الواضح والمرموز.. ما قالته وما لم تقله كلمة الأمين العام

Cover Image for الواضح والمرموز.. ما قالته وما لم تقله كلمة الأمين العام
نشر بتاريخ

يقف هذا المكتوب عند الخطاب الافتتاحي لفعاليات الذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان، والذي ألقاه السيد محمد عبادي الأمين العام للجماعة ليلة الأحد 23 من أكتوبر عام 2022، ومرمى فقراته ليس أن تعرض لما قالته الكلمة أساسا، إنما غايتها أيضا أن تورد ما لم تقله على نحو يرصد إن شئتم تجاذبات الواضح والمرموز في ذلكم الخطاب. مع إشارة أولية إلى أهمية التنبه إلى غنى الدلالات الإشارية بالمعنى السيميوطيقي للصورة، التي قُدِّم بها السيد الأمين العام ورمزيتها على مستوى الشكل والهيئة واللباس والمضمون والمعنى والتسويق الإعلامي، وكلها تفتل في اتجاه إعادة تجديد النظرة إلى حركة مجتمعية مهمة لتجاوز صور التنميط في مقاربة فاعلية التوجهات ذات المرجعية الإسلامية.

ما قالته الكلمة أو الواضح في الخطاب

1.   قالت الكلمة إن الغاية من الاحتفاء تحقيق هدفين اثنين: التحدث بنعمة الله عز وجل، ثم التواصل مع الناس إخبارا وطلبا للنصح والتوجيه. فكان الوضوح في معنى الاحتفال متجها إلى غاية تربوية إيمانية، وإلى هدف تعريفي حواري يجسر علاقات التواصل مع الآخرين.

2.   كان الشعار العنوان لهذا الاحتفاء والاحتفال دقيقا في رسم معلمين اثنين يسمان مسيرة الجماعة: معلم الحضور المتهمم بقضايا الإنسان الفرد والمجتمع والإنسانية عامة، ومعلم الفعل القائم على العطاء الجاد والمتجدد. فكان الشعار واضحا في تلخيص صورة الأداء العام للجماعة عبر سنواتها الأربعين، والتي تتحدد ملامحها في الجمع بين  الشهادة والشهود بالقسط حضورا متئدا في دنيا الناس، والعمل المؤسس على البذل الذي يبني الإنسان والعمران برؤية التجديد والتطوير.

3.    ركزت الكلمة على أن اللحمة الجامعة بين المرشد المؤسس الإمام عبد السلام ياسين وأعضاء الجماعة، هي الصحبة في الله عز وجل بمبادئها المنضبطة بالمحبة والذكر والصدق. فكان الخطاب واضحا في ترسيخ مبادئ الوفاء للمنهاج ولصاحب المنهاج.

4.   حددت الكلمة هدف الجماعة في التعاون على الإقبال على الله، وتربية الإنسان على مكارم الأخلاق، ولمّ شمل الأمة، ونشر معاني المحبة والرحمة في العالمين. ورسمت نهجها في ثلاثيتها المعهودة الرافضة للعنف، وللسرية، وللتبعية للخارج. وبيّنت آلية اشتغالها القائمة على التربية البانية الجامعة بين العلم والعمل. فكان الوضوح هنا جليا في تحديد الهوية والمرجعية والرسالة والمنهاج، والموقف بيّنا في رفض الانقلابية والغموض والالتقاطية واستنساخ التجارب.

5.   أبرز الخطاب البنية العامة لمجالات اشتغال الجماعة؛ دعويا باحتضان الشباب وتربيتهم على الإيمان والفتوة والخدمة، ومعرفيا في محاريب الفكر والتنظير والكتابة والتأليف، وعمليا في النشاط الميداني تدافعا في الحقل السياسي والفعل الحقوقي والنقابي، وكانت الالتفاتة جملية إلى الاشتغال الجاد المتحقق في مجال الاشتغال النسائي وفق الاستقلالية في تدبير الخصوصية، والتنسيق في المشترك الجامع. وتجلى الوضوح على هذا المستوى في الاعتزاز المُثمِّن والمُقدِّر للمنجَز الذي تسهم به الجماعة في المجتمع، مع التأكيد المرسخ لنفي خطاب الاستعلاء على الخلق، ونهج التهوين والتبخيس من جهد الآخرين.

6.   أظهرت الكلمة واقع تعامل الدولة مع الجماعة، والذي تبرز تجلياته في النقمة على الجماعة موقفا، والمكر والاستئصال أسلوبا، والقمع الممنهج واقعا وحالا. وكان الوضوح قويا في توصيف أعطاب التدبير السيّئ للدولة للشأن العام، وهو التدبير القائم على الظلم والاستبداد والفساد، وضرب الهوية القيمية للمجتمع، والتمكين للغزو الصهيوني، وتفكيك لحمة المجتمع، وكان الموقف أوضح في اصطفاف الجماعة إلى جانب المستضعفين ودفاعها لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ونيل الحقوق المختلفة للوطن والمواطنين.

7.   أطلقت الكلمة نداءات ثلاثة:  أولها  وُجّه إلى كل الفضلاء وأهل المروءات وأطياف المجتمع قاطبة للحوار المُؤسِّس لقواعد مشتركة لبناء الوطن الذي يسع الجميع. وثانيها نداء إلى الأمة وعلمائها ونخبها والغيورين على وضعها إلى جمع الشمل لا إشعال الفتن، وإلى الانغراس في المجتمع لا الانعزال والانكماش، وإلى وحدة الصف للانفكاك من الاستكبار العالمي وخدامه من جلدتنا. وثالثها إلى أبناء جماعة العدل والإحسان ليقدموا النموذج العملي لما يرجى أن يكون ملاذا أخلاقيا وسياسيا يمشي على الأرض عيانا لا خطابا. وكان الوضوح في هذا الجانب دائرا على تحميل المسؤولية للذات وللآخر، وفي الحاجة إلى خطاب يقوم على الصراحة التي تصف الواقع البئيس المنذر بالخطر فرديا وجماعيا وإنسانيا كما هو، وإلى سلوك يبحث عما يجمع لا عما يشتت ويمزق، وإلى نهج يستشرف وحدة الأمة وقوّتها، وإلى عمل يفعل ويخطو ولا يقول ويخطب فقط.

ما لم تقله الكلمة أو المرموز في الخطاب

1.   لم تقل الكلمة إن الاحتفاء بذكرى تأسيس الجماعة أخذ بأسباب العصر، تجديد للوسائل، ابتكار للطرائق، صناعة للحدث، فاعلية لا انفعال، مبادرة واقتحام لا استهلاك وقعود. لم تقل الكلمة إن الاحتفاء بالجماعة رسالة إلى العقلاء أن هناك مشروعا مجتمعيا متحركا قائما له رؤيته وتصوراته ومنهجه يفترض المنطق السليم التواصل معه، والتحاور بشأنه بل ونقده وتجويده، والتعاون معه في المشترك النافع لصالح البلاد والعباد، عوض انتهاج الإقصاء الذي  لن يجدي نفعا. لم يصرح الخطاب أن الترويج لمشاريع “المواثيق” المُقَيَّدة لفاعلية المؤسسات المجتمعية تحت دعاوى “الإجماع” المزعوم، وتوجيه النقاش المجتمعي وجهة “التفاهة” المُسَيَّجَة بالحدود المتقيدة بنقد الهوامش وأعراض الداء دون النفاذ إلى لب المرض وأسباب المصائب، لن يمنع وصول كلمة الحق اللاحبة التي تقول إن هناك صوتا لا يردد ما يردده الحاكمون والدائرون في فلكهم والمنتفعون بصحبتهم، لا بد أن يسمع، ويفهم، ويعقل. إن الاحتفاء فرصة لإعادة توجيه الرأي العام للنقاش المجتمعي الجاد والجدي بدل نقاش العبث والتفاهة.

