مقال مشترك بقلم: محمد كمال / حسن وفيقي / عبد القادر فرطوطي
المعلم الثالث: خدمة الناس وقضاء حوائجهم
تمهيد
حث الشرع الحنيف على خدمة الناس وقضاء حوائجهم، والسعي إلى تفريج كربهم، وبذل النصح لهم، تحقيقًا لدوام المودة والألفة، وإنماء لروابط الأخوة، ودوام التواصل والتزاور.. فما المقصود بخدمة الناس وقضاء حوائجهم؟ هل تقتصر الحاجة على المساعدات المادية دون غيرها؟ ألا تدخل الدلالة على الله وإرشاد الناس إلى الخير ضمن هذه الخدمة؟..
لقد ورد في ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة تبشر المومنين العاملين المخلصين بخيري الدنيا والآخرة، نسوق بعضها في الآتي:
خدمة الناس وقضاء حوائجهم في القرآن والسنة
قول الله عز وجل: لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً (النساء: 114). وقوله كذلك: مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا (النساء: 85).
أما في السنة فقد بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّ نَفعَ النَّاسِ وقضاء حوائجهم مِن أَعظَمِ الأَعمَالِ وَالقُرُبَاتِ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قال: “مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” [1].
وعن أَبِي مُوسَى رضي اللهُ عنه قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم مَا شَاءَ” [2].
إذن، فقضاء حوائج الناس، وتلمُّس مطالبهم، والعمل على إنهائها، وملاطفتهم في بعض المواقف؛ أمر مشروع، ويُؤجَر عليه صاحبه، وهو مطلوب لمن يريد أن يتقن فنَّ التعامل مع الآخرين، وخدمة الناس باب واسع وعظيم لكسب ودهم، والاستحواذ على قلوبهم؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة، فرَّج الله عنه كربة من كُرب يوم القيامة” [3].
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: “لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة، أَحَبُّ إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرًا” [4].
وقال أيضا: “مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسد، إذا اشتكَى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى” [5].
وعن أبي سعيد الخدري قال: “بينما نحن في سفر إذ جاء رجل على راحلة له. فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهر (أي دابة زائدة على حاجته) فليعد به (أي فليعطه) على من لا ظهر له. ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» فذكر من أصناف المال ما ذكره. حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل” [6].
خدمة الناس وقضاء حوائجهم تربية ومسؤولية
وعد الله عباده المحسنين الذين يخدمون الناس ويقضون حوائجهم بقوله هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ (الرحمن، 60)، هو وعْد بالثواب والجزاء من جنس العمل، جزاء مُحَقق تطيب به نفس المومن في الدنيا، وتطيب به آخرته، وللآخرة أكبر درجات وأحسن تفضيلا. إحسان بكل معانيه؛ فكان ذلك بشرى أن من أحب الأعمال إلى الله عز وجل وأعظمها أجرا وأرفعها قدرا؛ خدمة الناس وقضاء حوائجهم. وهو عطاء إلهي ترعاه العناية الربانية والتفضل الرباني، لكن وجب تعهده ورعايته بما يلي:
– إحسان الدعاء وطرق الباب: لينال المرء المدد ولا يحرم من أسباب السماء، والله يؤتي فضله من يشاء، وإن لمن أسبابه؛ إحسان الظن برب الأرض والسماء.
– المداومة: لأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وكان عمل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ديمة غير منقطع، وفي ذلك دربة للنفس وتربية لها، بل إلزام لها بالدوام على فعل الخير، وهذا من أسباب الأرض.
– حسن الظن بالناس: وذلك بالاتهام الدائم للنفس.
– إحسان العمل وإتمامه: وذلك بتحري الإتقان العملي والعبادي، وإخلاص القصد والنية حتى لا تضيع الجهود جفاء، وحتى لا يكون جهادك دنيا في حقك.
– إحسان القدوة: فأنت وأنا في باب خدمة الناس ندعو الناس إلى الله بحالنا قبل مقالنا، ودعوة الحال أبلغ من دعوة اللسان.
– الاستغفار: ألتزم بذلك وأداوم عليه بعد كل عمل، فالأعمال البشرية كلها يعتريها النقص ويدخلها الرياء والسمعة وحب الظهور وكثير من الأعمال القلبية، ودواؤها دوام الاستغفار والاعتراف بالتقصير بين يدي رب العالمين.
هي معالم تمكننا من الاستفادة من هذا الباب العظيم تربية ومسؤولية، فلنلزم هذا الغرز في الأقوال والأفعال، في الحركات والسكنات والنظرات. لنترفق بالناس كما ترفق ربنا بنا، فاللّيّنُ يُحبه الله لأنه مُتشرب من نبع رحمة رسول الله [7].
