الأنانية الاستكبارية، وتتجسد طبيعة السوق وضرورات التصنيع، في اكتظاظ الضواحي الصناعية، وفي الضجيج المزعج، وفي السرعة والحركة الدائبة التي تُلهي الإنسان لا تترك له لحظة التفكير في مصيره بعد الموت، وفي الزراعة الوحيدة التي تُفقر التربة، وفي الفقر المدقع الذي يحمل الفقراء على قلع الأشجار فتنجرف التربة، وفي العدوان الرأسمالي الذي يغير على غابات العالم فيهدد مستقبل العالم، وفي انتشار الإسمنت المسلح يقلص المساحات الخصبة، وفي الأَسْفلت يبسُط الطرق السيارة لمن يملكون سيارات.

تتجسد الأخلاق الملوثة في التحريض الإشهاري الذي يجند النساء الدُّمى ليبعن بضاعات تافهة متجددة، يبدد تصنيعها مادة المعدن، وجهود المهندس، وطاقة المستضعفين الشرائية. تتجسد في طوفان الإعلام، وفي الصحف التي تزن بضع كِلُوَات. الإنسان الجاهلي أعظم ملوِّثات البيئة. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين.

مقتطف من كتاب تنوير المؤمنات، 1.


[1] سورة الممتحنة، الآية: 8.