أعلم أن هذه الكلمات فقدت معانيها وأصبحت مستهلكة إعلاميا من كثرة التداول؛ ففي كل مرة نصحو على فاجعة تشبه أحداثها المآسي القديمة المتجددة نقابلها بالتجاهل ونحاول طي تفاصيلها، ولكن بالتأكيد ليس هذا هو شعور الصغير الذي يستقبل جثة أمه؛ إنه حزن جديد وجرح مديد لا ينجح في الغالب من تجاوز آثاره، فهو يعيش أدق تفاصيله التي لا تبارح ذاكرته بل تكبر معه، ينازع نبض قلبه رعب الحاضر والآت.
ها نحن، مرة أخرى، على مشارف اليوم الوطني للمرأة المغربية الذي يصادف العاشر من أكتوبر من كل سنة، وددت فيه لو أنني حملت هذا القلم لأحتفي بشعارات الإنصاف وبدولة الحق والقانون، وأنتشي بإسهامات النساء في الحياة السياسية والاقتصادية.. وأهلل للمكتسبات التي تم تحقيقها في مجال حقوق المرأة، والأشواط الكبرى التي قطعها المغرب في ترسيخها، كما نسمع في الخطاب الرسمي للدولة على لسان وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية! لكن، كيف أفعل وعلى بعد خطوات من هنا، من الحبيبة تطوان، نساء تسحقن تحت الأقدام بالمعنى الحرفي للكلمة، كيف أفعل والصباحات في هذه الرقعة الجغرافية ليست ككل الصباحات؛ وجوه يعلوها الإرهاق، وعيون ينعسها العياء، وكواهل تحمل الأثقال، وحياة مهددة بالموت في كل وقت وحين، وغصة في القلب ليس لها قرار..
في شهر شتنبر الماضي غادرتنا فاطمة بعد سقوطها من شاهق بعدما باتت ليلتها في العراء بالمعبر الحدودي من أجل توفير لقمة العيش لصغارها. رحلت فاطمة تاركة أطفالا لا معيل لهم ولا معين، غادرتنا تاركة إيانا في عارنا أنمسكه على هون أم ندسه في التراب. غادرتنا لتذكرنا أن هذا الجرح النازف لن يندمل طالما أن الإرادة السياسية غير حقيقية في التغيير، وأن المسألة مسألة طابور مكون من المئات محكوم عليهن بالموت إلى حين.
على المعبر الحدودي مغربيات يتعرضن لكل أنواع الإهانات من سب وضرب ورفس ودهس، في أحط صورة لانتهاك كرامة الإنسان وآدميته وحقوقه البسيطة المكفولة بالمواثيق الدولية والقوانين المحلية، تدفعهن قلة ذات اليد وانعدام وجود البديل إلى ركوب مخاطر تهريب السلع بشكل غير قانوني لفائدة بارونات التهريب؛ المستفيدون الحقيقيون، يخرجن ولا يعلمن هل يرجعن إلى بيوتهن أم يلقين حتفهن وهن يحملن سلعا يفوق في الغالب وزنها ما تستطيع أبدانهن تحمله، حيث يتعاظم السعر بقدر ما تحملن من أثقال، ومنهن من يتجاوز سنها الستين.
لعنة باب سبتة تلاحق الطبقة الفقيرة التي تضطرها ظروف العيش لامتهان هذا العمل بحثا عن مورد للرزق، وهو وصمة عار على جبين نظام يعرض رعاياه حياتهن للخطر وكرامتهن، بل كرامة بلدهن، للامتهان؛ شباب يموت غرقا بعدما أعياه التفرج على والدين يقدمان هياتهما قربانا للقمة يسد بها رمقه، وأمهات تركبن الوعر لأجل أبنائها. لعنة تفضح زيف شعارات الدولة وسياساتها التجميلية، وحده هذا المعبر قادر على إسقاط قناعه، فإن انضافت إليه باقي مآسي الوطن تعرى تماما وظهر عواره للعيان في الداخل والخارج.
معبر باب سبتة صورة جلية لفساد الدولة، وفشل وعجز شبه كلي للمؤسسات الرسمية الصورية في إعطاء حلول اجتماعية واقتصادية حقيقية للنهوض بهذه المنطقة، حيث تقف ثروات الوطن عاجزة أمام نظام مستبد ومحتكر وناهب لجميع خيرات البلد؛ نظام هو المسؤول الأول والرئيسي عما تعانيه المنطقة.
هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة تحمل من الآمال والآلام ما تنوء به الجبال، وفي غياب ملامح إرادة حقيقية للتغيير، واستمرار سياسة التجاهل والتهميش لن تعرف المنطقة إلا مزيدا من المآسي والأحزان، لذلك فالمعول عليه، والحالة هذه، هو تكاتف جهود الفضلاء لرفع الظلم والحيف عنها، أو على الأقل التخفيف من أزماتها.