أبواب خدمة الناس وقضاء حوائجهم زمن الفتنة
يذكرنا الإمام رحمه الله رحمة واسعة عبر جميع الوسائط السمعية والبصرية والمكتوبة بأن الإسلام والدعوة إلى الله ليس وعظا وتأملات في الذي يصلح أو لا يصلح، ولا معارضة قاعدة حالمة عاجزة، بل إن “جند الله ينزلون إلى الميدان يهيئون قبل الوصول إلى الحكم الخبرات والكفاءات اللازمة لتغيير ما بالأمة من أمراض ولتدبير شؤونها” [8]. وذلك بلم الطاقات والجهود المتطوعة ووضعها في “خدمة المستضعفين، في خدمة الشعب، وهو مادتهم التي لا تنضب بعد تأييد الله وسندهم على الأرض بعد سند الله” [9].
لذلك، فالتطوع الميداني وحده الكفيل بتهييء الفرص للمؤمن والمؤمنة كي يعرفا ويطلعا على مشاكل الأمة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فيلتصقا بواقعها ويعانيا آلامها، ويتهيئا لحمل أعبائها [10].
فخدمة الناس وقضاء حوائجهم أشمل وأعم من أن نحصرها في تقديم المساعدات اليومية أو الشهرية، أو السنوية كقفة رمضان وغيرها، بل حقولها كثيرة، بل لا حصر لها، وهذه بعض ميادينها في زمننا:
– حقل الدلالة على الله، وذلك بعتق الرقاب من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
– الحقل الأنفسي: تمكن الأعداء بوسائلهم القذرة من تشكيك الناس في معتقداتهم وثوابتهم، فأصبحوا يعيشون الحيرة والضنك والقلق، لذلك فزرع الأمل والبشرى في نفوسهم، أعظم خدمة يقدمه الدعاة لهؤلاء الحيارى.
– حقل تحفيظ القرآن الكريم وتعليمه: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” (صحيح البخاري).
– حقل الطهارة والعفاف: وذلك بنشر الفضيلة بالحال والمقال.
– حقل رعاية اليتيم والملهوف والبائس: بهذا العمل “يكتشف المستضعفون أن الإسلام أخوة وعطاء” [11].
– حقل محو الأمية الأبجدية والفقهية: هذا باب مهم يحرك عواطف الناس نحو المومنين.
– حقل نظافة البيئة: ديننا دين الطهارة الحسية والمعنوية.
– حقل الأفراح والأتراح: باب كبير من خلاله نواسي الناس في الحزن، ونفرح معهم حين يفرحون.
– حقل التربية الروحية الإيمانية التعليمية التأليفية: لأن المؤمن يَألف ويُؤلف.
– حقل تكوين الشخصية الإيمانية.
– حقل التصدي للجهل والفقر والمرض.
فخدمة الناس وقضاء حوائجهم المصيرية من خلال هذه الحقول وغيرها، كفيل بإخراج ما عندهم من قدرة على البذل؛ بذل المال والجهد والوقت خدمة للشعب.
نختم هذه الفقرة بهذا الكلام النفيس للإمام ياسين رحمه الله، حيث يقول: “يشعر المؤمن حين نضعه عند وفوده في مشروع تطوعي أنه عضو منتج صالح، فهذا يقوي عزمه لما يرى من نتائج جهده. وهذا هو الجانب العملي الضروري في التربية بعد الجانب الآخر جانب التربية الروحية الإيمانية التعليمية التأليفية.
يجب ألا يترك المؤمنون يركدون في صحبتهم، منكمشين على أنفسهم. بل يدفعون إلى الميدان دفعا من أول خطوة، على أن لا يصرفهم الجهد الميداني عن المهمة الشاملة، مهمة تكوين شخصيتهم الإيمانية. العمل التطوعي الميداني جزء لا يتجزأ من التربية” [12].
ثمرات خدمة الناس وقضاء حوائجهم
لعل الأحاديث في هذا الباب والأخبار والآثار والقصص القرآنية كثيرة ومتنوعة، وقد سبقت الإشارة إلى بعضها، وبما أنه لا فائدة ترجى من علم لا ينتج عملا، فإنه سيكون أولى تلمس آثار خدمة الناس وقضاء حوائجهم في الحياة الخاصة والعامة.
