يعد تدبير الشأن المحلي مدخلًا جوهريا لفهم طبيعة الدولة والسلطة في المغرب، وعلاقتها بالمجتمع، ومدى صدقية خطاب التنمية والديمقراطية التشاركية. وقد أعاد خطاب العرش يوليوز 2025 التأكيد على مركزية هذا الورش، من خلال دعوته إلى جيل جديد من التنمية الترابية يرتكز على العدالة المجالية، وتعبئة الطاقات المحلية، وإشراك المواطنين في صنع القرار.
غير أن هذا الخطاب، رغم وجاهته من حيث المبدأ، يصطدم بواقع مطبوع بهيمنة منطق مركزي صارم، تتحكم فيه وزارة الداخلية عبر آليات الضبط والوصاية، مما يحول دون تمكين الجماعات الترابية من أداء أدوارها التنموية، ويفرغ شعارات الجهوية المتقدمة من محتواها الفعلي.
في هذا السياق، أفردت الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان مساحة واسعة لموضوع تدبير الشأن المحلي، وخصصت له محاور موزعة على أكثر من فصل، تناولت فيها بدقة أبرز الاختلالات الهيكلية التي تكبل التنمية المحلية، واقترحت بدائل علمية وعملية تؤسس لنموذج لامركزي جديد، قوامه المسؤولية، والمحاسبة، والعدالة المجالية، وإشراك الساكنة، بعيدا عن الهواجس الأمنية التي ظلت تتحكم في منطق الدولة.
ولا تنظر الجماعة إلى التنمية المحلية كقضية إدارية أو تقنية فحسب، بل تعتبره رافعة أساسية لإعادة بناء الدولة على أسس تعاقدية ومجتمعية وأخلاقية، مما يجعل من مراجعة السياسات الترابية أولوية استراتيجية ضمن مشروعها المجتمعي الشامل.
محورية التنمية المحلية في تحقيق التنمية المستدامة
تُولي الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان أهمية مركزية للتنمية المحلية باعتبارها المدخل الأساسي لتحقيق تنمية شاملة وعادلة ومستدامة. فحسب تصور الجماعة، لا يمكن الحديث عن تحول حقيقي في البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، دون تمكين الجماعات الترابية من صلاحيات فعلية، وموارد كافية، وآليات شفافة للمحاسبة والمشاركة.
وترى الوثيقة أن التنمية المستدامة ليست مجرد مشاريع تقنية فوقية، بل هي مسار جماعي، يبدأ من قاعدة المجتمع، وينبني على تشخيص دقيق لحاجيات الساكنة، واحترام خصوصيات المجالات، وضمان العدالة المجالية والاجتماعية. ولهذا، تدعو الوثيقة إلى تجاوز منطق “التنمية الوصائية” من طرف السلطة المركزية، نحو نموذج يربط التنمية بـ “حق الساكنة في المشاركة، وفي التوجيه، وفي الاستفادة”، بعيدا عن المقاربة الأمنية التي هيمنت على تدبير الدولة للتراب لعقود.
كما أكدت الوثيقة على أن الارتقاء بالتنمية المحلية هو شرط لازم لتحقيق التنمية الشاملة، إذ لا يمكن بناء اقتصاد وطني قوي في ظل تهميش المناطق القروية والجهات النائية، وغياب التكامل بين السياسات القطاعية والترابية. من هنا، تأتي الدعوة إلى إحداث وزارة مستقلة تعنى بالشأن الترابي، وتعتمد منطق التعاقد، والتخطيط التشاركي، وتثمين الرأسمال البشري المحلي.
وبهذا المعنى، تعيد الوثيقة الاعتبار للجماعة الترابية، لا باعتبارها مجرد وحدة إدارية، بل بوصفها فضاء سياسيا ومجتمعيا، يُمكن الساكنة من بناء مصيرها التنموي، ويجعل من الديمقراطية المحلية رافعة فعلية للتغيير المجتمعي.
