تعد العلاقات الزوجية من أهم البُنى الاجتماعية المكونة لنسيج المجتمعات البشرية ويتضمن ذلكم النسيج الواسع من مجموعة بيوت ارتضت تكوين أسر ذات هوية مستقلة وأهداف متنوعة. وكلما كانت الحياة الزوجية في جوهرها منضبطة بالآداب الكريمة أثمرت سلوكيات نبيلة وأثرت في محصلة النسيج الاجتماعي العام فيزداد ترابطه، وتتجلى إبداعاته، وتعلو مكانة المجتمع فالمجموع يأخذ قيمته من نوعية وجودة أفراده. ولا ريب أن سنة الحبيب المصطفى الخصيبة خير معين لتوجيه وتطوير وإصلاح خطابنا التربوي المعاصر في تنمية المهارات الزوجية وإنشاء البيوتات السعيدة وذلك بعد فهم وتحليل ومناقشة القيم التربوية السائدة بين الزوجين.
ولا جرم أن الحياة الزوجية وعلاقاتها الحميمة تحتوي على علاقات متشابكة وتجارب هائلة طالبنا الله سبحانه بالنظر إليها، والتفكر فيها، والإفادة منها فقال المولى جل وعلا وهو يحث المتدبرين وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: 21).
فقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حديث أم زرع بتمامه فحكت عن إحدى عشرة امرأة كل واحدة تصف زوجها بوصف تلخص فيه حال علاقاتها مع زوجها على نحو دقيق.
إذ روى الإمامان البخاري (5189) ، ومسلم (2448) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً ، فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا ، قَالَتِ الأُولَى : زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ : لاَ سَهْلٍ فَيُرْتَقَى وَلاَ سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ … الحديث ، وفيه : قَالَتِ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ : زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ ، وَمَا أَبُو زَرْعٍ ، أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ ، وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ ، وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي ، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ ، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ ، وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلاَ أُقَبَّحُ ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ ، أُمُّ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ ، عُكُومُهَا رَدَاحٌ ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ ، ابْنُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ ، مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ ، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الجَفْرَةِ ، بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ، طَوْعُ أَبِيهَا ، وَطَوْعُ أُمِّهَا ، وَمِلْءُ كِسَائِهَا ، وَغَيْظُ جَارَتِهَا ، جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ ، لاَ تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا ، وَلاَ تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا ، وَلاَ تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا ، قَالَتْ : خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالأَوْطَابُ تُمْخَضُ ، فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالفَهْدَيْنِ ، يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ ، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا ، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا ، رَكِبَ شَرِيًّا ، وَأَخَذَ خَطِّيًّا ، وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا ، وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا ، وَقَالَ : كُلِي أُمَّ زَرْعٍ وَمِيرِي أَهْلَكِ ، قَالَتْ : فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ ، مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ . قَالَتْ عَائِشَةُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ ( .، وزاد النسائي في رواية له والطبراني، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، بل أنت خير من أبي زرع”
وسمي بحديث أم زرع نسبة إلى المرأة التي أكثرت من الثناء على زوجها وجاءت روايتها مسك الختام في سلم النسوة اللاتي روين ملخص حياتهن الزوجية وهي المرأة الأخيرة (الحادية عشر).
وصفت زوجها بما لم تصفه إحدى الحاضرات فأحسنت وصفه، استفتحته بأسلوب التعظيم والتعجب ”زوجي أبو زرع فما أبو زرع”، ثم ذكرت أسرار هذا المدح والثناء:
“أناس من حلي أذني” أي زين أذني بالقرطة.
“وملأ من شحم عضدي” أي أكرمني وأكلني حتى سمنت.
“وبجحني فبجحت إلي نفسي” أي عظمني ورفعني بكلماته المادحة، فعظمت عندي نفسي.
“وجدني في أهل غنيمة بشق” أي أهلها كانوا يسكنون شق جبل، وكان عندهم قليل من الغنم، فأخرجها من هناك وجعلها في غنى من الخيل ” جعلني في أهل صهيل وأطيط وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ”.
ثم ذكرت من حسن عشرته أنه لا يقبح قولها إذا تكلمت، ولا أهله كذلك لما يعلمون من احترامه لها ”فعنده أقول ولا أُقبح” وهذا الأمان النفسي بلسم للمشكلات الزوجية وأهم وسيلة لتنمية المحبة. ومن محاسن الإسلام أنه يحث الإنسان على أن يكون عف اللسان عذب البيان.
وذكرت أنه أكرمها ودللها، فجعل عندها من يخدمها، فلا تحتاج أن تستيقظ من النوم مبكرا ”وأرقد فأتصبح” ومن شدة العز الذي هي فيه والدلال أنها إذا شربت لم تكمل الإناء لارتوائها ”وأشرب فأتقنح”.
