الوثيقة السياسية باعتبارها مثالا عمليا لمفهوم الشورى.. في التصور المنهاجي (1)

Cover Image for الوثيقة السياسية باعتبارها مثالا عمليا لمفهوم الشورى.. في التصور المنهاجي (1)
نشر بتاريخ

تقديم

تعتبر الوثيقة السياسية التي أصدرتها جماعة العدل والإحسان مثالا عمليا لمفهوم ومعنى الشورى في التصور المنهاجي، وكذلك هي تدريب ميداني على معاني الالتزام بالشورى والتحلي بآدابها، وأيضا تجلٍّ واضح لروح النظام الشوري وطبيعة خصال المؤمنين والمؤمنات داخله، والغاية والهدف من ورائه.

يرتبط مفهوم الشورى في التصور المنهاجي بثلاثة معانٍ هي:

– الشورى فرض مثلها مثل الصلاة، والالتزام بها والتحلي بآدابها والاجتهاد في بناء نظامها عبادة.

– الشورى تشاور وتداول، ومحاولة للإجماع: إجماع الرأي في قضية أو مسألة ما.

– الشورى نظام له مناخ نفسي، وفكري، وخلقي، واجتماعي خاص به، ويسير المؤمنون والمؤمنات على نهجه وفق خصال عشر.

 ما طبيعة العلاقة القائمة بين الشورى والدين؟ ما معنى أن تكون الشورى فرضا وعبادة؟ ثم ما المقصود بإجماع الرأي حول قضية ما؟ وماهي الآداب التي ينبغي التحلي بها أثناء مناقشتنا الآراء والأفكار ووجهات النظر؟ هل إجماع الرأي حول قضية ما يحتاج فقط أفكارا منطقية واقعية وعلمية أم لابد له من تربية ومحبة متبادلة؟ ثم أين تتجسد روح النظام الشوري وماهي أهم خصائصه وشروطه ومتطلباته؟  

الشورى فرض وعبادة

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “الشُّورَى إِجْماعٌ، وَمُقارَبَةٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَمُحاوَلَةٌ لِلْإِجْمَاعِ. فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الشُّورَى كَمَا فَرَضَ الصَّلاةَ وَسائِرَ التَّكاليفِ” 1.

إذا كانت الشورى فرضا على كل مسلم كما هي الصلاة والصيام والزكاة، فالمسلمون إذن مأمورون بالاهتمام بأمور بعضهم البعض والسعي لقضاء حوائج الناس ودفع الظلم والاستبداد عنهم، تماما كما هم مأمورون بإقامة الصلاة في وقتها وفي جماعة مع الحضور القلبي والافتقار بين يدي الله واستمطار رحمته، والخوف من عذابه والاستقامة على أمره ونهيه، وما الوثيقة السياسية إلا استجابة لأمر الله والتزام بفرض الشورى وعبادة التهمم بأحوال المسلمين والسعي لرفع الظلم عنهم.

ومن ثمة فكل الجهد والوقت الذي بذل في إعداد محاور الوثيقة ومناقشة مقترحاتها، وصياغتها، وعرض أفكارها، والتعريف بمضامينها، والتواصل مع الفرقاء السياسيين من خلالها، يعتبر عبادة وعبودية تامة لله مثله مثل وقت الصلاة والصيام وسائر الفرائض، لأن الدافع طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه، والغاية والقصد رضا الله والفوز بلذة النظر لوجهه الكريم.

إذن الشورى بهذا المعنى لا تنفصل عن الدين بل هي جزء من الدين، لأنها أمر إلهي وعبادة قبل كل شيء، وبالتالي فكل الوسائل والأدوات، والقوانين والمؤسسات، والقيم والمبادئ والمبادرات، التي نستعين بها لمواجهة الظلم والاستبداد، وبناء دولة الحق والعدل والمساواة، يجب ألا تتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن مجتمع العمران الأخوي المنشود، مرتبط بالتغيير التربوي والأخلاقي، كما هو مرتبط بالتغيير السياسي والاقتصادي والمجتمعي.

الشورى إجماع الرأي

يقول الإمام “الشُّورَى تَهْدِفُ إِلَى إِجْماعِ الرَّأْيِ كَمَا تَهْدِفُ المَحَبَّةُ والْأُخوَّةُ لِجَمْعِ القُلوبِ، لِتَأْتيَ طاعَةُ مَنْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهُ الْآرَاءُ وَتَجَمَّعَتْ حَوْلَهُ القُلوبُ تَجْمَعُ الشَّمْلَ كلَّهُ” 2.

