بوح المسافرين

Cover Image for بوح المسافرين
نشر بتاريخ

على الخط الرابط بين البيضاء وبني ملال, تلتقي مدن صغيرة ضاقت بساكنيها مع مدينة الأحلام المنشودة, تنسج حكايات الخيال حول الفرار من بؤس الحياة اليومية في مدن شحت فيها فرص الأحلام, لتعقد الآمال على رحلة الخلاص, لكن المغرب واحد وإن بان للمتلهف سراب شعاع من نور, فلن تفر فيه من قدرك إلا إلى قدرك الذي رسمته سياسات أهون ما قد يكون في اعتبارها الانسان, ووسمته بقهر تحمله معك أينما حللت وحيثما ارتحلت. حكايات المسافرين على هذا الخط تلخص الكثير, وتجعل الصورة أقرب إلى الادراك والفهم, وتجعل الأسئلة تضج في ذهنك: لماذا؟ وكيف؟ وما السبب؟
أثناء رحلة العودة من مدينة الأنوار إلى نقط الاستقرار, تتعدد الحكايات, وقد يستغرب من لم يألف كثرة السفر انعدام الخطوط الحمراء, وحجم (الشفافية) الهائل الذي يكسر حدود الحياء دونما اكتراث, وهو حال بطلة قصتي مع جليسها في الرحلة, تسامره أحيانا وتتفاخر أحيانا أخرى بمغامرات الفسق والمجون, تحكي قصص ألف ليلة وليلة تتحدث عن معاقرة الخمر وتدخين الحشيش وعن رفاق ورفيقات المجون, وهو يجيبها بصوت خافت ورأس منحن وكأنه تلميذ في مدرسة ينصت بانتباه شديد إلى أستاذة تبسط خبرتها في مقارنة مقاهي الشيشة الحقيرة في مدينتها ومقاهيها في مدينة الأنوار, وتارة تقارن بين نفسها وهي كما تقول تلك البدوية, وكيف لا تستطيع العمل قبل أن تدخن سيجارة حشيش, وبين صويحباتها البيضاويات اللواتي لا يدخن الحشيش إلا بعد انتهاء عملهن, حوار سافل ومنحط يلوث الآذان, والأحط منه أن تقسم بالله عز وجل بين الفينة والأخرى لتدلل على متونها المنقولة. ولن تدري أبدا إن كان ذلك منها بوحا جريئا يعكس حالة البؤس ودرجة الامتعاض, أم مجرد قلة أدب نبست بها شفتا إحدى بائعات الهوى, فهي امرأة مسلمة تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, شيزوفرينيا أصابت أمة الاسلام, فمعاقر الخمر مسلم, وآكل الربا مسلم, والزاني مسلم, والسارق مسلم……والأغرب من ذلك حجم التطبيع الذي حدث مع الشاذ فأصبح معتادا, والبعد عن الأصل الذي أصبح شاذا. عند نقطة كهذه تهيج عاصفة الأسئلة: لماذا وصل الحال بالمرأة المسلمة إلى هذا الانحدار دركا بعد درك؟ ولا أعتقد أن الاختيار هنا كان متاحا بين حياة الكرامة, ودروب العربدة والتيه, فلا أخال أن هناك من تختار راضية مهنة صنفت عبر التاريخ بأنها أقذر المهن. فكيف حصلت الفجوة بين جيل سما به الكمال إلى درجة الإنسانية, وجيل هوت به النزوة إلى منحدر الدوابية المهلكة؟ فجوة سحيقة تجعل من الصعب التصديق أن هاته حفيدة تلك, وكلهن تحت مسمى المرأة المسلمة. وهل يحق لأحد أن يخلع عنها إسلامها؟ وما السبب الذي أخرج الحرة من خدرها إلى سوق النخاسة تعتاش على جسدها؟ وما الذي دفعها للسعي وراء الاستعباد راغبة ومقبلة عير مدبرة؟ فإن كان الحوار منحطا تعافه من أنعم الله عليها بنعمة الستر وكفاها شر سوق النخاسة, فهل يحق لها أن تصدر الاحكام وتتعالى على صنف من النساء هن في حقيقة الأمر ضحايا قبل أن يكن جناة؟ ضحايا لسياسات نشرت الفقر والبؤس ومنعت الولوج إلى الأرزاق وأشاعت الفاحشة عبر مهرجانات العري والمجون, وحاصرت كل الحريات إلا حرية الانحراف, فنشطت شبكات الدعارة تتجار بالرقيق الأبيض, وراجت تجارة المخدرات حتى أصبحت متاحة لكل من يطلب, وغيبت السلطة المعنوية للفقيه فتاهت القيم وغاب كل وازع من دين أو خلق.
لكن الصورة على قتامتها تجد فيها بعضا من نور حجبته أكمة الانحراف, ففي طرف حديث بطلتنا عن قصص أسفارها, تدرج متنا لإنقاذها فتاة وصفتها بأنها كانت(مستورة) تلبس الحجاب, من براثن متصيد تحرش بها, حينها فقط عاد إلى نفسي الأمل, فقد أدركت أن الخير دفين متجدر في هذه الأمة التي كسرت الفتن ظهرها فحادت بها عن طريق الخيرية والرشاد, قصة تعيد أمل شفاء الأمة من الوهن, فقط تحتاج إلى من يصلح لها البوصلة لتستبين الوجهة, فتدرك أصل الداء وأسباب الشفاء وضرورة السير القاصد صوب الهدف المنشود, وهي من مهام من عافت نفسه وضع الضحالة الذي وصلت إليه الأمة, فالنقد المترفع الناظر من عل لا يسهم إلا في زيادة سوء الأحوال وقد أعيانا وأثقل كواهلنا فقهاء لم يتقنوا إلا الضرب بعصا لا يجوز.
ومن قصص الأمل أيضا أن قام شاب من مقعده ليجلس صاحب إعاقة, وأن قام آخر لتجلس فتاة, بشريات تجعل من التغيير أمرا حتميا.