مقدمة:
كثيرا ما يختلط عند الناس اختيار التصرف الصحيح والتعامل الملائم إزاء الظلم؛ فهل نحتج ونواجهه بالعبارات الجارحة ولا نرضى بالهوان، أم نقاوم بالقوة ونرفض الذل، أم نصبر ونحتسب ونكل الأمر إلى الله دون أيما رد فعل. فهذا يتهم الآخر بالاستسلام والسلبية، والآخر يسمه بقلة الصبر وبالانفعال الغضبي المنافي للتؤدة.
فما هي التؤدة؟ وكيف كانت على عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ومتى تؤدي وظيفتها التربوية والدعوية؟
1 ـ المفهوم:
التؤْدةُ، سَاكِنَةٌ وَتُفْتَحُ: التَّأَنِّي والتَّمَهُّلُ والرَّزانةُ، وما في معناها من الحلم والصبر. ورد في لسان العرب: “والتَّأَيِّي: التَّنَظُّر والتُّؤَدة. يُقَالُ: تَأَيَّا الرجلُ يَتَأَيَّا تَأَيِّياً إِذَا تأَنى فِي الأَمر؛ قَالَ لَبِيدُ:
وتأيبت عليه ثانيا
يتقيني بتليل ذي خصل
أَي انْصَرَفَتْ عَلَى تُؤَدةٍ مُتَأَنيَّا” 1.
حينما نتأمل في هذه المعاني نجد أنها من الأخلاق العالية التي يتحف الله بها من أحب من عباده، فقليل من الناس من يصبر لله ويحلم لله ويتحمل الناس ويتغافل.
وقد حث الله تعالى على الصبر ودعا إليه في كثير من الآيات البينات، فقال سبحانه وتعالى داعيا رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الصبر بل إلى الإخلاص في: واصبر وما صبرك إلا بالله (النحل: 127). وقال تعالى: واصبر لحكم ربك (الطور: 48). وأثبت عز وجل محبوبية الصابرين: والله يحب الصابرين (آل عمران: 146) وأكد أنه معهم: إن الله مع الصابرين (الشورى: 43) وجعل الصبر من عزم الأمور: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (الشورى: 43).
أما في السنة فإن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم عد التؤدة من خصال النبوة في قوله صلى الله عليه وسلم: “السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة” رواه الترمذي عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه وقال: حديث حسن غريب، ورواه الإمام أحمد ومالك وأبو داود بنحوه.
2 ـ التؤدة في السيرة النبوية
من أروع مناهج التربية على التؤدة وعلى الصبر ما جاء في أحداث صلح الحديبية، ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم عسر عليهم أن يقبلوا بالشروط التي عقدها الرسول صلى الله عليم وسلم مع المشركين حين أجلوا لهم العمرة للعام القابل. جاء في سيرة بن إسحاق “قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، أَخَا بَنِي عَامِرِ ابْن لُؤَيٍّ، إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا لَهُ: ائْتِ مُحَمَّدًا فَصَالِحْهُ، وَلَا يَكُنْ فِي صُلْحِهِ إلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنَّا عَامه هَذَا، فو الله لَا تُحَدِّثُ الْعَرَبُ عَنَّا أَنَّهُ دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا. فَأَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلًا، قَالَ: قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ. فَلَمَّا انْتَهَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ فَأَطَالَ الْكَلَامَ، وَتَرَاجَعَا، ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ. فَلَمَّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْكِتَابُ، وَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوَ لَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوَ لَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ، الْزَمْ غَرْزَهُ ، فَأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ عُمَرُ:وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوَ لَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:أَوَ لَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ قَالَ:أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي! قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ:مَا زِلْتُ أَتَصَدَّقُ وَأَصُومُ وَأُصَلِّي وَأُعْتِقُ، مِنْ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ! مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ، حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا” 2.
علم الفاروق أنه كان عليه أن يقابل أمر الصلح بكثير من التؤدة فاستغفر وتصدق وصلى عسى أن يكون موقفه خيرا.
وفي السيرة شواهد كثير على حلم رسول الله وصبره.
لكني أستدرك وأقول: أليس في السيرة ما يبين مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم للظلم وتصديه للطغيان مما لا يتنافى مع التؤدة؟ أليس في السيرة استثمار الرسول صلى الله عليه وسلم للفرص التاريخية لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
نبقى دائما مع السيرة ومع نفس الحدث وهو صلح الحديبية، فقد نقضت قريش العهد ولم تحترم شروط الصلح. يحكيَ ابْنُ إسْحَاقَ قائلا: ثُمَّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ، وَبِمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إلَى مَكَّةَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ: كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ لِيَشُدَّ الْعَقْدَ، وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ. وَمَضَى بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى لَقُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِعُسْفَانَ..
لم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم مكتوف اليد وإنما استثمر الحدث وتوجه إلى مكة فاتحا جاء في سيرة ابن إسحاق: “وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَهَازِ” 3.
3 ـ الوظيفة الدعوية للتؤدة
لا شك أن الذي أنعم الله عليه بصحبة الصابرين الذاكرين سينال من بركة التؤدة خيرا كبيرا، به يستطيع أن يواصل الطريق ويخوض غمار الجهاد واقتحام معركته، طلبا لرضى الله ونيلا الأجر والثواب، ولأهمية هذه الخصلة في التغيير جعلها الإمام المجدد – رحمه الله تعالى – من الخصال المنهاجية، تندرج في ظلها مجموعة من الشعب كما ورد ذكرها في الأحاديث النبوية الشريفة المؤطرة لعمل المؤمنين في مسيرتهم الجهادية: “رتَّبَتْ قدرة الله العزيز الحكيم في الآفاق وفي الأنفس أن النتائج لا تأتي قبل المقدمات، وأن الصيف لا يأتي بالثمرات وأنَّ الزروع لا توتي حصيدها قبل مطر الشتاء وشمس الربيع، وأن الناس لا يستجيبون لداعي الله ولا يدخل الإيمان في قلوبهم ولا تتألف صفوفهم إلا مع الوقت والصبر وطول المعاناة. ولذلك كانت التؤدة من أهم خصال النبوّة، وكانت أسوةُ: ولقد كُذِّبَتْ رسل من قبلك فصبروا على ما كُذِّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله سنة النبيئين وسنة من يتبعهم بإحسان إلى يوم الدين 4.
لا ينبري للتغيير المنشود الموعود بالقرآن والسنة إلا من تربى على الصبر وضبط النفس وجعل الله له قلبا يتسع لقبول الآخر بزلاته وأخطائه، ولا يتصدى للتربية إلا من أكرمه الله بسعة الخاطر ورحابة الصدر “وله من القدرة على مواجهة الواقع المكروه، ومن قوة ضبط النفس، وقوة الصبر والتحمل، وقوة الصمود والثبات على خط الجهاد مهما كانت القوى المعادية متألبة. إنما يستطيع أن يربي جيل الإنقاذ رجال لا تستخفهم نداءات الباطل، ولا يلعب بهم الهوى، ولا يتحركون على الظن والهواجس” 5.
لذا لا مناص لجند الله الذين يتصدون للدعوة ويرجون امتلاك قلوب العباد من أن يكون لهم نصيب كبير من شعب هذه الخصلة المباركة التي تنم عن صحة التربية وسلامة القصد تأهيلا للسير المريد لوجه الله الصابر لله في درب الدعوة إلى الله: “نريد لجند الله أن يتقدموا صفا واحدا منضبطين صابرين، وأن يكون كل منهم قد تحلى بخصلة التؤدة ودرب عليها حتى تمكن. نريد أن يقف كل منهم حيث هو، وحيثما تنقل، موقف الداعية الذي لا يثنيه عن غايته وأهدافه تنكر الناس لدعوته وإذايتهم له” 6.
خلاصة القول
التؤدة خصلة نبيلة نادرة ما دامت تأخذ روحها من سيرة رسول الله صلى الله عليه الموسومة بالرحمة. تحتاج منا الأمة إلى الصبر والأناة كما تحتاج منا لبناء صرح الفتح إلى استثمار الفرص التاريخية لنشر الدعوة وتبليغ الخير وهزم الأعداء.