اختلالات التدبير الترابي: مقاربة نقدية في الوثيقة السياسية
في قراءتها النقدية لتجربة تدبير الشأن المحلي بالمغرب، تسجل الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان مجموعة من الاختلالات البنيوية التي عطلت إمكانيات التنمية المحلية، رغم الإصلاحات القانونية والدستورية المعلنة، خصوصا منذ دستور 2011.
وترى الجماعة أن هذه الاختلالات لا تنبع فقط من قصور في التشريع أو من ضعف الإمكانيات، بل تعكس غياب إرادة سياسية حقيقية تسمح بتمكين الجماعات الترابية من صلاحيات فعلية، خارج وصاية وزارة الداخلية والهاجس الأمني المسيطر.
ومن أبرز هذه الاختلالات:
- التحكم المركزي في القرارات المحلية: حيث تظل وزارة الداخلية الجهة الفعلية التي تضبط تدبير الجماعات من خلال التعيينات، ومراقبة الميزانيات، وتأطير السياسات، بما يخدم منطق الضبط بدل التنمية.
- الضبط القانوني المبالغ فيه: إذ تؤكد الوثيقة أن الرقابة القبلية والبعدية على الجماعات تعيق المبادرة المحلية، وتحد من حرية المنتخبين في وضع وتنفيذ المشاريع التنموية.
- التحكم في تشكيل الأغلبيات داخل المجالس المنتخبة: وذلك عبر تدخلات مباشرة أو غير مباشرة تؤثر على إرادة الناخبين وتفرغ العملية الانتخابية من مضمونها الديمقراطي.
- تهميش دور المنتخبين: من خلال احتفاظ الولاة والعمال بمفاتيح القرار الحقيقي، لا سيما في القضايا الكبرى التي تهم الاستثمار، والبنية التحتية، والتخطيط الحضري، مما يُبقي المنتخبين في موقع رمزي لا فعلي.
- ضعف الكفاءة الإدارية والتقنية: حيث تسجّل الوثيقة غياب تكوين حقيقي للأطر المحلية، وسوء توزيعها، مما ينعكس سلبًا على جودة الخدمات وعلى نجاعة القرار التنموي.
- ضعف الموارد المالية وتفشي الفساد: فالجماعات تعاني من هشاشة مالية مزمنة، ومن نظام جبائي غير منصف، ناهيك عن انتشار الفساد المالي والإداري، وتهميش الكفاءات المستقلة.
- الغياب شبه التام لآليات المحاسبة والمساءلة: حيث تفتقر الجماعات إلى فضاءات لمراقبة عمل المجالس وتقييم أثر السياسات، في ظل تغييب المواطن عن الفعل العمومي.
تُجمع هذه الاختلالات، في نظر الوثيقة السياسية، على أنها ليست ناتجة عن عراقيل تقنية فقط، بل هي نتيجة لنمط سياسي مركزي، غير ديمقراطي، ومهووس بالسيطرة والضبط، مما يجعل التنمية المحلية واجهة بدون مضمون، ويحول الجماعات الترابية إلى أدوات تنفيذ لا فاعلين تنمويين مستقلين.
المبادئ والمقترحات البديلة: نحو تدبير ترابي أصيل ومجتمعي
أمام الاختلالات البنيوية التي رصدتها الوثيقة السياسية في منظومة التدبير الترابي، تقترح الجماعة تصورا بديلا ينبني على رؤية شمولية، تستند إلى مقاصد الإسلام في العمران والعدل، وتربط بين التنمية والكرامة، وبين التخطيط الترابي والتحرر من الاستبداد.
وترتكز هذه البدائل على مجموعة من المبادئ التأسيسية والمقترحات العملية:
أولًا: المبادئ المؤطرة
- مركزية الإنسان في العملية التنموية: حيث لا ينظر إليه كمجرد أداة للإنتاج أو كرقم إداري، بل باعتباره فاعلًا أخلاقيا، له حقوق وكرامة وأدوار في التنمية والتغيير.