الشورى أيضا إجماع الرأي حول قضية معينة، من خلال تبادل الآراء والأفكار، والخبرات والتجارب والمقارنة بينها، مع الوقوف على طبيعة الحجج والبراهين التي يقوم عليها كل رأي واستنطاقها ومساءلتها والوقوف عند العيوب والنواقص، والخصائص والمميزات، مع ضرورة الاستعانة بالمتخصصين في القضية من الباحثين والأكاديميين، والوثيقة السياسية جاءت من أجل توضيح تصور الجماعة لكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية أيضا، فكان لابد من إجماع الرأي حول هذه القضايا وتوحيد التصور حول طبيعة الإجراءات والمقترحات القادرة على استيعاب روح التصور المنهاجي، والمنفتحة على الحكمة البشرية والقابلة للتطبيق والأجرأة في الواقع والبيئة المغربيين.

ومن أجل ذلك عقدت لقاءات ومجالس لساعات طوال، كما أنجزت دراسات وأبحاث، على امتداد أربع سنوات، والهدف والغاية المشورة ومحاولة إجماع الرأي، كل ذلك في جو من المحبة والأخوة، ولعل الحب في الله هو مفتاح كل الآداب التي ينبغي الالتزام بها والتحلي بأخلاقها في مجالس الشورى، حيث النقاش والاختلاف في وجهات النظر، لأن الحب في الله يورث حسن الظن بالمؤمنين والتماس الأعذار لهم، والإنصات لآرائهم، والحرص على قلوبهم، وعدم الانتصار للنفس أو التعصب للرأي.

قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 3.

إن الحب في الله هو الطاقة التي لا تغلب، والعفو والاستغفار والدعاء المتبادل، وحسن الظن والتماس الأعذار، هو الدواء الذي يجمع القلوب ويوحدها، كما أن التشاور وإشراك الغير في اتخاذ القرار، وعدم التعصب للرأي، يجمع الآراء والأفكار والعقول على رأي جامع. إن المحبة تقتضي أيضا لين الجانب وخفض الجناح والعفو والرحمة والرفق.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “مُراعاةُ الْآدَابِ الشَّرْعيَّةِ عِنْدَ إِسْداءِ النُّصْحِ وَعِنْدَ المَشورَةِ تَعْصِمُ مِنْ الِانْزِلاقِ فِي الجَدَلِ، وَمِن إِثارَةِ اَلْنّعْرَةِ النَّفْسيَّةِ اَلَّتِي تَتَعَلَّقُ بِلَفِّ الكَلامِ وَالدَّوَرَانِ لِئَلَّا أَعْتَرِفَ بِهَزيمَتِي أَمامَكَ. تَبْدَأُ المَشورَةُ بِذِكْرِ اللَّهِ بِآياتٍ مِنْ كِتابِهِ ليَشْعُرَ الجَمْعُ أَنَّ المَجْلِسَ مَجْلِسُ عِلْمٍ وَحِلْمٍ، تَنْتَهي فِيه حُرِّيَّتِي لِنَقْدِ إِخْوَتِي عِنْدَ الحَدِّ الفاصِلِ بَيْنَ التَّعْديلِ والتَّجْريحِ الشَّرْعِيِّينَ وَبَيْنَ الحَمْلَةِ الشَّخْصيَّةِ والْجَدَلِ. أَسْتَمِعُ بِالصَّبْرِ التّامِّ لِما عِنْدَ إِخْوَتِي، لَكِنْ فِي حُدودِ الوَقْتِ، وَبِإِمْرَةِ مِنْ لَهُ اَلْإِمْرَةُ لِإِدَارَةِ النِّقاشِ. ثُمَّ أُساهِمُ بِمَا عِنْدِي بِاللُّطْفِ اللّازِمِ، جاعِلًا نُصْبَ عَيْنَيَّ أَنَّ الهَدَفَ هوَ اتِّخاذُ قَرارٍ جَماعيٍّ لَا الِانْتِصارَ الجَدَليَّ. فَقُدَرَتِي أَنَا عَلَى الخَطابَةِ والْمُحاجَّةِ قَصْدَ الظُّهورِ لَا وَزْنَ لَهَا بِالنِّسْبَةِ لِقُدْرَةِ الجَماعَةِ عَلَى اتِّخاذِ قَرارٍ وَتَنْفيذِهِ” 4.

والحب في الله وهذه الرحمة التي تجمع قلوب المومنين هي منة من الله وعطاء، كما أنها نتيجة أربعين سنة من التربية ثم التربية ثم التربية، فكانت الوثيقة السياسية مثالا عمليا للالتزام بالشورى والتحلي بآدابها، سواء في مراحل الإعداد والصياغة، أو في مراحل عرض الأفكار والتواصل مع الفرقاء السياسيين والإعلامين، والمختصين من الباحثين والأكاديميين، وذلك من خلال الإنصات لهم، والاهتمام بملاحظاتهم، والإجابة عن أسئلتهم، والتماس الأعذار لهم.


[1] ياسين عبد السلام، الإحسان، ج 2، ص 139.
[2] المصدر السابق، نفس الصفحة.
[3] سورة آل عمران، الآية 159.
[4] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص 105.