ومن شدة حبها لزوجها أخذت تصف محاسن أهله ”أم أبي زرع فما أم أبي زرع….” بيتها واسع فسيح ولديها أوعية مملوءة بالأطعمة، بل تعدى ذلك أن تمدح أبناءها ”إبن أبي زرع … بنت أبي زرع..”، وخادمتها التي كانت عاقلة أمينة فهي لا تفشي أسرار البيت، كما تحافظ على الطعام وكانت حريصة على تنظيف البيت من الأوساخ المادية والمعنوية وهذه ثلاث صفات ركزت عليها أم زرع في تصويرها لأخلاق الخادمة الأمينة وهي في غاية الأهمية.
ثم تزوجت أم زرع – بعد أن طلقها أبو زرع – رجلا سريا لم تذكر اسمه، صاحب عتاد، ذو جود وكرم لم يتوقف خيره عند أم زرع بل قال لها: ”كلي أم زرع ومري أهلك”.
وتختم أم زرع حديثها فتقول: ”فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع ”: فانظر إلى وفاء أم زرع لزوجها الأول أبي زرع، فالرجل لم يقصر في حقها، إلا أن أم زرع لم تكن تبحث عن المال ولا الجاه بل كانت تبحث عن حسن العشرة والسكن والكلمة الطيبة والتودد، فالزوجة ليست شريكة الحياة للزوج، وإنما هي صاحبته، فالعشرة بينهما ليست عشرة شركاء، وإنما عشرة صحبة، يصحب أحدهما الآخر صحبة تامة من جميع الوجوه، صحبة يطمئن فيها أحدهما للآخر، إذ جعل الله هذه الزوجية محل اطمئنان للزوجين.
ومع ذلك لا تزال تحب أبا زرع لما كان من حسن عشرته لها ودلاله لها ”لو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع”.
قَالَتْ سيدتنا عَائِشَةُ رضي الله عنها: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْع ولكني لا أطلقك ” ، وزاد النسائي في رواية له والطبراني، قالت عائشة رضي الله عنها: ”يا رسول الله، بل أنت خير من أبي زرع”
وفي نهاية الحديث يختم الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي ضرب لنا المثل والقدوة وبيّن لنا كيف يكون الزوج الصالح، مع كثرة أشغاله وأعماله وارتباطاته وما يأتيه من نوائب، بل أمور الأمة تدار على كفه عليه أفضل الصلاة والسلام، وأحداث الأمة وجهادها وإدارتها وقيادتها؛ ومع ذلك وجد وقتاً يستمع إلى مثل هذا الحكي، وهذا من لين جانبه وحلمه ومن بره عليه أفضل الصلاة والسلام، جاء ليختم حديث زوجه عائشة رضي الله عنها قائلاً لها: (كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ ولكني لا أطلقك). يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام لزوجه عائشة رضي الله عنها أنه كان لها محباً حسن العشرة ودوداً لطيفا بارّا عطوفاً كأبي زرع لأم زرع بل وأكثر من هذا أنه لن يُطلّقها.
ما ترمي إليه الراوية الذكية عائشة -رضي الله عنها- إنها لا تفك عقدة القصة المتأزمة لتترك للمسرود له أن يفك هو الأزمة النفسية التي تعيشها هي. إنها تعيش القلق النفسي الذي انعكس على سردها المحكي، فيفهم المسرود له الغاية، فيقوم بفك عقدة السرد، ويُنهي القلق النفسي للحاكية، فيقول قولته الخالدة التي ظلت قرونا تتلى: ”كنت لك كأبي زرع لأم زرع، إلا أنه طلق ولا أطلق”.
فترد مطمئنة: ” بأبي أنت وأمي يا رسول الله بل أنت خير لي من أبي زرع لأم زرع”.
ويقول الإمام وحمة الله عليه: يمسك قاعدة البناء في الأسرة المسلمة العدل. لكن العدل وحده بمثابة ميكانيك جاف تصطك أجزاؤه عند كل حركة إن لم تزيت الحدائد وتُلطًف. ملطف الحياة الزوجية الإحسان بعد العدل، الإحسان قبل العدل، الإحسان مع العدل.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من القوائد – القاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي المالكي.
درة الضرع لحديث أم زرع – للقزويني والتحقيق لمشهور سلمان.
منظومة حديث أم زرع للشيخ ابن مايا باه الموريتاني.
جماليّات العلاقة بين الجنسين في حديث أمِّ زرع، دراسة في تحليل الخطاب.
حسن القرع في شرح حديث أم زرع – أحمد بن عبد الغني التميمي الخليلي.
تنوير المومنات ج1 .