الوصل بين العقل والعمران

Cover Image for الوصل بين العقل والعمران
نشر بتاريخ

ليس من متطلبات النظر المنهاجي الغرق في التجريد المنقطع عن الشعور بالمسؤولية تجاه الواقع وتجاه مأمورية التدبير العمراني، فالعقل الذي يخاطبه الوحي بالتفكر في مجال السلوك هو نفسه العقل الذي يخاطبه بالفكر في مجال تدبير المدنية بإقامة مجتمع العمران الأخوي الذي لا يستقيم من غير قيمتي الرحمة والعدل، لأن العدل هو عماد العمران، أخويا كان أو مدنيا قانونيا)[1].

والعقل في هذا السياق مطالب بالقيام بواجبه في التفكير في تطوير العيش الإنساني من منطلق مسؤوليته العظمى عن التوازن أو الاختلال الذي قد يلحق الحياة الإنسانية، فيفرغها من المعنى.

إن العمران هو نقيض الحضارة الغابوية، وهو في المنهاج النبوي تنمية عقلانية تتوجه للإنسان قبل البنيان تملي على العقل المسلم أن يختار النموذج التنموي الذي يخدم قيمه ومبادئه ولا ينقطع عنها، أو بالأحرى لا يقطع الإنسان وهو يكد ويسعى في الحياة عن التفكير في مصيره الأخروي، إنه نموذج تنموي عقلاني يركز على التربية كمدخل للمعالجة، ذلك أنه في المجتمع المسلم البارئ من أمراض الغثائية تُجعل ضرورةَ الضرورات تربيةَ الأجيال على الإيمان، لا تزاحم البرامجُ التقنيَّةُ البرامج التربوية. ويحملُ العمل والكسب والمساهمة في النشاط الاقتصاديِّ معنَى التعبئة الجهادية. وتُحدَّدُ لهذا النشاط التنموي أهدافٌ تلائم “العمران الأخوي)المرغوب فيه لا أهواءَ التملك الأناني والأثَرة والتكاثر والترف.)ليست الهيكلة التنموية الاقتصادية التصنيعية مُعطىً واقعيا محايدا، لكنها نتيجة لاختيار قِيَميٍّ. ففي أساس إقامتها اختيار لسلوك معين وعلاقات اجتماعية معينة ونمط حياة معين. وعلى الإسلاميين أن يختاروا النمط الملائم لأهدافهم)[2].

والوصل بين العقل والعمران هو في جوهره وصل بين الواجب والحق، ذلك أن عملية النهوض كما يراها الأستاذ ياسين لا يستقيم فيها غلبة ذهنية المطالبة على ذهنية الواجب[3]، استشعار الواجب تجاه الواقع هو أرقى ما يعبر به العقل والإرادة عن سموهما الأخلاقي، وإلا فإن الانكفاء على المطالب الذاتية والتمركز على “الذات” و”الحق” بمعزل عن “الآخر” و”الواجب” من شأنه أن يحبط كل محاولة للإقلاع الحقيقي، والتيار الذي ينادي بالحقوق فقط ويتغافل عن الواجبات هو تيار كما يقول مالك بن نبي ضار، ما في ذلك شك، لأنه ينسى التشابك والارتباط المتبادل الموجود بين هذين المفهومين الأخلاقيين، فالحق ملازم للواجب، والشعب هو الذي يخلق ميثاقه ونظامه الاجتماعي والسياسي الجديد عندما يغير ما بنفسه، إنه لقانون سام..غير نفسك تغير التاريخ[4].

[1] _ ياسين، عبد السلام. العدل، ص223.

[2] _ ياسين، عبد السلام. العدل، ص479.

[3] _ عن ذهنية المطالبة والواجب يراجع :ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، ص 243.

[4] _ مالك بن نبي. مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة بسام بركة وأحمد شعبو، دار الفكر، ط1، 1988،ص 100.