- العدل باعتباره شرطا ومآلًا: فبدون عدالة مجالية، وعدالة في توزيع الثروة، وعدالة في تمكين الجماعات من إمكانياتها وصلاحياتها، لا يمكن تحقيق تنمية محلية حقيقية.
- التحرر من التحكم المركزي: وهو شرط ضروري لخلق دينامية محلية فاعلة، حيث تعطى الكلمة للمنتخبين المحليين، ويحترم صوت المواطنين في القرارات المصيرية.
- الربط بين الاخلاق والعمران: فالتدبير المحلي الناجع لا ينفصل عن التربية القيمية والأخلاقية للمسؤولين والساكنة، في أفق تحقيق “مجتمع العمران الأخوي” كما تنشده الجماعة.
ثانيا: المقترحات العملية
- إقرار انتخاب حر ونزيه للمجالس المحلية، في أفق إنهاء التعيين أو التدخل في تشكيل التحالفات.
- مراجعة شاملة لمنظومة القوانين المنظمة للجماعات، خاصة فيما يتعلق بتوزيع الصلاحيات، وتمكين المجالس من سلطات فعلية لا شكلية.
- تفعيل آليات المحاسبة والشفافية، وفتح باب المشاركة المواطِنة من خلال المجالس التشاورية، والميزانيات التشاركية، والتقارير الدورية.
- توزيع عادل للموارد بين الجماعات، يراعي الفوارق المجالية ويضمن الحق في الخدمات الأساسية، لا سيما في العالم القروي والهامشي.
- استثمار الذكاء المحلي وبناء القدرات، عبر برامج تكوين مستمرة للمنتخبين والأطر الإدارية، وخلق جسور مع المجتمع المدني.
- دسترة الوظيفة الاجتماعية للمدينة والجماعة، لتتحول من فضاء إداري إلى حاضنة للتكافل والإبداع والمبادرة.
بذلك، تسعى جماعة العدل والإحسان إلى إعادة الاعتبار لمفهوم التنمية المحلية كرافعة للتغيير المجتمعي الشامل، وتجعل من الجماعة الترابية فاعلًا أساسيا في البناء الحضاري، لا مجرد أداة في يد سلطة الوصاية.
إن تناول جماعة العدل والإحسان لموضوع تدبير الشأن المحلي في وثيقتها السياسية لا ينفصل عن رؤيتها الشاملة للإصلاح المجتمعي، التي تنبني على مقاربة تجمع بين التحليل النقدي العميق للواقع والاقتراح العملي البديل ومن خلال تشخيصها للاختلالات التي يعرفها التدبير الترابي في المغرب، واقتراحها لتصور مغاير أساسه “مجتمع العمران الأخوي”، تقدم الجماعة مرافعة فكرية وسياسية تُسائل نموذج التنمية القائم، وتدعو إلى إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس العدل، والحرية، والمشاركة، والكرامة.
فالتنمية المحلية، من منظورها، ليست مجرد إدارة لمصالح إدارية يومية، بل هي مدخل لبناء الوطن المشترك، والرفع من منسوب الثقة، واستعادة المبادرة لدى المواطن، وتحرير الفعل العمومي من قبضة التحكم والاستبداد. وهي بذلك تعيد للمدينة والجماعة الترابية معناها الاجتماعي والحضاري، وتمنح المواطن موقعا مركزيا باعتباره غاية كل سياسة وأداتها.
وختاما، فإن النموذج الذي تقترحه جماعة العدل والإحسان، رغم ما يواجهها من حصار سياسي وإقصاء إعلامي، يظل مساهمة نوعية في النقاش العمومي حول مستقبل الدولة والمجتمع، ويستحق أن يقرأ ويناقش بعمق ومسؤولية، خاصة في ظل التحديات الكبرى التي يعرفها المغرب، والتي أبانت عن محدودية النموذج القائم في تحقيق التنمية الحقيقية، والعدالة المجالية، والديمقراطية المحلية.