الوفاء بالعهد اتباعا ومحبة:
إن استجابة العبد المسلم لنداء ربه القائل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ 1، ثم قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ 2، إن هذه الاستجابة تُعتبر وفاء وقيمة مركزية ــ في زمن اختلط فيه الحق بالباطل ــ يتحلى بها الفرد في سلوكه الفردي، محاربا لخصال النفاق حتى لا يتراءى للناس بما يحبون، بل يصدُق ويصَدِق ليكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ثم يشع نورا في محيطه، بل ويزداد إشعاعا وإمدادا كلما ازداد حظه من هذه القيمة النبيلة، يُعلم الأمة حسن الاتباع الذي أساسه المحبة.
وإذا علم الناس صدق هؤلاء أصاخوا إليهم بأسماعهم وسمعوا نصائحهم، وأيقظوا الوسنان الغافل، فيكونون بذلك منارة يَهتدي بها من خانته العناية وضل الطريق، أو دُفع “إلى معمعة الفكر والحركة ومُكايَدة العدو ومكابَدته…. وقته مليء بالأعمال” 3 والالتزامات والمسؤوليات الدنيوية، فأنى له النزول عن أنانيته الفردية؟ بل أنى له التفكير في الميثاق الذي أخذ عليه منذ الأزل؟ تتلاعب به “رياح الهوى العاصفة بالنفوس الخاوية” 4 والتي هي في حاجة إلى من “يصلح شأنها الباطني، ويغسل أدران الخطيئات، ويصحح النيات، ويعلي الدرجات، ويكفر السيئات، ويقرب من عَلِيّ الذات والصفات، سبحانه وتعالى عما يشرك المشركون، وعما يظن الجاهلون”. 5
اليوم، وغدا إن شاء الله، وفود جرارة من هؤلاء الصادقين، المصدقين، أهل الوفاء يولدون ولادة جديدة، ويجدون حياة جديدة، وحطون الرحال بزماننا متحفزين، يقظين لا يتأثرون بالمشوشات، ولا تصدهم المعارك الهامشية والوهمية عن هدفهم وغايتهم 6، آخذين الأمر على خطى أهل العزم من الرسل، والوارثين الكمل اتباعا ومحبة لقائدهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. يَدُلون، على خطاه، من تبعهم: من هنا الطريق، من هنا باب الوفاء، لأنهم علموا علم اليقين أن أحب الأعمال إلى خالقهم ما يدوم عليه العبد وإن قل، “أكثر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر، وحسن الأدب في مواطن الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب” 7، تباينت أخلاقهم، بعد تمحيص، عن “أخلاق الدهماء العامة” 8، وأصبح همهم: الدعوة إلى تجديد الإيمان والآخرة.
لقد علموا علم اليقين معنى الوفاء بالعهود اتباعا ومحبة، وعلموا سر شقائنا وتخاذلنا معنا وفي أنفسنا، فبدأوا يتلمسون ما تعاهدوا عليه سرا وعلانية، مستبصرين بخطورة معمعان الفكر والحركة، بل أصبح حاضرا عندهم: كم مرة أعطوا صفحة أيديهم وشغاف قلوبهم ونحن معهم، عهدا لمرشدنا على حفظ كتاب ربنا، فهل وفينا؟ وهل فعلنا؟ وكم مرة أخذنا العهد في مجالسه بذكر ربنا، والمحافظة على التحصين ودعاء الرابطة والصلاة في وقتها جماعة بالمسجد والصلاة على نبينا… وما كان ربك نسيا 9؟ وكم مرة تعاهدنا على الطاعة بعد المحبة والشورى والمحافظة على مجالس الخير والإحسان إلى بعضنا والناس أجمعين وذوينا وأزواجنا؟ أوفينا؟ فكم؟ وكم؟ وكم مرة أوصانا بدوام الاستقامة لنيل دوام الكرامة، وأوصانا بالعض على جماعة الصالحين وحلق الذكر…؟ ألا فلنحذر من انخناس إيماننا بعد هبة، ألا فلنحذر لعل العدو يأتي من الثغر الذي أوكلت به، وأوصانا بعدم الزيغ عن الأوراد وعدم التهاون في الأوقات، ألا فلنحذر ولنعتبر بالنفر الثلاثة: إن آويت إلى مجالس الصالحين آواك الله، وان استحييت في مجلسهم استحيا منك سبحانه، وإن أعرضت عنهم أعرض عنك سبحانه بكبريائه، وإن عدت إليه قبلك والرفعة جزاؤك، ألا فلنأخذ حظنا من يوم المومن وليلته: اتباعا ومحبة وحفظا للعهد والأمانة، ليتوجنا ربنا بحفظ الديانة، لأن “الأوراد والمداومة عليها سنة. وهي بمثابة نَذْر يقطعه العبد الصادق على نفسه يجب عليه الوفاء به. لذلك حذر العلماء من الدخول في الأوراد بخِفَّة مخافة أن لا يفي العبد بما عاهد الله عليه منها. قال العالم الفقيه أحد عباقرة الفقه الإمام الشاطبي: “إن في توقيت الشارع وظائف العبادات من مفروضات ومسنونات ومستحبات في أوقات معلومة لأسباب ظاهرة ولغير أسباب ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال. وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا: فما رعوها حق رعايتها 10: إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار. فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات، وأمروا بالمحافظة عليه بإطلاق. لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم. فالمكلَّف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب فمن حقه ألاّ ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء، حتى ينظر في مآله فيه، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أو لا” 11. وصدق القائل:
حَفظتُ العَهد ما خُنت الأمانة
فَحِفـظ العهـدِ أصـلٌ للدِّيانهْ
نذرتُ دَمي دفاعا عن حِماهَا
ورَفضاً للخُنـوع والاستكــانَهْ
فها أنا ذا بِمُعْتَرَك المَنايا
عَلِيَّ القـــدْر مُرتــفعَ المَكانـهْ
12