إن الإنسان -ذكرا وأنثى- المنخرط(ة) ميدانيا في هذا الباب العظيم، سيكتشف مع مرور الوقت، تحولات جوهرية على مستوى مزاجه وعلاقاته الأسرية والمهنية والتربوية والدعوية، ما كان ليجدها لولا إدخاله البسمة والسرور والأمل على المكلومين والمظلومين والمشردين والمحرومين، ولعل ذلك من حسنات الدنيا التي يعجلها رب العالمين لعباده، حتى يستمروا صعدا في نفس العمل ولا يتقاعسوا، أما جزاء الآخرة فهو أعظم وأبقى. وهذه أبرز الثمرات بشكل مركز:
– الأجر والثواب والشفاعة للنفس يوم القيامة، فقضاء حاجات الناس من الشفاعة الحسنة التي أمرنا بها الله تعالى، كما أنه لونٌ من ألوان الصدقة.
– المساهمة في إعادة ترابط أبناء المجتمع الواحد.
– التضييق على الأمراض القلبية من حقد، وبغضاء، وكراهية، وحسد، وهي غالبا ما تنتج عن حاجة الناس وضيق ذات اليد.
– شهادة الخيريّة، إذ لا يوجد من هو أفضل من فاعل الخير، الذي يؤثر الآخرين على نفسه، فيقتطع من وقته وماله وعلمه ويجعله في خدمتهم.
– الأمن بعد الخوف؛ فإبلاغ الإنسان مأمنه حري أن يبلغك مأمنك.
– سعة الرزق بعد الفقر؛ فمن وسع وسع الله عليه، فالجزاء من جنس العمل.
– دفع البلاء وسوء القضاء.
– اليسر بعد العسر؛ لأنه من يسر على معسر يسر عليه.
– الإعانة والتأييد والتوفيق.
– خدمة الناس وقضاء حوائجهم اقتحام لعقبات النفس والهوى والسلطان والشيطان.
وختاما فإن تفريج الكرب من أعظم المكافآت التي يكافئ بها الله تعالى فاعلي الخير، إذ سيفرج سبحانه عنهم كُرَبَ يوم القيامة.
خلاصات
وفي الختام: إن معرفة الأحكام الفقهية للعلاقة الأفقية والعمودية لها أهميتها وضرورتها، فالعلم إمام العمل، لكنها لا تكفي ليكون العبد أحسن الناس وأحبهم إلى الله ورسوله، بل لابد من الوازع -الرادع- الإيماني، ثم مدى الانخراط في جلب النفع العام للناس ودفع الضرر عنهم، ولا يكون ذلك إلا بالتربية ثم التربية، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “لا سبيل إلى دفع تلك الجبلة ومقاومتها إلا لمن وقاه الله شح نفسه، أو هذبه بالإيمان فزال منه الحرص وطول الأمل اللذان أخبر عنهما الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأنهما يشيبان مع المرء ويلزمانه” [13].
ويقول أيضا: “ولا يكفي لتهذيب الغرائز الجامحة، كالشهوة، والتنافس، والشح، والاحتيال للدرهم، فقه المفتي وسلطة المحتسب والقاضي. بل التربية الإيمانية الإحسانية وحدها كفيلة بالنفاذ إلى الأعماق الداخلية حيث منبع الخير والشر في الفرد، منه تخرج إلى المجتمع صلاحا أو فسادا، عدلا أو جورا، عمرانا أو تخريبا” [14].
ولقد فطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر، فكانوا رضي الله عنهم يسألونه عن أفضل الأعمال، من ذلك ما أخرجه الطبراني وغيره عن ابن عمرَ رضي الله عنهما أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ – عليه الصلاة والسلام – فقال: “يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أحبّ إلى الله؟ وأيّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “أحب الناس إلى الله – عز وجل – أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً (في مسجد المدينة) ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رخاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام” [15].
فالله نسأل أن يطهر قلوبنا ويزكي نفوسنا ويبارك لنا في أخوتنا الإيمانية والإنسانية، ويرزقنا سلامة القلوب، وأن يرفع هممنا لطلب المعالي، ويكرمنا بكرمه الجزيل، وبالفتح المبين، والنصر العزيز لأمتنا، ويختم لنا بخاتمة أولياء الله الصالحين المجاهدين، ويحشرنا في زمرة الهادي الأمين المبعوث رحمة للعالمين، عليه أفضل الصلاة والتسليم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] صحيح البخاري” (برقم 2442)، و”صحيح مسلم” (برقم 2580).
[2] صحيح البخاري” (برقم 1432)، و”صحيح مسلم” (برقم 2627).
[3] صحيح البخاري 2442، صحيح مسلم 2580.
[4] المعجم الكبير للطبراني 13646، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 176.
[5] صحيح مسلم.
[6] روى الإمام مسلم.
[7] موقع الجماعة.
[8] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص: 221.
[9] نفسه.
[10] نفسه بتصرف.
[11] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص: 222.
[12] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص: 222.
[13] عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، ص92.
[14] عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، ص94-95.
[15] حسن الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة.