الهروب.. (قصة قصيرة)

Cover Image for الهروب.. (قصة قصيرة)
نشر بتاريخ

خرجت مارية من غرفتها مسرعة، ترتدي تنورة قصيرة، وقميصاً يكشف جزءًا من صدرها وقد وضعت كامل “ماكياجها” المعتاد، ثم نادت بلهجة تغلب عليها الفرنسية:

– امباركة! هل كل شيء جاهز؟

– نعم سيدتي، الطاولة جاهزة.

– إذن نادي على نادية، ويوسف، لدي عمل هذا المساء لا ينبغي أن أتأخر.

امباركة، الخادمة القادمة من حي شعبي، مرت عليها ثلاث سنوات في خدمة هذه العائلة الميسورة، التي تسكن فيلا فسيحة في حي راق، ومارية أستاذة في الجامعة، وزوجها عادل رجل أعمال له نشاطات مختلفة، خاصة في مجال التصدير والاستيراد، نادية طالبة في كلية الطب في سنتها الرابعة، أما أخوها يوسف فعمره سبع سنوات، مرتبط بأخته ارتباطا كبيرا، حيث الأم مشغولة ببرامجها ومواعيدها كثيرا، والأب، الذي عادة لا يتناول معهم طعام الغذاء إلا قليلا، دائم الحركة والسفر. بيت تبدو عليه علامات النعمة التي ظهرت آثارها على “امباركة”، التي كانت في بداية التحاقها بالمنزل ضعيفة البنية؛ وجه ضامر، عظامه ناتئة، وعينان باهتتان، تكادان تكونان منطفئتين، غابت عنهما النضارة، لكنها تغيّرت الآن.

تحلّق الجميع حول الطاولة، وشرعوا في تناول وجبة الغذاء، وامباركة في ذهاب وإياب، تجمع صحونا وتضع أخرى، والأم تتحدث عن برنامج كل من يوسف ونادية.

– يوسف! هل لديك حصة السباحة يوم السبت؟

– لا يا ماما، بل حصة ركوب الخيل، أحبها كثيرا، حصة السباحة ستكون يوم الأحد، إنها مرهقة يا ماما.

كان الحوار جله بالفرنسية، تتخلّله بعض الكلمات بالعربية، خاصة عندما كان الكلام يوجَّهُ إلى امباركة، وحتى هذه الأخيرة تعلمت الكثير، وأصبحت ترطن، بين الفينة والأخرى، بكلمات حفظتها: Oui Monsieur , Oui Madame , Ok. كانت نادية تأكل بتثاقل واضح، ويبدو عليها شرود تحاول إخفاءه، وتقاوم كي تبدو في حالة عادية.

– نادية!

– نعم أُمّاه..

فاجأتها أمها كأنما أيقظتها من سبات خفيف.

– ?Qu’est ce qui te prend، ماذا عن الأمسية مع الزملاء يوم السبت؟

– لست أدري، إن كنت أستطيع الحضور فعلا، لدي أشغال كثيرة.

– هذه المرة أيضا؟! هيا نادية! ينبغي أن تروّحي عن نفسك قليلا.

أطرقت نادية رأسها، ونظرت نحو الطاولة، وهي تداعب الشوكة في يدها، تقلِّبُها في الطعام، ولا ترفع منه إلا القليل، ثم تمتمت قائلة:

– سأحاول.

لم يكن يخفى على الأم تغيّر عادات وتصرفات ابنتها، منذ بضعة أشهر، لقد أصبحت تتحاشى حضور تلك الحفلات الراقصة التي دأب أقرانها من شباب وشابات على تنظيمها بين الفينة والأخرى، وقد تحدثت مارية إلى زوجها يوما حول الموضوع خاصة عندما أسرت إليه أنها رأت نادية يوما خارجة من الغرفة المخصصة لمباركة، لأجل استراحتها والقيام بـ”طقوسها الدينية”، ردّ الأب بابتسامة تنم عن سخرية واستعلاء ظاهرين:

– طقوس؟! لا، لا، لا أظن، نادية فتاة مثقفة، منفتحة، تحب الحياة، وتعشق العيش في مباهجها.

وبعد نقاش طويل، واستعراض حالتها والتغيُّر الذي طرأ على برامجها وهيأتها وسلوكها، تساءل الأب عن إمكانية عرضها على طبيب نفسي، واستحضرا كثيرا من الأسماء المعروفة والصديقة في تخصصات متعدّدة، داخل المغرب وخارجه، ثم أجّلا الموضوع إلى حين مفاتحتها والتحدّث إليها.

تعرفت نادية على فتاة محجّبة اسمها حكيمة، ترتاد نفس الكلية، ونفس الصف، فتاة من عائلة متوسطة الحال، فتاة دائمة التبسّم، خلوقة، خدومة، لا تتردد في مد يد العون لأي طالب أو طالبة، حيث تتميّز بذكاء متميّز، وجدية كبيرة، وكان البعض يقصدها لأجل التهكُّم والسخرية، وكانت تتجاوز عن ذلك، ولا تشعرهم بشيء، وكانت نادية من هؤلاء، حيث كانت تتساءل باستغراب: كيف لمثل هاته الفتاة أن تصبح طبيبة ناجحة؟! وكيف ستنصح المرضى بالإقبال على الحياة والتمتّع بها؟!

مرّت الأيّام والأسابيع والشهور، سقطت فيها حواجز نفسية كثيرة، وتراجعت الأحكام الجاهزة، واقتربت نادية وحكيمة من بعضهما البعض أكثر، وكانت لهما فرصة التعارف والتحدث أكثر، خاصة أن نادية كانت تقلّ حكيمة في سيارتها الخاصة، في كثير من الأحيان، حين انتهاء حصص الدروس، وبدأت نادية تنفتح على عالم آخر لم تكن تدري عنه شيئا، ومع مرور الأيام أصبحت تصلّي، وتعلّمت الأذكار والصلاة على النّبي، وأخفت ذلك عن والديها، لعلمها أنهما لن يتقبّلا الأمر بسهولة، وهي التي تعرف نظرتهما إلى صنف من الناس هم مجرد “متزمّتون”، “جهلة”، “ماضويون”، وكانت نادية نفسها تنخرط في هذا الأمر متحمّسة، منتقدة، مستنكرة، وكان الكل يضحك ويقهقه بسخرية ظاهرة ورضى تام عن الذات عندما كانوا يستعرضون بعض طرائف هذا الصنف من الناس، وكثيرا ما كان أخوها يوسف يردّد بابتسامة بريئة كلمة كانت تتردد في الحديث: Fanatiques.

كتبت نادية يوما وهي في غرفتها: “والدي العزيزين، Chers parents، لأوّل مرة أتذوّق كلمة “عزيزين” إذ أحس بخيط خفي يصل القلب باللسان، فأحسست بحلاوة الكلمة على لساني، وقد كنت أردّدها دون التفات إلى معانيها، ولما علمت أن هناك  إله يجازي على الخير وعلى الشر، وأن المآل إليه، أصبحت لحياتي معنى، وأيقنت بالمعاد، بعد التيه والاضطراب، والانغماس في حياة اللهو والملذات، التي كلما غصت فيها ازددت حيرة وقلقا، لم أكن أعرف مصدرهما، رغم ما يبدو من مظاهر “السعادة” التي تتراءى للبعيد. والديّ الكريمين، آه لو جرّبتم، لو ذقتم نزرا يسيرا مما ذقت، آه ! كيف لو جلستم جلسة ذكر أو صلاة على رسول الله. آه يا أماه، مللت ابتسامات المعارف الصفراء، رجال ونساء، من كل الأعمار، في هذا الوسط، سئمت ما يُحكى عن والدي ومغامراته داخل البلد وخارجه، وفي البيت يسمعك كلمات الغزل التي عادة ما يتبادلها الفرنسيون فيما بينهم.. آه يا أُمّاه !..”.

وكان يقاطعها أخوها أو أمها، فتطوي الورقة وتخبئها في ثنايا كتاب، على أن تعود إليها في فرصة أخرى.

في المساء كان كل شيء عاديا، كانت طاولة العشاء نصف مجهّزة، ومغطّاة بثوب شفّاف، بالكاد يكشف عن محتويات بعض الأطباق، كانت امباركة، قد جهّزتها قبل العودة إلى منزلها.

كان المكان هادئا، لا تكاد تسمعُ فيه ضجيجَ وسيلةِ نقل، أو تجمُّعَ شبابٍ عاطلٍ مهمَّشٍ في ركن من الأركان يتعاطون المخدرات، أو ثرثرة للجيران على الأبواب.

بعد غروب الشمس، بساعتين تقريبا، سُمِع محرّك سيارة الوالد “عادل” وهو يركنها في المكان المخصص، دخل البيت حاملا محفظة جلدية كبيرة، يظهر من حجمها أنها مملوءة أوراقا وملفات، متأبطا معطفه، دلف، وألقى التحية، وسأل عن يوسف، أخبرته زوجته أنه تناول عشاءه والتحق بغرفته، غدا سيستيقظ باكرا.

على طاولة العشاء تبادل الجميع أسئلتهم المعتادة: الدراسة، والعمل، والبرامج…

كان عادل يجيب باقتضاب ظاهر عن الأسئلة، ويطوي الكلام طيا، على غير عادته، وهو الذي كان يأخذ حصة من الكلام هامة، للحديث عن مشاريعه وأرباحه وصفقاته ومعارفه.

لم يكن ذلك يخفى على أحد، خاصة مارية زوجته، بعد العشاء صعد عادل إلى غرفته متثاقلا، تبعته مارية، تقاذفها أسئلة كثيرة: العمل…؟ الصفقات…؟ الأرباح…؟ مشاكل…؟ ضغوط…؟ دخلت الغرفة وجدته مستلقيا على الأريكة، مصوبا عينيه إلى أسفل، في شبه وجوم.

بادرته بسؤال كان ينتظره:

– عادل! ما بك اليوم؟ تبدو في حالة مريعة، هوّن عليك! فما كل…

قاطعها على الفور:

– لا لا يا سيدتي، ليس ما تظنّين، إنها نادية.

– نادية؟! ما بالها؟ هل حدث مكروه؟ قل! هل…؟

قاطعها مجددا، وأصبحت نبرة صوته ترتفع شيئا فشيئا.

– لقد أحرجني بعض معارفي، حيث سألوني عن ارتداء نادية للحجاب خارج البيت، ظنا منهم أنني أعرف، يا للهول! لقد أصبحت أضحوكة ومسخرة، هل تعلمين أنت؟!

– ماذا؟ لا، لا يمكن، لا بد أن في الأمر سوء تفاهم!

قام من مقعده، ونزل السلم وهو يردد: “سأكلّمها، لا بدّ أن أعرف حقيقة ما يجري هنا”، تبعته مارية وفي عينيها حيرة، وفي رأسها اضطراب لم تعد تدري ما تفعل.

– نادية!

– نعم أبي.

كانت لا تزال في المطبخ ترتب بعض الأواني.

– تعالي إلى هنا حالا!

أسرعت نادية نحو أبيها وهي تعيد ترتيب ملابسها، ثم بادرها بالسؤال دون مقدمات:

– نادية! هل ترتدين الحجاب خارج البيت؟

أطرقت رأسها، وتفاجأت بالسؤال، لم تكن مستعدة لهذا الموقف المباغت. صاح في وجهها:

– !Répondez, bon sang

أجابت بصوت خافت، وبسكينة ظاهرة، وقد أطرقت برأسها إلى أسفل.

– نعم أبي، هو كذلك.

جحظت عينا عادل وازدادتا اتساعا واحمر وجهه، إذ لم يكن يتوقع إجابة بهذا الوضوح و”الإصرار”. انتابته موجة من الصياح، كمن فقد صوابه، وهو يهزّها من كتفيها، ويدفعها ثم يسحبها، وهو يردد كالمجنون.

– كيف تجرئين؟!

ثم رفع يده وهوى بها على خدها الأيمن، صفعة ارتجّ لها المكان الساكن الهادئ، تسمرت الأم في مكانها، ووضعت يدها على فمها، لتكتم صرخة كادت تنطلق من أعماقها، وهي تقلّب النظر ما بين ابنتها وزوجها، لا تدري ماذا تفعل؟

ساد المكان سكون مخيف، وسالت دمعتان على خدي نادية، لم تمسحهما، وبقيت جامدة في مكانها، ثم انسحبت بهدوء وهي تردد: “آسفة يا أبي! آسفة يا أبي!”.

في غرفة النوم، وبعد هدوء نسبي للعاصفة، لامت مارية زوجها على تصرفه، وأوضحت له أن هذا الأمر لا يليق بعائلة مثقفة، منفتحة، متفهمة، مذكّرة إيّاه بما تحدثا عنه سابقا، عن عواقب وخيمة كان ضحيتها شباب وشابات، نتيجة تصرف الوالدين، وصل في بعض الأحيان إلى هجرة البيت أو الانتحار..

مرّ الليل بطيئا طويلا، وجثم الظلام على الفيلا دون نية الرحيل، تقلّبت الأم في الفراش كثيرا، لم يغمض لها جفن، وفي رأسها يدور أكثر من سؤال، في حين كان عادل بجانبها، يغطّ في نومه، لا يسمع إلا شخيره بين الفينة والأخرى، يكسر رتابته الهدوء الثقيل الذي خيّم على البيت.

بعد مضي ثلثي الليل أو أكثر بقليل، انسلّت الأم من فراشها برفق كيلا توقظ زوجها، واتجهت نحو غرفة نادية، اقتربت بهدوء، فتحت باب الغرفة برفق، أطلت برأسها نحو فراش نادية، لم تتبيّن جيّدا، أضاءت المصباح، شهقت شهقة كادت تزهق روحها، تسمّرت في مكانها، جحظت عيناها، كاد الدّم يتجمّد في عروقها، بعد لحظة استجمعت قواها، ورجعت مسرعة إلى غرفتها، أخذت تحرّك زوجها بيدين مرتعدتين، وهي تردّد بصوت مضطرب شبه خافت كي لا تحدث ضجيجا.

– عادل! عادل! استيقظ! قم! يا للهول…!!

استيقظ عادل مذعورا وهو يلهث.

– ماذا؟ ماذا؟ ماذا دهاك؟!

– نادية، نادية. لم أجدها، أووه يا ابنتي!

خرجا مسرعين معا، عادا إلى غرفة نادية، قلّبا الفراش، نظرا خلف المكتب، خلف الباب، كان يبحثان، في كل ركن من الغرفة، وكان الاضطراب واضحا جليّا في تصرفاتهما، بحثا في كل حمامات المنزل، لا شيء. شرعا في المرور على كل غرفة من غرف الفيلا، لم يجدا شيئا.

تنهّد عادل تنهيدة طويلة وأطلق زفرات متتالية، أحس بشيء يحترق بداخله، صعد مذاق الرماد إلى فمه، وتمتم بلغة يملأها اليأس والندم، وكأنه يخاطب نفسه:

– يا إلهي! يا للمصيبة! هل تكون فعلتها حقا؟!

في طريق عودتهما وهما يجرّان أرجلا أصبحت ثقيلة لا تريد مغادرة مواقعها، مرّا على غرفة امباركة، فتحا الباب في حركة يائسة، أضاءا مصباح الغرفة، لمحا خيالا في ناحية الغرفة، تسمرا في مكانهما، تبادلا نظرات الحيرة والدهشة، تجمّدت الكلمات في أفواههما، لقد كانت نادية مستغرقة في سجدة طويلة عميقة، في خشوع لم تشعر معه بما يجري حولها.

أطفئا المصباح، وأعادا إغلاق باب الغرفة بهدوء، وقصدا غرفتهما، والأم تردد في نفسها:

– يا له من هروب! يا له من هروب! يا له من هروب غريب!