2.   لم يقل الشعار الذي اتُّخذ للاحتفال بهذه الذكرى الأربعين إن جماعة العدل والإحسان موجودة قائمة حاضرة ثابتة، وبهذا فهي قوة مهمة في المشهد المجتمعي، ورقم أساسي لا يمكن تجاوزه في أي معادلة تغييرية لواقع المغرب. وإن الرهان على “تغييب” الجماعة، وعلى “موتها” السريري، وعلى “شح وبخل” أدائها وتراجع مسيرها، وعلى “استقالتها” من الشأن العام بمفهومه المتعدد، وعلى إدخالها في “غيبوبة” الإدماج القسري في جوقة المتنعمين برضوان العطايا المسلوبة، كل ذلك رهان على الوهم والخبال.

3.   لم تقل الكلمة إن مقاربة التجديد العام للإمام المرشد للإرث النبوي منهاجا تربويا وتنظيميا وحركيا بعقلية الإسلام الموروث القاعد، وبذهنية التبسيط الناقدة لكل شيء بمنطق الخلط والخبط والتخوين، وبفردانية الاستكبار النفسي والعقلي، لن تفتت من عمق اللحمة الجامعة لمعاني الصحبة في الجماعة، ولن تفكك من بنية تنظيم بني على هدى من المحبة والنصيحة والشورى، ولن تهد من بنيان فكري ينشد تربية الشخصية الإسلامية الوارثة للكمال النبوي بعيدا عن إسلام الزهادة و دين الثقافة و نهج الحركية الجوفاء. وهذا إنما يعني، وهو المرموز في خطاب الكلمة، أن فهم علاقة الجماعة بالمرشد وبفكر المرشد ليست قائمة          أو موزعة بين إشاعات “التقديس”، ومزاعم” الخيانة”، ولمز “العيش في جلباب الأب”، إنما هي علاقة تعترف لأهل الفضل بفضلهم بما أسسوا وبنوا وربّوا وصبروا وصابروا وجاهدوا وناضلوا ولم يعطوا الدنية من دينهم لأحد. ويبقى المَعين بَعْدُ هو الوحي الذي لا ينضب، واستكمال آلة الاجتهاد للتجديد كما اجتهد الغير بأصوله وقواعده المعروفة.

4.   لم تقل الكلمة إن الظلم الواقع على الجماعة طوال تاريخها العريض الذي تشهد عليه التضييقات والاعتقالات والمحاكمات والتلفيقات والغرامات والسجون والإعفاءات والتشميعات من جهة، ووسم الجماعة بالخارجة عن “الإجماع” و”القانون” و”المؤسسات”، وباستيراد نموذج تدَيُّنِي بعيد عن “إسلام” المغاربة، والتلبس بلبوس التطرف والجمود والغيبية، ومحاولات خلط الأوراق في تحديد هوية الجماعة وأهدافها من جهة ثانية، كلها محاولات ماكرة لن يوقع الجماعة في الانجرار لما يريده الماكرون العابثون، ولن تُستفَز لتسقط في حمآت العنف، والانعزالية، والاستقواء والتبعية بالخارج وللخارج.

إنما ستبقى الجماعة صامدة في تقديم نفسها وتقديم عملها أنها جماعة مغربية، بِنت هذه الأرض محتدا ومنشأ، تريد أن تعيش الإسلام الحق بعيدا عن دين “الانقياد”، ونحلة “الغالب”، و”تعقيدات” الجدال، وموروثات “الأشكال”. لم يقل الخطاب إن الجماعة هي الصخرة التي تتكسر عليها أوهام الظالمين لجرّ البلاد إلى الفتنة وسفك الدم، وأنها ستظل تتحمل الأذى ليقينها في أن هؤلاء الظلمة إنما يضربون على ظهورهم   ويخربون بيوتهم بأيديهم (وعلى نفسه جنى المخزن)، وأن أمر الله ماض في أخذ الظلام وأشباههم (فسيكفيكهم الله، وهو السميع العليم)، وأن لا أَرَب للجماعة في كراسي الحكام، إنما مرادها الحرية لها ولغيرها لاختيار وطن للجميع لا الذلة في ضيعة يعبث بها المستبدون الفاسدون.

5.   في عرض الكلمة لمجالات الاشتغال لم تقل إن ادعاءات من قبيل رمي الجماعة بـ”الطهرانية” و”الانعزالية” و”الانتظارية” ووضع الطاقات الشابة والـ”مريدين” في “المبرد” (الثلاجة)، والعيش في أحلام “الخرافية”، والرهان على تفكك الجماعة وترهل جسدها وانفضاض الأعضاء عنها، ليس بوسعها أن تسد بثقوب غربال الكذب والبهتان والإشاعات والأمنيات شمس الحقيقة الساطعة المنظورة للجميع، والتي تقول إن الجماعة جسم حي متماسك بفضل الله، وإن بناءها التنظيمي متكامل متناغم، وإن فعلها المجتمعي رصين متئد يسهم في تنمية الوعي، وتقويض أسس دولة الاستبداد وفضح الفساد، بل ولم تقل الكلمة إن توالي الأيام يؤكد مصداقية خطاب “العدل والإحسان” في رؤيتها وتحليلاتها لواقع المغرب، وإن ملفاتها القانونية والحقوقية أضحت محل “إجماع” من لدن المنصفين من الفعاليات السياسية المجتمعية، وإن كثيرا مما كانت تقوله الجماعة وتكتبه مما لم يكن يجرؤ بعضهم على التفوه به أصبح معتادا مشهورا.

6.   تحدثت الكلمة عن خدمة الوطن وعن التجند للدفاع عنه وعن قضاياه و عن نصرة المواطنين، وأبدت الشفقة على المصير الدنيوي والأخروي للحكام، بل ورجَت لهم من الله الهداية والرشاد، لكنها لم تقل إن هذا ليس “مغازلة” للنظام، ولا مجاملة أو مداهنة شعورا بالضعف، أو استجداء أو تسولا لمكاسب سياسوية استشرافا لتحولات ما في ما يشبه تراسلا مشفرا مع الدولة أو توقيعا لصك على بياض للسلطة. فنحن هنا لسنا بصدد تليين للمواقف لأن الواضح هنا أكثر من المرموز، أن الجماعة لا ترى أي تغيير يدعوها إلى أن تنصرف عن القول إن سبب بلايا البلاد هو الاستبداد السياسي للنظام الحاكم.

7.   لم تقل الكلمة إن الرهان على دق إسفين الخلاف بين أطياف المجتمع وفعالياته المناضلة وهم آخر، وإن الدعوات المتتالية لنهج الحوار والتواصل والتشارك في بناء وطن حر يسع الجميع ليس تكتيكات سياسوية بل عقيدة مبدئية. ولم تقل إن تركيزها على رسالة المحبة والرحمة للعالمين ليس تظاهرا أو مجرد خطاب طمأنة بل دينا تدين به كل دعوة صادقة. ولم تقل الكلمة إنها ليست “ساذجة” لكي لا تعي حجم التحديات والعقبات التي تحول دون وحدة مجابهة توحش الاستكبار الدولي، وإن الطريق واضح أمام اقتحام تلكم العقبات متى أدى كل من موقعه مسؤوليته في الدفع ببناء اللحمة المجتمعية والقوة الاقتصادية التي بدونها لا حرية ترجى في عالم يتلاعب به الكبار ويعيش مآسيه الصغار، ويتفرج عليه العابثون من الممسكين ظاهريا بزمام الأمور.

قد نكون حمّلنا كلمة السيد الأمين العام محمد عبادي في افتتاحه للاحتفال بالذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان  ما قالته وما لم تقله، وقد نكون وضحنا المرموز ورمَّزْنا الواضح، بيد أن الذي يمكن أن يلمسه كل محلل نزيه أننا كنا بصدد كلمة مُشعّة بصدق قائلها، عميقة في معانيها، قوية هادئة في دلالاتها، جامعة في مضامينها، واضحة في رسائلها، صارمة في مرموزاتها. وهي صفات تعيدنا إلى  كنه سمات الخطاب المنهاجي بما هو خطاب للوضوح والإحسان والمسؤولية.